يومَ تشهدُ الحِجارةُ والرُّبعان
سهيل كيوان | فلسطين
لكل كارثة وجهان، فقد أسفرت حرائق أحراش القدس عن كشف الرِّباعات التي بناها الفلاحون الفلسطينيون عبر القرون في هذه الجبال.
الرِّباع والجَمع رُبوع، البعض يجمعها رُبْعان، وهو الموضع الذي يُنزلُ فيه في وقت الربيع، ويقول الفلاح إن العنزة ربّعت، أي أنها أكلت من الربيع حتى امتلأ بطنُها، ونقول في حديثنا اليومي، فلان مْرَبِّع مثل الثور، أي أن جسمه ممتلئ وقويٌّ من كثرة الطعام.
الرِّباع في لغة الفلاحة، هو الفجوة الترابية المستوية في الجبل أو الهضبة بين سلسلتين من الحجارة والصخور، وفيه تزرع الأشجار المثمرة مثل الكرمة واللوزيات والتين والزيتون والتفاح في المناطق الأكثر ارتفاعًا مثل شمال فلسطين، والربوع أو الرُّبعان يكون تقسيمها الطبيعي مثل المدرّج من قمة الجبل حتى سفحه.
كثيرًا ما كنا نصادف فلاحاً وحيداً أو مع زوجته في البرِّية، ملتصقًا في التراب، ويعمل عمل النَّملة، يملأ حُرجَه أو قفّته بالحجارة التي ينظِّف التربة منها ويسكبها ليبني منها سلسلة تشكل حَداً وحاجزًا بين رباع وآخر، هذه السِّلسلة المتواصلة تمنع تسرُّب الأتربة خلال السُّيول من الجبل إلى الوادي وتحفظها، فهي تكسر قوة تدفُّقِ المياه من أعلى إلى أسفل، لتجعلها قنوات وشلالات ضعيفة.
تربة الربعان خصبة جداً، لأن وجهها يتقلّب ويتعرض للشمس، هكذا تصبح الجبال والمعاصي جنّات نعيم.
بعض الفلاحين حفروا فجوات في الصخور وبينها، لاستخدامها كمأوى يخفون فيه المنكوش وكوز الماء وسكّة الحرث، وللاستراحة، كذلك فلا بد من وجود بئر، أو سَيْح، لجمع مياه الأمطار لري المزروعات في الصيف.
قد يكون عرض الرِّباع أربع خطوات ويتسع ويضيق بين مستوى وآخر، وقد يصل إلى عشر خطوات وأكثر، وقد تتخلله صخرة هنا أو هناك، في عروتها كرمة، أو لوزة، أو بُطمة.
من يمر في طريق جنين نابلس القدس في الربيع، يرى فلسطين في أجمل ثيابها، حيث تكون ربعان اللوزيات مزدهرة بالأبيض والزهري والبرقوقي بكل أطيافه.
الربّاعات مبنية باليد، لأن الآليات لم تكن قادرة على وصولها، ولهذا تُحرث بمحراث تجرُّه بهيمة، أو ينكشها الفلاح والفلاحة بفأسيهما.
تُعرف كثير من هذه الرُّبعان بالوَعْرة، تصغيراً لكلمة وَعَر، وتأكيداً على أنَّ ما كان وعِراً أصبح مدجّناً وفيه أشجار ونباتات مثمرة وأرض صالحة للزراعة. وعادة ما تكون على اسم أحد الأجداد، فإذا قلت وَعْرَةْ فلان، فهذا يعني أنه هو المؤسس وهو أوَّل من تعب فيها.
تحاول بعض برامج عبرية إظهار المستوطنين متمسِّكين بالأرض وعاشقين لها، بعضهم يلعب دور الفلاح فيقتني بعض الماعز والدّجاج، ويخرج إلى المرعى، كي يعيش في الطبيعة.
لكن من المستحيل أن ترى مستوطناً يؤسِس رِباعًا أو يحفر بئراً بفأسه ويديه، المستوطن يحتل الأرض ويستلمها جاهزة، ويعتبر أن هذا النعيم من حقِّه ما دام أنه أقوى بسلاحه، وليس عنده مشكلة بإطلاق النار على من حفر البئر، ومن ذلل الصخور والمنحدرات، وجعل ترابها تِبراً.
سلطات الإحتلال توصل للمستوطن أنبوب المياه، وخط الكهرباء والهاتف، وتبني له بيتاً سطحه من القرميد والخشب المائل، وتشق له طريقاً بالجرافة العملاقة.
آباء (الكيرن كييمت)، جاؤوا من روسيا وشرق أوروبا، ولهذا غرسوا أشجاراً هي ليست ابنة المنطقة، كذلك فلا علاقة لسطوح القرميد المائلة التي تبنى منها معظم بيوت المستوطنات بمناخ فلسطين، إنها تبدو مثل الفضيحة.
السطح المائل كي لا تتراكم الثلوج من فوقه فتثقل عليه، فأين هي الثلوج المتراكمة في فلسطين؟ وخصوصًا في مناطق الأغوار والساحل؟ الثلوج لا تتراكم سوى مرة كل بضعة عقود، وإذا هطلت الثلوج فحضورها مثل الضيف الخفيف، يلقي التحية ويشرب قهوته ويختفي بسرعة.
السُّطوح الخشبية والقرميد تمتصُّ الحرارة، ولهذا تحتاج إلى مكيّفات طيلة ساعات النهار، لأن المكوث داخلها في الصيف مثل دخول السَّاونة، وهي باردة في الشتاء، يوجد أمر ما غلط في هذه الأشجار وفي هذه البيوت.
البيت الفلسطيني الأصلي ابن هذه البلاد، من حجارة المنطقة ومن طينها، للأسف أصبح نادراً، إلا في بعض قرى الضفة الغربية، هو البناء الأمثل لطقس بلادنا، بارد ومنعشُ في الصيف، ودافئ في الشتاء، إضافة إلى أن العائلات كانت تستغل السُّطوح المستوية للنوم والسَّهر تحت سقف السَّماء، ووضع بعض الغِلال عليها مثل حُزم نباتات السِّمسم أو كبوش التّبغ أو عصير البندورة وبَليلة القمح ومساطيح التِّين لتجفيفها.
ما فعله الإستيطان هو عملية تزييف وتشويه لصورة فلسطين العمرانية والحرشية والشَّجرية.
لقد لعب الصنوبر الأوروبي دوراً سياسياً في إخفاء جهود الأجيال الفلسطينية التي طوَّعت الجبال واستخلصت الثمار من الصخور، ودوراً أحقر في إخفاء معالم مئات القرى العربية الفلسطينية التي هُدمت وهُجِّر أهلها، فلا يغرنك جمال هضبة ما وتقول إنها مثل غابة سويسرية، فَتَحتَ طبقة أوراقها الإبرية اليابسة السَّميكة تختفي حجارة بيوت هُدمت ومراتع طفولة أوْحشَت، وأضرحةُ ورُفات من كانوا يومًا هناك.