عبودية المراغمة
د. طارق محمد حامد
الحمدُ لله، والصلاة والسَّلام على رسولِ الله، وبعد: فإنَّ المسلِم في هذه الحياة الدُّنيا يتعبَّد لله – عزَّ وجلَّ – بالنيَّة الخالصة، ويتقرَّب إلى الله – سبحانه وتعالى – بالوسائلِ والأخْذ بالأسباب، كما يتعبَّد إليه سبحانه بالفرائض والغايات، سواء بسواء، وكلُّ خُطوة يخطُوها المسلِم في طاعة الله هي عبادةٌ، إذا صحَّت النية، وكلُّ حرَكة وسكنة في سبيل الله لنُصرة هذا الدِّين، وإغاظة الكفَّار، والنَّيْل من أعداء الله – هي عبادةٌ صادِقة تضع المسلِم في مصافِّ المحسنين؛ ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [التوبة: 120].
وتلك العبودية أَطلق عليها الإمامُ ابن القيِّم – رحمه الله -: عبودية المراغمة، أو معركة المراغمة، وأطلق عليها بعضُ العلماء في العصْر الحديث مِنهاج الإغاظة. وهي عبوديةٌ من نوْع خاص، لا يُدركها ولا يُدرِك أثرَها كثيرٌ من المسلمين، ولكن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – سلَك هذا المنهاج مع مُشْرِكي قريش في فتْح مكة حينما حشَد الجيش الإسلامي كلَّه للمرور من طريق ضَيِّق لإظهار عزَّة الإسلام، وحتى يقع في قلوبِ المشركين، فتُخبِت قلوبهم لله، فيؤمنوا بالله ورسوله، ويقدِّموا الولاءَ والطاعة لله ورسوله عنْ يدٍ وهم صاغرون، والمواقف كثيرة في سيرة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – لإظهار عزَّة الإسلام؛ ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].
وهذا أميرُ المؤمنين عمر بن الخطَّاب – رضي الله عنه – يقرُّ معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – حينما بالَغ في إظهار مظاهِر المُلْك مِن اتخاذ الحاشية، والملبس الفاخِر القشيب، ومواكب الولاية في حِلِّه وتَرْحاله، ورغم أنَّ ذلك ضد شدَّة عمر ومنهجه في محاسبة الولاة على الصغير والكبير، والنقير والقِطمير، إلا أنَّه أقرَّه على ذلك حين ولايته على الشام، لقُرْبها من الرومان؛ وذلك لإظهار عِزَّة الدولة الإسلاميَّة الفتيَّة في مواجهة الطوفان الرُّوماني؛ لكَسْر شوكتهم، ومحاولاتهم المتكرِّرة للثأر من المسلمين الذين فتَّتوا إمبراطورية الرُّوم التي جثمت على شرايين الحياة طويلاً، حتى أنهكت العبادَ والبلاد، وصدَّت عن سبيل الله.
واليوم فاجأَنا الغربُ بطوفان من نوع آخرَ لم نعهدْه منه بعْدَ انحسار الحملات الصليبيَّة الصريحة على العالم الإسلامي وبيت المقدس، وهو ثورةُ العلم والتكنولوجيا، فلقد جاء إلينا الغرْبُ بحملات أخرى مِن حملاتهم، ولكنَّها في صورة ثورة عِلميَّة، فغزا بها العالَم الإسلامي بعْدما غزاه بالغزو الفِكري بالماركسية والبهائية، والماسونية والعلمانية، وأخيرًا الصِّهْيونيَّة العالمية، جاء الغرْب بهذا الزخم الهائل من البحْث العِلمي، والثورة العِلمية والصناعية، وجِئْنا نحن ببضاعة مُزْجاة، لا تُسمِن ولا تُغني من جوع، وما تمَّ هذا للغرْب إلاَّ لأنَّهم بدؤوا من حيثُ انتهى الآخرون من المسلمين وغيرهم، لا مِن حيث بدأ الآخرون.
لقد نهَض الغرْب مِن غفْوتهم، ونحن غَطَطْنا في سُبات عميق، فالغرْب لديه معاهدُ للبحث العلمي، ويُنفقون على البحْث العلمي ما يعادل ميزانية العالَم العربي أجمع في هذا المجال، ونحن نُنفِق ببذخ على الفنِّ والفنانين، والرِّياضة ولاعبي الكرة، أكثرَ منهم في ذلك، هم لدَيْهم قنوات للعلم والترفيه أيضًا، ونحن لدَيْنا قنوات لتفسير الأحلام والموضة، وغيرها مِن قنوات الإسفاف والميوعة، وغيرها من القنوات التي تشيع الفاحشة في الذين آمَنوا.
وفي تصوُّري أنَّنا لن نتقدمَ حتى نعودَ للمعين الصافي لدِيننا الحنيف، وثوابتنا وأخلاقِنا السامية، وأن نهتمَّ بالبحْث العلمي، وتكون لدَيْنا رؤيةٌ حقيقيَّة مستقبليَّة، ونظرة أخرَى شاملة لأوْضاع التعليم في العالَم العربي، ونتخلَّى عن أسلوب التلقين في التعليم، وحتَّى نرتاح من (فوبيا) الشهادات المهدرة للطاقات والأوقات، والجهود، مثل الثانوية العامَّة وغيرها في مِصر والعالَم العربي، وفي الوقت نفسه نتبنَّى المنهج العِلمي التجريبي، الذي أخَذ به المسلمون الأُول، فكان فيهم ابنُ سينا وأبو بكرٍ الرازي، والفارابي والخوارزمي، وكان البيروني والخليل بن أحمد، وغيرهم كُثُر من نوابغِ هذه الأمَّة القِمَّة، وذلك حينما كنَّا خيرَ أمَّة، وأخذْنا بأسباب التقدُّم والنبوغ.
وفي تصوُّري، ما زالتِ الأسباب قائمةً، وما علينا إلا أن نُفجِّرَ هذا المارد الإيماني القاطن فينا، وما علينا إلاَّ أن نأخُذَ بالأسباب نفسها، التي أخَذَ بها الغرْب، فنعود كما كنَّا خيرَ أُمَّة أُخرجتْ للناس، وتكون أُمَّتنا أستاذةَ الدنيا، تُعلِّم العالَم بأَسْره، ويَتلقَّى منَّا العلم، ويتعلم الأخلاق، وما ذلك على الله بعزيز؛ ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41].
وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد، والحمد لله ربِّ العالمين.