فلسفة مبسطة: اللغة ليست أداة تفاهم اجتماعي فقط
نبيل عودة | حيفا
اللوحة للفنانة الإيرانية المبدعة أرغافان خاتمى
تدرس فلسفة اللغة التفكير البشري ومناهج تطوير اللغات حسب التطور العلمي والتكنولوجي والثقافي التعبيري، ونشوء علوم وأبحاث جديدة فرضت اصطلاحاتها الخاصة على المجتمعات البشرية.
لغتنا العربية ظلت على قديمها دون حركة وتطور. التغيير الوحيد الذي فرض على اللغة كان من تطور وسائل الاعلام. نشأت لغة عربية سهلة متدفقة ممتعة هي اللغة السائدة وانا اسميها لغة الصحافة، رغم انها مرفوضة بمعظم اصطلاحاتها وأسلوب صياغتها من حراس اللغة البعيدين قرونا عدة عن حركة التطور الإنساني. مهمتهم حراسة كل ما هو قديم وغير مستعمل واذا استعمل لا يفهمه أبناء الجيل الجديد. وما عدا ذلك مجرد صياغات لا يفهما أكثر من 5% من الجمهور العربي، واشك ان من يدبلجون خطاباتهم بلغة كلاسيكية، لا يفهمها عامة الشعب رغم ان الكثيرين يسحرهم أسلوب الخطابة دون فهم مضمون المعنى.
البعض يربطها بالدين. لكن اللغة ليست لها قداسة كالدين. وكم هي نسبة العرب أصلا الذين يفقهون لغة الدين، رغم أنهم يحفظون الكثير من الصياغات الدينية.
مثلا كم هي نسبة العرب القادرين على فهم لغة القرآن والصياغات الكلاسيكية؟ حتى لغة الجاحظ الأكثر تطورا عصية على أكثرية مطلقة من الجمهور العربي. بل لغة أكثر حداثة كلغة طه حسين نجد انها عصية عن فهم أوساط واسعة جدا من الجمهور العربي. لا تقولون لي العربية لغة الدين. هذا لا يعني شيئا إلا تغريدة خارج الموضوع. العربية كانت قبل الدين الاسلامي بالتحديد. وهي لهجات تختلف من قبيلة الى أخرى ومن منطقة إلى أخرى. لدرجة تباين تبدو انها لغات متشابهة. وهذا ما جعل اللغة العربية تحمل أسماء كثيرة للسيف وللخيل مثلا وليس تحديدا.
اللغة هي ميزة إنسانية تصدر عن عقل يفكر، التفكير له قاعدة ثقافية وتنويرية. بمجتمعات تسودها نسبة أمية هائلة لا توجد قيمة للغة. بل للغات محلية محكية لا يفهمها الا أصحابها تقريبا. وهناك (حسب بعض المصادر) أكثر من 35 لهجة عربية محلية. وحتى داخل نفس اللهجة نجد فروقات شاسعة عصي بعضها عن فهم مجمل السكان.
الإنسان السليم يعي عادة ما يقول. لكننا نجد أحاديث وأقوال يطلقها بعض ذوي المراكز الدينية أو السياسية أو الاجتماعية، لا تمت بعلاقة للغة المفهومة للمجتمع بكل مركباته، وهو بسبب المسافة التي تفصل المجتمعات ضعيفة التطور عن واقع الرقي العلمي والحضاري، المقياس ليس مقياسا ماليا. بل مقياسا يتعلق بنشوء علوم وأبحات متنوعة، وتطوير المرافق الاقتصادية الحديثة. أموال النفط ليس اقتصادا ،تسمى بالاقتصاد الريعي، ويعني اعتماد الدولة على مصدر واحد للريع، وهذا المصدر غالبا ما يكون مصدرا طبيعيا ليس بحاجة إلى آليات إنتاج معقدة سواء كانت فكرية أو مادية كمياه الأمطار والنفط والغاز، بحيث تستحوذ السلطة الحاكمة على هذا المصدر وتحتكر مشروعية امتلاكه وتوزيعه وبيعه، ولا تقود للرقي الحضاري، وتاثيره على الواقع العربي سلبي جدا. وقد تشد إليها جمهورا واسعا من مميزاته ان عقله نمى على التلقين والنقل وليس على التفكير والابداع. من هنا موقفي انه يجب تجديد النحو العربي القديم والمتناقض مع المناخ الثقافي والفكري والعلمي المتطور بسرعة تقترب من سرعة الضوء.
لا يمكن الطلب من متخصصين وعلماء وباحثين عرب بمجالات علمية او تكنولوجية ان يتقنوا لغتهم بمستوى سيبويه. او حتى بمستوى متوسط. لذا نجد ان الباحثين العرب والعلماء من مجالات مختلفة، يكتبون ابحاثهم بلغات أجنبية، وفيما بعد يترجم بعضها. السبب ان لغتنا غير طيعة للعلوم، وغير ميسرة لاستعمال علمي او تقني. والظاهرة المقلقة أكثر هي هجرة العقول العربية للدول المتطورة، التي تسبب خسائر يقدرها البعض بمئات المليارات من الدولارات سنويا.
بالمقارنة بين لغتنا ولغة شقيقة للغتنا جاءت من نفس المصدر، مثلا اللغة العبرية، نجد انها انتقلت من لغة ميتة قبل 100 سنة الى لغة حية، لغة علوم، لغة تقنيات، التعامل بها أسهل بما لا يقاس من اللغة العربية وتقريبا من الصعب الوقوع بأخطاء في الصياغة. وانا لا اطرح ذلك من زاويته السياسية، بل من زاوية المقارنة اللغوية!!
المترجمون في ثقافتنا، خاصة للمواد العلمة والتقنية، يواجهون مصاعب لا حل لها في الترجمة، أحد المترجمين قال ان القواميس العربية خالية من الاصطلاحات العلمية والتكنولوجية الضرورية فيضطرون بجهد كبير ان يلائموا اصطلاحات، ويسجلوا بين قوسين الاصطلاح الأجنبي، أي من لا يتقن لغة اجنبية لن يفهم الترجمة. بينما في اللغة العبرية التي كانت ميتة، يجدون كل الاصطلاحات الضرورية والميسرة والمفهومة. وأنا واجهت شخصيا كمدير للإنتاج في الصناعات الثقيلة، الكثير من الإشكاليات اللغوية، بإيجاد تسميات للكثير من ماكينات العمل، ولتفسير عمليات الإنتاج بلغة عربية. بينما بالعبرية الأمر سهل جدا ومفهوم حتى للعمال العرب. حتى في الطب، جربوا استعمال اصطلاح طبي بالعربية وافحصوا من يفهم معناه حتى من الأطباء. وأيضا في نشاطي الثقافي، خاصة كباحث وكاتب في مجال الفلسفة مشاكل تعجيزية في فهم الاصطلاحات الفلسفية المترجمة، فاضطررت لتبسيط الاصطلاحات عبر كتابة نصوص فلسفية مبسطة صدر الجزء الأول في كتاب ولدي جزأين آخرين طرحت الاصطلاح وتفسيره السهل واضفت قصة تعبيرية ساخرة لتفسير الفكرة الفلسفية.
ما اتوقعه ان يتواصل غياب اللغة العربية عن النهضة العلمية والتكنولوجية. وبالتالي قد نجد أنفسنا بحاجة ماسة الى لغة أخرى لطرح المفاهيم المتطورة بكل المجالات، ولغة بتراجع دائم للتفاهم داخل الأطر الاجتماعية العربية.
وأنهي بأني أدعو لدق ناقوس الخطر اذا كنا حقا نغار على لغتنا وعلى تقدم مجتمعاتنا.