فكر

خطبة حجة الوداع.. نبذ العنصرية ودعوة للتعايش

الجانب الحضاري في السيرة النبوية

د. طارق حامد

إن وقفة النبي صلى الله عليه وسلم على صعيد عرفة في حجة الوداع، لم تكن خاتمة رحلة فحسب، بل كانت افتتاحية عالم جديد. كانت تلك الخطبة – بكلماتها النورانية – دستورًا كونيًا، وخطة إلهية لإعادة تشكيل العلاقات الإنسانية من جذورها. لننظر إليها بعين القلب والبصيرة.

أولاً: هَدْمُ صَرْحِ الْعُنْصُرِيَّةِ مِنَ الْأَسَاسِ
لقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم في مشهد مهيب،أمام جمع غفير من البشر، مختلفي الألوان والألسنة والأوطان. فقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِأَعْجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى”.

تأملوا هذا الهدم الجذري:

1. وحدة المصدر (الرب): لقد استند إلى أصل عقدي لا يقبل جدلاً: وحدانية الخالق، وحقيقة مطلقة وهي وحدة الأصل البشري (آدم) عليه السلام. فإذا كان المصدر واحدًا، فكيف يكون التفاضل باللون أو الجنس أو الأرض؟ إنه تحويل المسألة من نقاش تاريخي أو اجتماعي إلى حقيقة وجودية راسخة.
2. إبطال كل معايير التفاضل الجاهلية: لقد عدد الألوان والأنساب (عربي، أعجمي، أحمر، أسود) ثم ألغى تفاضلها جميعًا. كان هذا صدمة حضارية لمن يعيشون في مجتمع القبيلة والعصبية، حيث الفخر بالأنساب هو القانون الاجتماعي السائد. لقد حول المعيار من خارجي (لون، نسب، مال) إلى معيار داخلي روحي أخلاقي: التقوى – وهي سر بين العبد وربه، لا يراها الناس إلا بثمارها من الخير والعدل والصلاح.
3. العمومية والشمول: الخطاب كان: “يا أيها الناس”. لم يقل “يا أيها المؤمنون” فقط. كأنه يخاطب الإنسانية جمعاء عبر العصور، يضع القانون الأبدي للتعايش البشري.

ثانيًا: تَأْسِيسُ مُجْتَمَعِ الْمُواطَنَةِ وَالْعَهْدِ
لم تكن الدعوة سلبية(نبذ العنصرية) فقط، بل كانت إيجابية ببناء نظام اجتماعي جديد قائم على المواطنة والحقوق المقدسة. فقال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا”.

هنا تأسيس لمفاهيم عميقة:

1. قدسية الإنسان ذاته: دمه (حياته)، ماله (كسبه وعمله)، عرضه (كرامته وشرفه). هذه هي مقومات الشخصية الإنسانية. جعلها النبي ﷺ حرامًا، أي محفوظة بحرمة دينية، لا بقانون أرضي فقط. ثم قرن حرمتها بحرمة الزمان (يوم عرفة، شهر ذي الحجة) والمكان (مكة المكرمة) – وهي أعظم الحرمات عندهم. فكأنه يقول: الاعتداء على إنسان كاعتداء على قدسية هذا اليوم وهذا المكان!
2. العدالة الشاملة: هذه الحرمة تشمل الجميع داخل المجتمع. فالمسلم وغير المسلم في ذمة الدولة الإسلامية له نفس الحرمة. لقد طبقت هذا عمليًا في عهده ﷺ وعهد الخلفاء من بعده، حيث كانت دية اليهودي أو النصراني كدية المسلم، وعرضه محفوظًا. هذه هي المواطنة الحقيقية.
3. المجتمع ككيان عضوي: العبارة “عليكم حرام” تخاطب الجميع كمسؤولية جماعية. ليست المسؤولية على الحاكم فقط، بل على كل فرد أن يحفظ دم أخيه الإنسان وماله وعرضه. هذا يبني مجتمع الثقة والأمان، شرط أساسي لأي تعايش سلمي.

ثالثًا: التَّعَايُشُ.. لَيْسَ تَغَايُبًا بَلْ تَكَامُلًا
لم يدعُالنبي ﷺ إلى تعايش سلبي (نعيش جنبًا إلى جنب بلا مشاكل)، بل إلى تعايش إيجابي قائم على الاعتراف بالآخر و صون حقوقه و التعاون على البر. لقد كانت وثيقة المدينة – التي سبقت خطبة الوداع – التطبيق العملي لهذا المبدأ، حيث نصت على أن “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”، وأنهم “أمة واحدة من دون الناس” في مواجهة العدوان الخارجي، وأن بينهم النصر على من دَهَم يثرب. التعايش هنا تحالف حضاري، وعهد مشترك، وتنوع في إطار وحدة المجتمع السياسي.

الْجَانِبُ الْحَضَارِيُّ الْعَمِيقُ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ
إن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو ثورة حضارية شاملة:

· نقلة من القبيلة إلى الأمة: حوّل الانتماء من ضيق الدم والعصبية إلى سعة الدين والقيم الإنسانية المشتركة.
· نقلة من الثأر إلى القانون: أقام الدولة على أساس سيادة القانون (حرمات الله) بدلاً من قانون الغاب والثأر القبلي.
· نقلة من التفاخر بالماضي إلى التنافس في الحاضر: حول معيار القيمة من مجد الأسلاف إلى تقوى الفرد وعمله الصالح.
· نقلة من مركزية العرق إلى مركزية الإنسان: جعل الإنسان – أي إنسان – محور الاحترام والتكريم.

لقد كانت خطبة الوداع “إعلان استقلال الروح الإنسانية” من كل عبودية زائفة لإنسان مثلها. كانت بذرة تلك الحضارة العظيمة التي قامت على مبدأ: “لا كرامة لإنسان دون إنسان، ولا ازدهار لأمة على أنقاض أمة”.

إنها رسالة خالدة تعلن أن الاختلاف في الخلق آية من آيات الجمال الإلهي، وليس لعنة للفرقة والعداء. وأن طريق التعالي الحقيقي هو بتزكية النفس وخدمة البشر، لا بالافتخار بجنس أو لون. فهي خطاب للنفس البشرية في كل زمان: اتحدوا على أساس إنسانيتكم المشتركة، وتنافسوا في فضاء الخير والصلاح، واعلموا أن أكرمكم هو الأتقى، والأتقى هو الأكثر نفعًا للناس، بغض النظر عن اسمه أو لونه أو أرضه.

تلك هي عظمة الرسالة المحمدية. ذلك هو عمقها الحضاري الذي ما زال ينتظر من يعيد اكتشافه ليكون نورًا يهدي الإنسانية الحائرة اليوم بين نار العنصرية البغيضة، وبرودة التعايش السطحي الخالي من الروح والمودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى