أدب

نصوص الشاعر عبد الرزاق الربيعي…ليل الأمس الحارس

د. عبد المطلب محمود
أكاديمي وشاعر عراقي

      من قصائده للأطفال، إلى مسرحياته وحواراته، إلى كتب السيرة والذكريات، وإلى المقالات المتنوعة وغيرها، يبقى عبد الرزاق الربيعي الشاعر المتجدد الحضور، صوتاً شعرياً يمتح من تلك الملحمة الخالدة؛ ملحمة (جلجامش) السومرية ـ العراقية حاملة الوجع الإنساني الحقيقي الدائم، ويمنح الحاضر فرصاً للتجمُّل بالشعر، بمواجهة ما يشهده من مصاعب ومتاعب ومغامرات مقلقة، ليصل بعد سبعة عشر ديوان شعر ـ لعلها أكثر قليلاً ـ إلى ديوانه الشعري الجديد (ننام ويحرسنا ليل الأمس)، الصادر من الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء، في كانون الثاني/ يناير من العام الحالي 2023.


     ومن عتبة الديوان الأولى/ ثُريّاه؛ سنكون أمام أولى المفارقات التي زخر بها الديوان، إذ ستضعنا الجملة  الإسمية (ننام) أمام حالة سكينة مفترَضة، بدالّ النوم الجماعي غير المحدد بزمن ومكان، ثم أمام الجملة الفعلية (يحرسنا) المعطوفة على الجملة الأولى، قبل أن يضيف الشاعر إليهما مفارقته المتمثلة بجملة (ليل الأمس)، المكوّنة من الاسم الفاعل المضاف (ليل) والاسم المضاف إليه (الأمس)، ولهما مجتمِعَين ما لهما من مداليل لا تحدّها حدود.
     ذلك؛ إن (ليل الأمس) سيتمظهر بمظهر الحارس لا المحروس، وسيكون الدال الزمني المضاف إليه مبعثاً لمدلول آخر مغاير، ربما تمظهر بفعل الترابط بين الزمنين بمظهر خفيّ، مدلوله الأقرب إليه (الماضي المظلِم)، فتبدو المفارقة هنا شائكة ،إن افترضنا استحالة أن يكون ليل كهذا حارساً جيداً لنوم هادئ، وما يستتبعه بالطبع من سكينة وأحلام وردية، ثم ما ينقل النائمين إلى صباح مشرق حافل بالنور والبهجة والسعادة المفترضة، كما يؤكد الشاعر هذا بنفسه، عندما ينقل في مقدمة ديوانه عن الروائي الفرنسي (فكتور هيجو) عبارة “وأصبحت السماء صافية/ كأنما غسلتها الملائكة بالليل”، وينقل عن المغنيّة الإيرانية (كوكوش) عبارة “ساعدني، كي نصنع من كلمات الحب/ بلسماً لجرح الليل”، وبالعبارتين ـ تحديداً ـ ينفتح باب مدلول أكثر تمظهراً، يزيح قليلاً مما كانت المفارقة المذكورة آنفاً قد أخفته من مدلولها الأقرب.
     ففي أول نصوص الديوان (مخاض)؛ سيحضر الزمن بأفعال أو جُمل ماضية : “قبل ورد الصباح أطلَّ/ على روحِه الخرِبة/ أغلق الأفق/ أخفى مدامعَ أنهارِه/ في جيوب الحنين../ استطالت أياديهِ…/ وانكسرت/ هدأةُ الغرفة المُترِبة/…”(ص9)، ثم : طار، قامت، بكت أُمُّه الطيِّبة، هرول الغيم، ضجّ الزقاق، حطّ البراقُ، واشتعل الماءُ، أقعى..، فشدّ الوثاقَ، …، تغطّى بثوب الظلام، تمطّى السكوت، ودارَ/ بين البيوت، ثم استدار، فالتمع الحرفُ، حفَّ الوجود، مشى/ قائداً مركبه، بعد ذاك../ أتت/ موجةٌ هاربة، مشت في حقول الضياء، غدت أحرُفاً صاخبة، قوَّضت مكتبه، قبل أن يخبرنا بأنّ:“كل ذاك جرى/ وهو في كهفِه/لم يعُد للسرير/ولم يجتزِ العتبة” (ص12)،
     ما تقدّم حدث كلّه لا في ليل (الماضي المُظلم) حسب، بل حيث جرى ذلك كله للشاعر وهو في كهف أشد ظلمةً من الليل، مكبَّلاً بقيود مفترضة منعته من العودة إلى السكينة والهدوء النفسي، ما دام شعرَ بخراب روحه أصلاً إذ استيقظ، ومنعته من اجتياز عتبة ذلك البيت ـ الليل ـ الكهف كذلك، وهذا ما سيظهر في مفتتح قصيدة العنوان، إذ سنقرأ في (ننام ويحرسنا ليل أمس) : “على السرير/ بقايا أرق كثيف/يفيضُ/على السرير المجاور/ للغيم” (ص124)، حيث يشير دال (بقايا الأرق الكثيف) إلى ما ظهر من مداليل في قصيدة الديوان الأولى (مخاض) وإن بعبارة مختلفة، وليبدو هذا العرض الذي قدّمه كله، مفتاحاً أوَّلَ دالّاً على أول مداليل ثريّا الديوان التي سبقت الإشارة إليها، فضلاً عن إنها ألمحت إلى طفولة غير آمنة بالضرورة، وفتوّة فشباب مماثللَين، دفعت الشاعر للتنفيس عن قسم منها عبر أغانيه التي كتبها للأطفال، والتي عُرف الصديق عبد الرزاق بها في مطالع حضوره الشعري، مثلما تؤكدها نصوصه في مجلة (مجلتي) وجريدة (المزمار)، اللتين كانتا تصدران من دار ثقافة الأطفال، ثم في ملحق (تموز) للأطفال، الذي بدأت جريدة (الجمهورية) بإصداره في أواخر العقد السبعيني من القرن الماضي.
     وقبل الولوج إلى عوالم الطفولة والفتوّة والشباب في نصوص الديوان، رأينا التوقف على دلالات الليل والنهارفي القصيدة “الأم”، إذ سنقف على (12) حالة دالّة لهذا الليل والنهار، أولاها : “الليلُ معارك مع الأشباح”(ص124)، ثم : “الليل جرح/ النهار ضماد”(ص125)، ثم : “الليل كوابيس،/ النهار أطياف”(ص. ن.)، ثم : “الليل كلمات/ النهار قلم” (ص126)، ثم:“الليل اسم/ النهار فعل” (ص127)، ثم: “الليل شاعر/ يسرد حكايات/ ألفِ نهار ونهار”(ص. ن.)، ثم : “آناءُ الليل،/ تحتضن نهاراً غائباً.”(ص128)، ثم: “أطراف الليل/ أطياف النهار”(ص. ن.) [أظن أطراف] وما ظهر خطأ طباعي ولا شك، ثم: “الليل محطة،/ النهار قطار”(129)، ثم : “الليل سكن،/ النهار رصيف”(ص. ن.)، ثم : “أرباح الليل،/ خسائر/ في النهار”(ص. ن.)، ليختم الشاعر نص قصيدته هذه بمقطع مفارق: “في قلب هذا الليل الطويل/ ومهجته/ننام/ ويحرسنا/ ليل أمس” (ص130).
     وثمة بين معظم هذه الدوالّ المذكورة مقاطع تحمل إشارات إلى مداليل ظاهرة، ربط الشاعر بين بعضها وبين ما سبقها، أو لم يشأ أن يُظهر هذا الترابط، مثلما سنقرأ بعد دال الليل والنهار الثالث : “من حلُم ليلي عابر/ نالت أحلام بقظتي/ كدمةً/ ظلت تؤلمني/ طوال النهار التالي”(ص125)، وسنقرأ في الصفحة نفسها بعد الدال الرابع، ما اقتبسه الشاعر من القرآن الكريم : “لم يكن للّيل أحد/ وليس له شريك/ ولم تكن له صاحبة/ ولا ولد/ لذا تدثّر الظلام”! ونقرأ بعد الدال الحادي عشر : “البعير الذي يجترُّ أيامَه/ في الليل/ أين سيُوَليّ وجهه/ في صحراء النهار؟”(ص129)، وهي مداليل شاء الشاعر أن يجعل لها من المقطع الأخير ما يُشبه الخلاصة، إذ افاد ـ حسب قراءتنا ـ من العبارة المأثورة عن الإمام علي :”الناس نيام فإن ماتوا استيقظوا”، ما دام النوم عادةً ما يقترن بالليل، فكأنّه صار بهذا المعنى حارساً مفروضاً على حيَوات بني البشر، وما أضافه إليه (أمس)، يشير بنفسه إلى مدلول الآية الكريمة : (قال كم لبثتَ قال لبِثتُ يوماً أو بعضَ يوم)( البقرة :259)، وما إضافة (الطويل) إلى الليل في مقطع الختام إلا تأكيد لحقيقة فهم الإنسان للزمن الأرضي، مثلما يبدو ظاهراً، وبعض هذه المداليل كانت ظهرت في نص قصيدة (مراجعات)، مثلما ستتمظهر عند وقوفنا عليها لاحقا.
     بهذا؛ ستكون نصوص القصائد التالية للنص الأول (مخاض)،ثم للنص السادس والعشرين(ننام ويحرسنا ليل الأمس)، وعددها اثنا عشر نصاً، محطات من عوالم الطفولة القاسية والفتوّة والشباب المتّشحة بالقلق والمتاعب والحروب وأهوالها، حتى لكأنّ الشاعر الصديق عبد الرزاق الربيعي أفاد من تجربة كتابته لنصوص الأطفال ـ مثلما ذكرنا ـ فجعل من استعادة أجواء الطفولة وعوالمها في نص: (زورق من ورق) المتعالق مع أحد أجمل أغاني الطفولة : “أيها النهرُ لا تسِرْ/ وانتظرني لأتبعَك/ أنا أخبرتُ والدي/ إنني ذاهبٌ معك”، ومن ذكريات المدرسة الإبتدائية ولاسيما درسها الأول: (دار دور)، تأسيةً لما عانى منه تالياً، حتى ختم النص بـ: “أيها النهرُ/ لا تسِر/ وانتظر../ فالصغارُ/ عادوا إلى البيت/…/ فامحُ عن القلبِ/ والريح/ والزمن المتهالك/ ما ابيَضَّ من عثرات السنين/ واشعل شموعك/ حيّي السماء/ انتشر/ في دمي/ ثم سِرْ”(صص 32 ـ 37)، بما لا حاجة بنا إلى تحليل لدوّاله ومداليله لقربها من الذهن.
     وستظهر هذه التأسية بالطفولة واضحة الملامح أيضا في نصوص: (حوافّ الطفولة)(ص56 ـ  58)، و(أوزار)(ص67)،و(مراجعات)(ص68)، بينما سيكون نص (فَناء)(ص 115 ـ 119)، أجمل خروج صوفي من عوالم الحياة المُضنية، من دون إغفال الشاعر توجيه نصِّه وجهة يطبع محمولاتها بطابع “انتشاء طفولي” إن جاز القول، أكثر منه بطابع نشوة المتصوفّة المعروفة، إذ يفتتحه بـ : “بالليل/ وجهك/ في مرايايَ النحيلة/ أجملُ/ ولفرط وجدي/ صرتُ/ من نفسي الخجولةِ/ أخجلُ”، ثم : “فإذا نجومُ الله/ فرَّت/ من عُلاه/ إلى المدى/ والشوقُ/ والوجدُ ابتدى/ومضت حروفي/في طيوفك/ تصهلُ” (ص117)، ثم: “وبوجهيَ الحزونِ/ راحت تُعوِلُ/ (لكِ يا خناجرُ/ في القلوب منازلُ)/ فتنهّدت/ ومضت به تتوَسّلُ:/ أفنَيتني…”، ثم : “أفنَيتني…/ روحي فداك/ وذا دمي المتهاطلُ/ ودموع قلبي جدولُ/ فعلى القتيلِ/ متى يحنُّ/ القاتلُ؟”(ص119)، وقد أفاد الشاعر من مطلع قصيدة (المتنبي) : (لكِ يا منازلُ في القلوبِ منازلُ…)، مستبدلاً (المنازل) بـ(الخناجر).
     وبالرجوع إلى نص قصيدة (مراجعات)(صص78 ـ 83)، سيتخذ الشاعر الصديق عبد الرزاق الربيعي من يومه الأول بعد بلوغه الستين من العمر؛ مناسبة مراجعة تحدث في مرحلة زمنية فاصلة بين مرحلتين بالفعل؛ ما قبل الستين وما بعدها، وقد ذكرنا فيما تقدّم نصوصاً تمثّل كليهما بحسب قراءتنا لها، لكن لا نجد بأساً من التوقف على بعض مقاطع هذا النص، الذي افتتحه الشاعر بمقدمة موجعة عن اليوم الأول بعد الستين: “أفقتُ/ وكان الصبح مضى/ للبيت/ مضت ساعاتُ حراستِه/ ومشت خلفي أحلامي/ وأنا كنت بعزِّ منامي/ أياماً وسنين”(صص 79 ـ 80)، إذ لن تخفى هنا مداليل الأسى، وقد تساءل عما أعدّ لما تبقى من أيامه، وقد مضى كل مَن حوله إلى شأنه : “الناس مضَوا لمكاتبهم/ والفلاحون إلى الحقل/ طيور الله/ إلى الجنة/ وأنا ما زلت على حالي”(!!)
     لكنه سيعود بمتلقّيه إلى الستين؛ الزمن المنصرم من عمره، ممسكاً ـ قدر إمكانه ـ بمشاهد مرّت به أو عاش تفاصيلها، ليجعلنا ندور معه في زمنه الأقرب من عامه الحادي والستين، وكأنه رغب طوعاً باختصار هذه الــ (مراجعات) المضنية، وقد صار “كبيراً في المرآة”، وغابت عن نومه “أطياف الحوريّات” ـ أو معالم الطفولة ومباهجها ـ لا فرق، ليختم نصَّه هذا بـ: “في الستينِ/ صرت أعدّ سنيني/ كثَريٍّ/ في جبّة درويش/ أفلسَ/ من كنزِ يقين”(ص83).
     ولا نجد في ختام قراءتنا لعدد من نصوص ديوان (ننام ويحرسنا ليل الأمس)، أجمل مما كتبه الصديق  الناقد الأستاذ الدكتور حاتم الصكر، ووضعه الشاعر على ظهر غلاف الديوان الخلفي : “في هذا العمل يلجأ لمقابلة ومفارقة وربما تقاطعات وتوافقات مع ما يُسقطه على الزمن كمحرّك للأشياء والوقائع، فتتجسّم مأساة الإنسان باحثاً عن إنسانيته وحرّيته. شعريّة فريدة تلتقط ذبذباتها مما حول الشاعر وما في داخله، تُدرجها في بنى فنية بالغة الرهافة”.. وهذا ما ظلّ الصديق الشاعر عبد الرزاق الربيعي حريصاً عليه باستمرار.   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى