(الكشاجميون) في الفيس بوك !
توفيق أبو شومر | فلسطين
نجح مارك زوكربيرغ بمستحضره الأثيري، (الفيس بوك) في كشفنا على حقيقتنا، فقد جرَّدنا من أغلفتنا الخارجية، استخرج منا فكرنا، نثرنا فوق بساطه الساحر عُراةً مكشوفين، أبرز جوعنا، وشغفنا، وعطشنا، وبحثنا الدائم عن الزعامة، والرفعة، والعلو. والسمو، أخرج نقائصنا، وعوراتنا، جعلنا نعترف بكل مكنونات أنفسنا، بلا غرف تعذيب، وبلا خبراء في فن التحقيقات الشرطية، ثم وثَّق اعترافاتِنا بالصوت والصورة!
إن إدمان تصوير النفس، ونشر الصور الشخصية، العائلية، والاجتماعية قد يكون مرضا من أمرض الألفية الثالثة، وقد يكون فايروسا أصاب جهاز مناعة المجتمعات الضعيفة والمقهورة، وقد يكون محرضا على الثورة والتمرد؛ وقد يكون في الوقت نفسه علاجا تنفيسيا للخروج من الكوارث، والمصائب، والأمراض المحيطة بنا من كل الجهات، كالفقر ، والقهر، والإحباط، والتشاؤم، وقد يكون بديلا عن التمرُّد، والثورة، والمطالبة بالحقوق.
أظهر ولعنا بالألقاب التي تسبق أسماء الأفراد في شبكات التواصل الاجتماعية، وفي عناوين الندوات واللقاءات، مثل: الأستاذ، البرفسور، الدكتور، والأديب الكاتب، والشاعر الصحفي، والمختار، والإعلامي الصحفي، ومهندس المهندسين، بالإضافة إلى ألقاب السياسيين، بدءا بالجلالة، والرفعة، والسمو، وانتهاءً بالمعالي، والأمناء العامين للأحزاب، وأعضاء المكاتب السياسية، كذلك الحالُ مع مديري الجمعيات، وأعضاء الحركات والنقابات، وغيرها من المسميات.
لا يعرف مدمنو هذه الألقاب أن ألقابهم تؤثر سلبا عليهم، وتثير الامتعاض والاستهزاء، فإغراق الصفحات بالصور الشخصية، وعشرات الأخبار اليومية الساذجة، يؤدي إلى نتيجة عكسية تماما، وهي أن يكره المتابعون هذه الشخصية، مثلما يحدث في الدول الديكتاتورية، حين تكره الشعوب حاكميها لأن أنصار الحاكم يفرضون نشر صور الحاكم الأول وهو في ريعان شبابه، في شوارع الوطن، وفي مراكز الحكومة!
(الكشاجميون) الذي ابتدعته عنوانا لمقالي منحوتٌ من اسم شاعرٍ فلسطيني، عاش فترة من حياته في مدينة الرملة، ثم صار شاعرا في بلاط، سيف الدولة الحَمْداني، اسمه الحقيقي، أبو الفتح محمد بن محمود السندي، توفي في القرن العاشر الميلادي، غير أن اسمَه الأكثر شهرة من اسمِه الحقيقي هو(كشاجم)!
كان شاعرا مبدعا، لم يكتفِ بأن يكون شاعرا، بل كان أديبا، وفلكيا، وفيلسوفا، فاختصر كل تلك العلوم في حروف؛ (كشاجم)، مستغنيا عن اسمه الشخصي.
فالكاف الأولي تعني: كاتب، والشين، تعني شاعر، والألف بعدها تعني: أديب، أما حرف الجيم، يعني: جدلي، أما الميم فتعني: منطقي.
هذا العلَّامة لم يلحق بمارك زوكربيرغ، فلو أنه عاش في عصرنا، لما أسمى نفسه بذلك، لأننا تفوقنا عليه، وأصابنا طغيانُ الغرور لدرجة، أن شخصا لم يكتفِ بتطريز عدة ألقاب أمام اسمه الشخصي، بل إنه يبدأ الألقاب بتعبير (نحن) الذي يشير إلى الفخامة، والسمو، والرفعة. قديما قال الشاعر:
إني رأيتُ بني العباسِ، قد فَتحوا
من الكُنى والألقاب أبوابا
|||
فشبَّهوا رجلا، لو عاش أوَّلَهم
لم يُرضَ به للدار بوَّابا
|||
قلُّ الدراهمِ في أيدي خليفتِنا
فأنفقَ في الأقوامِ ألقابا.
وقال ابن رشيق القيرواني، يذم شيوعَ ألقاب الفخامة عند حاكمي العرب في الأندلس، حين افتنَّ الأندلسيون في نحت ألقاب، معتمد، مقتدر، معتصم، مستعصم، مهدي، ومهتدي، ناصر، مستنصر، منصور.. قال:
مما يُزهِّدُني في أرضِ أندلسٍ
ألقابُ مُقتدرٍ فيها ومُعتــدِ.
|||
ألقابُ مملكةٍ في غير موضِعِها
كالهِرِّ يحكي انتفاخا صَولةَ الأسدِ.