قراءة في قصيدة الشاعرة التونسية جميلة عبسي “اختلفت..عني”
محمد المحسن | تونس
تصدير: الشعر خطاب يتجاوز حدود الذات الضيّقة،ليعبّر عن هموم الجماعة قبل أن يصوغ أوجاع الإنسان في المطلق…(محمد المحسن)
ليست سهلة على الإطلاق مهمة الغوص في معاني قصائد الشاعرة التونسية المتألقة: جميلة عبسي فهي لاتكتب لمن يظن أن ظاهر النص وحده كفيلا بأن يجعله متذوقا وقارئا عاشقا لما تنثره من قصيد..فلابد لمن يريد بلوغ مرتبة التآلف والإنسجام مع نصوصها التي تتسم بالقوة من أن يتسلح بمهارة غواص عليم بفن تأويل الرؤى الأدبية التي ترفض أن تكون مجرد جمل عابرة بين رواق القول الشعري..
ببراعة وقداسة تتعامل شاعرتنا مع فن تمرير الرسائل وكأنها برديات كنوز ثمينة،لإيمانها الأكيد أن للشعر كرامة لاتقبل أن ينتقص من قدرها،عزيز الغاية صانع مجد وحياة وليس وسلية ترفيه وتسلية،فهو رمز الهوية وهو لغة الوجدان،وتاريخ الإنسانية..لذلك نلحظ وبوضوح ومن خلال تتبعنا لتجربتها الشعرية المشهودة، ترفعها عن المواضيع المستهلكة التي تستهوي الكثير من الشاعرات،وعامة القراء الذين ينأون بأنفسهم عن كل خطاب مسؤول يحتاج عمقا وإنصاتا شديدا لمعاني الحياة.. وقد استطاعت الشاعرة التونسية جميلة عبسي أن تحقق التوازن النفسي اللغوي وفق صيغة الحاضر الغائب حيث بقى الانزياح يثبت الاستعارة مع البقاء على حركة الصورة الشعرية المتنقلة، وهذا جعل الصورة الشعرية مركبة على قدر المشاعر النفسية داخل النص.أي أن بؤرة النص بقيت تشع منها وتنسق شتات الرؤى..
قصيدتها التي بين يدي والمعنونة ب”اختلفت عني”عميقة ومدهشة وبإيقاع لغوي تصويري يداعب الذائقة الفنية للمتلقي..
وأنا أهم بالكتابة عن القصيدة النثرية المتفردة (اختلفت عني) لهذه للشاعرة المبدعة (جميلة عبسي) لم أخطط كثيرا لما سأقوله عنها،فلست من عشاق الاوراق المسودة، سواء تعلق الأمر بقراءة كهذه او قصيدة او نص قصصي،مسوداتي داخل رأسي،وقلمي غربال افكاري،وطرقي في الحديث نفعية القصد،أكره اجترار الأحاديث،وأنأى بنفسي عن الغموض،وكثرة الاستشهادات،ولقد أعلنت هذا مرارا فيما سبق وكتبته،فالغاية عندي تقريب النصوص وتدليلها من عامة القراء،ولست أضع نفسي موضع الإنابة عن أحد،ولا ألزم قلمي بأكثر مما يطيق،ولا أرغمه على تقليد غيري،إنما أدندن حول النصوص التي تستفزني،بما أعلم وما أراه مجديا،حتى أنني لا أتخير بين طول وقصر ما سأكتبه، فإن النص الأصلي هو من يمنح أسباب الحديث،فلا يكون التوقف إلا بإحساس خالص بالكفاية،ورب جملة واحدة يتفجر من خلالها مجلد عملاق، ومجلد عملاق تعصره فلا تخرج منه إلا بجملة،كما أن طريقة التقسيم الشكلاني الثابت للدراسة لاتوافق رؤيتي، لاعتقادي أنها ترغم النص الاصلي على الخضوع إلى قوالب،منها ما يؤدي إلى التكرار ومنها ما يفرض السكوت عن أمر ما يظلمه السكوت عنه،كما أن النصوص الأدبية حين تخضع لموازين وترسيمات شكلية تعاني تباينا في توهج النص يختلف بين القوة والضعف عاطفيا، فإذا الحشو شبه مفروض حتى وإن تم المعنى،فيكون وجوب الالتزام بالشكل المرسوم مسبقا،مكلفا على حساب نفس المبدع ،فيأتي بما يبدو اضافة لاطائل من ورائها،فيكون فعل التمديد او التقليص ظالما للقول مؤذيا للإحساس،وماينطبق على الإبداع ينطبق على النقد،فكلاهما أدب ومن شروطهما جمال العبارة وجدية الخطاب، ولا ألزم أحدا بهذا ،بيد أني مصر أنه إذا قال بيت القصيد كل شيء،كان كافيا للإستدلال على قصدية النص أو حتى فنيته، بيد أن هذه الأخيرة في غالب الوقت تتطلب فعلا نوعا من التتبع والدراسة الكلية للإبداع، خاصة فيما يتعلق باللغة والتجنيس والشكل..
وإذن؟
الكلمة الشعرية إذا،ليست مجموعة حروف مجموعة مع بعضها البعض لتشكل كلمة ؛إنها مجموعة من الأرواح المتشابكة تبعث فينا الروح و الثورة .
إن الكلمة الشعرية-دوما في تقديري-كالينابيع التي تتفجر في سطح الارض،تتشكل وتتخمر عبر سنين طويلة ثم تشق وجودها الى حيز الوجود .
والشاعرة التونسية المتميزة -جميلة عبسي-التي تقف أمام ذاتها،وتحاول الكشف عن القيم النبيلة في الانسان باستخدام لغة لها اتجاهان:واحد للاشارة،والآخر للتعبير عن انفعالها بما حولها.وإذا صحت المقابلة،فإننا أمام صورة فنية تحتم الالتفات إليها والتمعن فيها،كمثل ما تحتم ذلك الأسئلة في الرياضيات والفيزياء وسواهما من العلوم بمعنى آخر،فإنه يجب علينا إذا ما رغبنا في تحليل هذه القصيدة،تقديم تحليل شامل يوجب البحث عن الانسجام بين أجزائها جميعها،دلاليا وتركيبيا وجماليا،وذلك لاكتشاف المعنى الحقيقي ومعرفة آلية تمظهره في اللغة الشعرية..
و قبل أن أنهي هذه القراءة خلف كلمات”اختلفت..عني”لا بد أن أشير الى أن الشعر هو عمل لغوي بالأساس و من لا يكون له حس مرهف باللغة و عشق لها،لا يمكن أن يتعاطى فعل الكتابة و الشاعرة جميلة عبسي تسعى دوما الى الإنفتاح على أفاق تعبيرية جديدة تفصح من خلالها عن تجربتها الإبداعية و تقول غائر مشاعرها بأناقة لغوية لافتة .
لنستمتع بهذه القصيدة التي تحمل إمضاءها:
اختلفت عني
“مع الحمى التي غرزت بقلبي
وضعت رغم ضعفي كأسي
قلت : هيت لك ..
خذ من جوفي علّته
أترك لي بصمة الشهد
على أفواه الفراشات
قد فاض بي الشوق لهيبا..
وأوصدت الحمى رعشات المساءات
لا أدري إن كانت رعشتي
من مقلتي الفجر
أم من رقصة الدهشة في الأحشاء
سل سيف غدرك من فوهة صدري
أكتم مواويل الأوجاع..
أدلقني نورا بنهر الأشواق
حرفا يتقهقر على راحتيك
قطرات شهوة يائسة
تتلاقح
تغرق في مرارة كأسك
بطعم القبلات
طعم عسل بملوحة ماء العناق..
لا تطلق الرصاصة الأخيرة
مازال لدينا وقت للعناق !!
لا تنصب مقصلة الموت الآن..
مازلت أحضن سبابتك بين شفتي!!
أقرأ فيك شهوة الفطام
و صدري كجذع نخلة
هزت انشطاراته صدمة الوداع
كغد يتألم
يروي غيمة بيضاء باكية
على أكتاف القدر السحيق..
الريح تأتي من زغاريد الأفاعي
و رقصة الموت تنوح و تموج
بين مجرات الفراق ..
كم من عاشق تعثر بحب
و مات بحمى عشق
كوعد من أساطير القرابين
عاشقا أبيا ..
على جبينك أصب ظلال الندى
دفئا و قبلا مبللة ..
بيني و بينك صلاة من الوله الجائع
و برزخ يتضور شوقا
لذكريات الوجود
مخنوقة النبضات
كدمع بلا لون أزهرت شيبا
كنفس بلا رائحة انتحرت
في سراب عينيك
نبت حنيني بموطني
في ضلوع الفجر
يعلّم الأرض جهاد البقاء ..
يلملم الشيب خيوط الدهر
بوجهي موكب الوجع
و قافلة الثلج تلحن
للخلود لحن الوفاء !!
أين أنت حين بكى وطني
دما ..
أين أنت حين كنت أنتظر عودة أبي
من صلاة العيد ..
و لم يعد
أين أنت حين مدت الأمهات راحتهن
للحناء..
لا تسألني فقد ضيعت طريقك
إلى قلبي
و شوارع حلمك غيمة لم تكمل
تبرجها..
اختلفت عني ..
لم أعرفني”
جميلة عبسي
(تونس في 21 /7/2021)
على سبيل الخاتمة:
نص شعري منبثق من حرارة التجربة الحارقة،والأسئلة المقلقة،والمرجعيات المعرفية المتنوعة،حيث يتميز بالتجاور الشعري،أي بالارتباط بشعرية الإيقاع المتخلّق من رحم شعر التفعيلة،وبالحفر في أرض الشعر الرحبة الجغرافيات والمنعرجات.وهي تجربة تزاوج بين المعرفة الفكرية والعاطفية،بين الواقعية المدثّرة بالخيال الجانح صوب المجهول..
وهنا أختم: الشاعرة التونسية الفذة جميلة عبسي شاعرة حب وحرية تنحاز لأنوثة الحياة بوصفها الرحم التي تتشكل فيه الأجنة..أجنة الابداع..
قراءة نقدية جميلة و رائعة وتقديم راقي من الصحفي أستاذ محمد المحسن لشاعرتنا المبدعة القديرة أستاذة جميلة عبسي التي عوّدتنا بكتابتها الراقية الهادفة حيث أنّها كانت تلامس بقلمها العديد من المواضيع المختلفة عبر نصوصها . و نتمنى لشاعرتنا القديرة و لصحفينا القدير كل التوفيق و التألق و الإبداع إن شاء الله
الروعة والدقة في التعبير وسلاسة المعاني والصورة الشعرية كلها تجمعت في أشعارها .. تمنياتي لها شاعرتنا بمزيد من النجاح والتفوق وتحقيق مبتغاها ..