الغَندورة

بقلم : محمد فيض خالد

وقفت قُبالة مرآتها تدقِّق نظرها في محاسنها الصّارخة، تميل برأسِها تتجاوب وهمس فتنتها الذائبة بين ثيابِها الرَّخيصة، تُضاحِك خيالها المُتَراءي في وهجٍّ، سرعان ما تُريق كؤوس جمالها شهية تنطق بآياتِ الجلال، ببطئ تتحسّس خصرها المفتول ، تستنطِق طراوته ، تنثني في ميوعةٍ ، فترسل لواحظها اللّينة متفجرة بكُلِّ غوايةٍ، تفلتت بعينها جهةِ النّافذةِ المُطلّة على حارتها الفقيرة، استندت بذقنها لترسل من صدرها تنهداتٍ حارقة، وفي استعبارٍ، قالت: كيف يطاوعني قلبي دفن هذا الحُسن بين حُطَام الفقر، أليسَ صَنعة الله وهبته، أليسَ من الواجبِ التّحدّت بتلك النِّعمة، ثم كركرت بصوتٍ عالِ فيهِ براءة الطّفولة، وسذاجة الصّبا والاستهتار، لم تكن “وداد” ابنة “جمالات” بائعة الجبن لترضى بحياةٍ ملؤها الفقر والعَوز، وهي من هي أنوثة وجمال، يساورها هذا الخاطر المُخيف؛ أن تعيش كأمّها حبيسة لا تعرف من شواغلِ دنياها، إلّا صفائح الجبن وروائحه الفَجَّة، تبرقُ في كوامنها آثار رفيف أملٍ هزيل، تبدو مبدّدة الخاطرِ، شيء ما يهصر قلبها، يدفعها لأن تُعلِن عن ثورتها، تتفجّر تلك الهواجس في نفسها المُشبعة بالفورانِ ، كلّما اختلت بنفسها، تُعَاود كلمات الإطراء المُلتَهبة تَرنُّ في مسامعها؛ تَتعبّد بآياتِ بجمالها الأخَاذ، في الحقيقةِ لم يكن ليستميلَ هذه الغادة الحسناء معسول الكلام، بعدئذ استغنت بأحلامِ الثراء عن كُلِّ قولٍ، تَشبُّ بين جوانحها آمال مستقبلٍ باسم ، يفتح ذراعيهِ مُعلِنا ميلاد مليكته المنتظرة.
سارت كأنثى كاملة الإغواء، مستعينة بجمالها عن كُلّ رزانةٍ، ذهبت توسلات أمها المنكسرة أدراج الرِّياح، حتى تهديدها بثَأرِ أبناء عمومتها الذين غلت عروقهم بدماءِ النَّخوة، لم تفلح في كَبح جِماحها، لم تكن بمنأى عن عينِ “سرحان” ابن شيخ البلد المُستهتر، حينَ عَقدَ رهانه في خُصِّ “عبدالمولى” حين أقسَمَ برأسِ أمه، أن تكون “وداد” مِلكهُ وحده، حتى وإن بَذلَ في سَبيلها آخر قرشٍ في محفظتهِ ، شُغِل باله بصيدهِ الثمين ، لا همَّ لهُ إلّا الإيقاع بها ، تلتمع عينيهِ لنظراتها الجريئة، بدأ الأمرُ هَزلا ، وبمرورِ الأيام ما جعله قلِقا مهتاجا ، طافح النفس خافِقَ القلب ، يزدحم ذهنه بالفكرِ ، تلقاه بابتسامةٍ جسورةٍ ونظرة جريئة، تُنعِش فؤاده ، غير أنّها تعود سريعا فتلطمه بصدودٍ مصطنع ؛ يجرح عِزّته ويهين كبريائه، ويجعل منه أضحُوكةً بينَ رفاقهِ ، فهي وإن تعمّدت ملاعبة الشّباب بنظراتها الحَارِقة ، بيد أن أمانيّ الغَدّ الهانئ ، تتراءى لها عشيةً وضحاها ، فتخال نفسها مُنعّمة في عشِّ الزّوجية، مع فتى أحلامها ، و” سرحان” في نظرها إن هو إلا غرير مدلّل، أفسده مال أبيهِ، وقضى عليه ميراث أمه، لا يُطمئن إلى جانبهِ ، مرّت الأيامُ كئيبة حسيرة على صاحبنا، تتوزّعه الشواغل، يخرج من فمهِ الكلمات مضطربة واهية، مُبلّلة بالأسى، تنصهر في كيانهِ الأشواق، تفورُ في عروقه دماء الطيش والتهور، دَلَقَ في جوفهِ عشرات من كؤوس شرابه، وقف يترنح ذاتَ مرة، وذيول الفجر تلوّح في الفضاء الفضي الممجوج متوعدا: اقسم برأس أمي لأقتلنها..
لم يدر الجميع أن حُبّ “وداد” قد لامسَ قلبه، وتحول الرّهان لعشقٍ وهيام ، يشعره بالظمأ المُحرِق يكوي مهجته، يتتبّع أنفاسها في كُلّ شيء حوله، ذات صباح صحت القرية على فاجعةٍ لم تكن في الحسبان، الغندورة جثةً هامدة تشخبُ أوداجها دما، وأمها تنهد في حزنٍ دفين ، تبكي شباب المغدورة ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى