الأدب الإنساني في مواجهة الصفحات الصفراء وأدب الضغينة
بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
يعتبر الأدب أكثر الفنون التصاقاً بالحياة الإنسانية وأقدرها على الامتاع والإبداع، وأحبّها إلى الاذواق وأشهرها انتشاراً بين الناس، وهذا ما يحدِّد مسؤولية الأدباء أمام هذه الثقة الممنوحة لهم من فئات المجتمع المتنوعة والمختلفة. فلا أدب دون هدف ورسالة، يصبوا إليها الأدباء والمبدعين، فالأديب الحر مسؤول أمام ضميره عما يقدِّم من إبداعٍ وعما يكتب. كون الأدب شكلٌ من أشكال التعبير الإنساني عن مجمل أفكار الإنسان وعواطفه، وأفكاره وهواجسه وتطلعاته. بأرقى الطرق والأساليب التي تتضمن أنواعاً من النصوص النثرية، إلى الشعر المنظوم أو الشعر الموزون، والمكتوب في كثير من الأحيان بلغةٍ عالية بليغةٍ وبأسلوبٍ باذخ. وأحياناً أخرى بلغةٍ شعبية سهلة وبسيطة واسعة الانتشار. فالكلمة لها دورٌ كبيرٌ في بناءِ المجتمعاتِ، وأكثر ما يظهر حقيقة المواقف العصبية والاختناقات والأزمات،وصانع هذه الكلمة أديب يملك أدواته الإبداعية بقوة، ويملك وعياً وفهماً وعقلاً نضراً، متسلِّحاً بالوعي والمعرفة والإيمان بالهدف المنشود .
ونتيجةً لسهولةِ التعبيرعن الواقع ولواعجه، وزيادة وانتعاش وسائل الإعلام وتطورها، وانتشار وسائل التواصل الإجتماعي بشكلٍ كبير،،كانت قد انتشرت ثقافة شعبية على نطاقٍ واسع، وأصبحت الحامل لمجل قضايا وفعاليات الحياة اليومية للناس. لكنها أصبحت خارج سياق التعبير اللغوي البليغ والرصين، وخارج سياق أساليب اللغة العربية الباذخة التي لا تُبَذُّ، واتسمت بالهبوط والانحدار والتهاوي،فنشأت فكرة الوقوفِ في وجه هذا النوع من التعبير الثقافي والأدبي الهش، الذي يحمل الكره والبغضاء والضغينة ضد الآخر، وصار يُطلًقُ عى هذا النوع من الأدب بــ (الحَجْر الثقافي)، تلك الفكرة تم طرحها على نطاقٍ ضيِّق جداً قبل انتشار فيروس كوفيد 19 (كورونا) وإجراءات (الحَجْر الصحي)، فانتشرت فكرةُ (الحَجْرُ الأدبيّ) الذي يعني بشكلٍ واضحٍ الرقابة الصارِمة على الكتب والمجلات والصحف الصفراء،والمنتج الأدبي الرديئ، وتسعى إلى مصادرة الغث منها خوفاً من انتشار كتابات تتسم بالإكراه وبث الخوف والمكر والخداع، وتنشر الخرافات وتثني على أعمال السحر والشعوذة وتدعو لتداولها والعمل بها،أُطلقَ عليها (كتابات جُرثوميّة) لأنّها تؤثِّر سلباً في أدبنا وثقافتنا العربية الرصينة العريقة. كما يمكن أيضاً أن نُطلق فكرة (الحَجْرُ الثقافي) على كلّ نصٍ أو فعل ثقافي أو صحيفةً تقوم بدور(الجرثومة)التي تنخر الجَسَد السليم وتفتكُ به، وهي الأكثر بشاعةً لأنّها تَصدُرُ عن نفوسٍ مريضةٍ، نفوس صفراء تتمازج مع الصحافة الصفراء.لأنَّ (الكتابة الجرثومية) التي تضطرنا لأن نُجري عليها (الحَجْرُ الأدبيّ) و(الحَجْرُ الثقافيّ) هي كتابة ظالمة وقاهرة، كتابة كريهة، تتسمُ بالتعصُّب والعنف والارتكاس إلى الوراء، واستغلال القارئ بصورةٍ بشعةٍ من خلال لغةٍ مسطَّحةٍ ملحَّفة بالعديد من العناوين الشعبية المواربة والمخادعة، تصدرُ عن نفوسٍ مريضةٍ عفنة، وعن غيظٍ وكرهٍ دفين أسوَد ومظلم.
لكن في المقابل هناكَ كتابات وأدب شعبي كُتِبَ بلغةٍ سهلةٍ. ولغة اتسمت في كثيرٍ من الأحيان بالسهل الممتن،غير متناسين ما كَتَبهُ الكاتب التركي عزيز نيسين من أدبٍ ساخر مغلَّف بقماشة الإبداع الراقي، وهو أدبٌ إنسانيٌّ نقدي قوي له أهدافه النبيلة، هذا الأدب ما زال حياً حتى اللحظة الراهنة. مثالاً على ذلك:1ـ لا تنسى تكة السروال، 2 ـ أسفل السافلين، 3 ـخصيصياً للحمير، 4ـ صراع العميان، 5 ـ الطريق الطويل،6 ـ الفلهوي زوبك ، 7 ـقطع تبديل للحضارة، 8 ـ مجنون على السطح .
أيضاً هناك حيِّز أدبي واسع جداً من روايات الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ، الذي يتضمَّن الكثير من الأدب الشعبي من الحارة المصرية مثل: 1 ـ القاهرة الجديدة ،2 ـ خان الخليلي ،3 ـ زقاق المدق، 4 ـ السراب 5 ـ رادوبيس 6 ـ اللص والكلاب 7 ـ المرايا.. إلخ .
أما الأديب والكاتب الفلسطيني غسان كنفاني فقد قدَّم أدباً شعبياً بامتياز، حيث تركَّزت معظم أعماله على المخيَّم الفلسطيني والحياة اليومية القاسية فيه، ومعاناة الشعب الفلسطيني تحت الإحتلال الصهيوني، ومعاناة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم وأرضهم وتشرَّدوا في بقاع الأرض، مثل: 1 ـ موت سرير رقم 12، 2 ـ رجال في الشمس، 3 ـ أرض البرتقال الحزين، 4 ـ عائد إلى حيفا، 5 ـأم سعد.6 ـ الشيئ الآخر. . إلخ.
أما الكاتب المصري محمود السعدني الذي امتاز أدبه بأنَّه أدب شعبي، فقد كانت كتاباته متنوعة بين اللغة العربية الفصحى الرصينة التي لا تُبَذُّ التي تدور في الصالونات الأدبية رفيعة المستوى في القاهرة.واللغة الشعبية البسيطة في المقاهي، ومن أعماله: 1ـ مسافر على الرصيف، 2ـ السعلوكي في بلد الإفريكي، 3ـ ملاعب الولد الشقي، رحلات إلى إفريقيا. 4ـ وداعاً للطواجن، مجموعة مقالات ساخرة. 5 ـالموكس في بلد الفلوس: رحلة إلى لندن.6 ـ رحلات ابن عطوطة.7 ـ عودة الحمار 8 ـ على باب الله إلخ .
كما حفل الأدب الشعبي بوجود كتّاب وشعراء شعبيين من أمثال أحمد فؤاد نجم الذي قدّم أجمل القصائد الشعرية باللغة العامية واللهجة المصرية مثل: 1ـ يعيش أهل بلدي. 2 ـ مصر يا أمة يا بهية. 3ـ استغماية. 4ـ هما مين واحنا مين.5 ـ تذكرة مسجون إلخ .والشاعر عبد الرحمن الأبنودي ومن أشهر أعماله: 1 ـ الأرض والعيال. 2 ـ الزحمة. 3 ـ عماليات. 4 ـ جوابات حراجي القط. 6 ـ وجوه على الشط. 7 ـ الموت على الإسفلت. إلخ. والشاعر (بيرم التونسي) واسمه الحقيقي محمود محمد مصطفى بيرمالحريري. من قصائده الشعرية التي غنتها كوكب الشرق السيدة أم كلثوم : 1 ـ أنا في انتظارك. 2 ـ هو صحيح الهوى غلّاب.3 ـ حبيبي يسعد أوقاته. 5 ـ شمس الأصيل . 6 ـ القلب يعشق كل جميل .إلخ ومن قصائده مع فريد الأطرش 1 ـ أحبابنا يا عين. 2 ـ بساط الريح . 3 ـ هلّت ليالي. ومع محمد عبد الوهاب محلاها عيشة الفلّاح. إلخ. وغيرهم من شخصيات يختزنون في ضمائرهم شعبية شعرية رائعة، وهم رموز ثقافية لا تقل في قدراتها الأدبية ومعناها الرمزي عن أدباء وكتَّاب النخبة. فكان الشاعر الشعبي أحمد البناني، والشاعر الشعبي نجيب الذيبي، والشاعر الشعبي علي شوشان، والشاعر الشعبي أحمد ملاك. والشاعر الشعبي الليبي علي الرقيعي. كما كتبوا الشعر الشعبي العمودي، والشعر الدرامي، والشعر الزهيري، والشعر الأبوذية، والشعر العتابة إلخ .
هؤلاء عاشوا في زمن ثقافي عربي ذهبي في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ومن الصعب جداً أن يُطلَق عليهم عبارة (الحَجْزُ الثقافي) أو (الحَجْرُ الأدبيّ) لأنَّ ما يكتبونَهُ من نصوصٍ نابعةٍ من صفاء نفوسهم ونقاء سريرتهم ، وبياض قلبهم ، وتتسم بالقدسية والطهارة، والحفاظ على مكونات أمتنا العربية وتراثها الثر الغني وثقافتنا العربية العريقة التي نعتز به أيما اعتزاز، كتابةً تخلو من الخيانة والحقد والكراهية والضغينة. والتلفيق والكذب. كما لا يوجد فيها استعراض أو ابتزاز لأيٍّ كان .
نكتب في هذا الشأن وهذا الكلام لأنَّنا نتألم بعمق عندما نقرأ نصوصاً حاقدة صفراء تنفث الكراهية والبغضاء والسم الزعاف، هدف هؤلاء الكتَّاب والصحفيين تهديم رموز الثقافة العربية،ويتقاضون مقابل ذلك الدولارات التي تصلهم من خارج وطننا العربي،هدمها هدم مكونات ثقافتنا وأدبنا وتراثنا وقيمنا العليا والتنكر لما أنجناه من حضارة إنسانية على مر الأزمنة والعصور. وهذا يحتاج إلى شرح وتفصيل كبيرين. هناك كتّاب يتسلَّقون على الفكر والأدب كما يعتاشون كالطحالب والإشنيات على الشعربخاصة والأدب بعامة، يكتبون خواطر سطحية إنشائية لا معنى لها ولا مدلول إيجابي، لا مبالون بردود الفعل السلبية التي تُطلق بحقهم، بل يجابهون بوقاحة الجاهل، ولؤم الغافل. وكره الظلامي، وينفثون السم الزعاف ضد من يقف في وجههم. أقل ما يُقال في حقِّهم (الحَجْرُ الأدبي) و(الحَجْزُ الثقافي)، روائيون بالجملة، يسيرون وفق ما رُسِمً لهم في العديد من الدوائر، جعلوا من العديد من الشخصيات الباهتة والرمادية في الكثير من الأحيان ثيمة متداولة في السرد العربي الحديث والمعاصر،هؤلاء يروِّجون للتخلّف والرجعية والعودة إلى الماضي الأسود السحيق، وينشرون ثقافة الخوف والهلع والكراهية، وثقافة الإحباط واليأس، ويتلاعبون بالعقول، وما يمكن أن يقف في وجههم سوى وضعهم في (الحَجْرِ) و(الحَجْزِ) ونوقف تلك المهزلة ، وتلك النصوص الصفراء المبتذلة. بكتابة المزيد من النصوص المضادَّة التي تعبق بالجمال والحب الإنساني النقي الشفاف والعطاء والخير ، واللغة العربية الباذخة الرصينة .مقتدين بما ورد في القرآن الكريم: (فأمّا الزَبَدُ فيذهَبُ جُفاءً، وأما ما يَنفعُ الناسَ فيمكث في الأرضِ، كذلك يَضرِبُ الله الأمثالَ) سورة الرعد ـ الآية 17 .