الجامع الأموي بدمشق.. تحفة معمارية
بقلم: د. محمود رمضان
أظهرت الحقيقة التاريخية جلاء المفاهيم والحنكة بالتفاصيل المعمارية والفنية وحكمة المنقب وموضوعيته، عندما قرر الأثري الفرنسي (سوفاجيه) أن الجامع الأموي بدمشق هو أول نجاح معماري بارز للحضارة الإسلامية، ومن المعروف أن هذا الجامع الشهير والذي صار نموذجاً يحتذى به في عمائر الشام والمغرب والأندلس أيضاً، من المعروف انه قد شيد في بقعة لها مكانة خاصة في تاريخ دمشق، أقدم مدن العالم المسكونة أو المأهولة، فقد كانت هذه البقعة في الأصل معبدا للإله الآرامي (حدد) ثم حول إلى معبد للإله جوبيتر في العصر الروماني واستخدم جزء منه كنيسة على يد البيزنطيين، فعندما فتح العرب المسلمون دمشق كان جزءاً من المعبد مشغولاً بكنيسة (يوحنا) التي أنشأها الإمبراطور (تيودوس) في القرن الرابع الميلادي، ومن ثم اقتسم الفاتحون العرب ساحة المعبد القديم مع نصارى الشام، فبقيت لهم كنيستهم وشيد المسلمون مسجداً في النصف الآخر من المساحة التي كانت محاطة بسور روماني قديم شيد عوضاً عن السور المزدوج الذي كان للمعبد الآرامي القديم.
وتروى المصادر العربية في ذلك قصة تستحق أن تذكر، ومفادها أن أبا عبيدة بن الجراح دخل دمشق من الجهة الغربية فانتهى إلى نصف الكنيسة وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى، ودخل خالد بن الوليد المدينة عنوة من الجانب الشرقي وانتهى إلى النصف الشرقي لأرض المعبد فاجتازه المسلمون وصيروه مسجداً وبقى النصف الصالح عليه (الغربي) كنيسة بأيدي النصارى.
ورغب المسلمون بعد ذلك في الاستفادة من الأحجار والرخام والأرض المبلطة لهذا المبنى القديم الواسع، وسعى الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان إلى تحقيق هذه الرغبة فاتفق مع النصارى على تعويضهم عن الكنيسة الصغيرة التي كانت لهم، وأخذ النصارى تعويضاً كبيراً وشيدوا لأنفسهم بالفعل كنيسة جديدة على قطعة الأرض التي عوضهم بها الخليفة عبد الملك بن مروان.
وشرع المسلمون في تشييد المسجد الجديد فى عام 88 هـ/706م، على هيئة جديدة فجاء كأجمل ما تكون عمائر الإسلام حتى أن مندوبين عن الإمبراطور البيزنطي جاءوا لزيارة الخليفة في دمشق اعترتهم الدهشة وهم يرون عظمة بناء الجامع وروعة زخارفه حتى أن احدهم سقط مغشياً عليه لأنه على حد تعبيره قد أيقن من خلال البناء وفخامته أنه لا سبيل أمام الإمبراطور البيزنطي لاستعادة دمشق أو هزيمة المسلمين.
وقد بدأ الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بنفسه هدم الكنيسة لأن النصارى كانوا يزعمون أن الذي يهدم كنيستهم سوف يصاب بالجنون فبادر الوليد إلى ذلك وقال (أنا أول من يجن في سبيل الله) وبدأ الهدم فبادر المسلمون وأكملوا هدمها.
وكان الفراغ من إنشاء الجامع الأموي فى عام 96 هـ/715م، وقد حافظ الوليد بن عبد الملك على السور الروماني القديم وأصبح مدخلا المعبد الوثنى وهما باب (جيرون) وباب (البريد) مدخلين للمسجد يؤديان للصحن المكشوف، واحتفظ أيضاً بالمئذنتين القديمتين وكانتا قد شيدتا في عهد معاوية بن أبى سفيان فوق أساسات برجين في أركان السور يطلق عليهما المؤرخون تسمية الصومعتين، تلك التسمية التي صارت علماً على ما شيد من المآذن الإسلامية في المائة الأولى من الهجرة واستقرت التسمية إلى يومنا هذا في المغرب العربي مثلما ترسخت بالأندلس أيضاً خلال عهودها الإسلامية.
ومن المؤكد أن البرجين المربعين أو الصومعتين قد استخدمتا كأساس بنيت فوقه المآذن الإسلامية وهو ما أعطى للمآذن الأولى شكلها المتعامد الإضلاع، وإضافة للصومعتين الحقت بالجامع الأموي مئذنة ثالثة في عهد متأخر شاهدها الرحالة الأندلسي ابن جبير خلال زيارته لدمشق في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، ولكن الزلازل التي ضربت دمشق غير مرة وكذلك الحرائق المتكررة التي شبت بالجامع ذهبت بكل المآذن القديمة، وكان أولها سنة 461 هـ/1068م، وآخرها سنة 1893م أيام السلطان العثماني عبد الحميد الثانى.
ففي عام 74هـ شب حريق بالجامع احترقت فيه المئذنة الشرقية وأعيد ترميمها وقد عاينها أحد المؤرخين، كما ذكر ابن فضل الله العمري في كتابه”مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” عن الفاضل صلاح الدين أبو الصفاء الصفديّ، وهى تنهار فرثاها بقوله “.. ولم تزل النار تأكل ما يليها، وتُفنى ما يستفلها ويعتليها، إلى أن ارتفعت إلى المنارة الشرقية، ولعبت ألسنتها المسودّة في أعراض أخشابها النقية؛ وثارت إليها من الأرض لأخذ الثأر، وأصبح صخرها كما قالت الخنساء’ كأنه علم في رأسه نار ‘، فنُكِّست وكانت للتوحيد سبّابة، ولمعبدها المطرب شبّابة، وابتُلي رأسها من الهدم والنار بشقيقه، وأدار الحريق على دائرها رحيقه.)
وفى سنة 813 هـ، احترقت قمة المئذنة الغربية بعد دخول (تيمورلنك) الشام، وانتهى من ترميمها في 16 صفر عام 816 هـ، ويذكر أن المؤذنين كانوا يصعدون فوقها في رمضان في عام 814 هـ ليؤذنوا وأعمال الترميم جارية فيها.
ومن اللافت للنظر أن المئذنة الغربية كانت آنذاك بالغة الضخامة كالبرج المشيد وتحتوى في أدوارها الأولى على مساكن متسعة وزوايا فسيحة وكان البيت العلوي منها معتكفا للإمام أبى حامد الغزالي وذكر الرحالة المغربي ابن بطوطة انه تلقى بعض الدروس فيها على أيدى عدد من شيوخ دمشق.
أما هيئة الجامع الأموي كما شيده الخليفة الوليد بن عبد الملك فقد استمدت من تصميم المسجد النبوي بالمدينة المنورة، فكانت عبارة عن صحن أوسط مكشوف تحيط به أربع ظلات للصلاة، ولما كان الجدار الطولي للمساحة التي كان يشغلها المعبد يتجه إلى الجنوب أي نحو مكة فقد جعلوه جداراً للقبلة وأصبح طول بيت الصلاة غير متناسب مع عمقه الذي يتكون من ثلاثة أروقة فقط، ولكن المسلمون لم يروا في ذلك أي بأس لأن طول جدار المحراب أعطى ظلة القبلة سعة تكفى لمئات المصلين.
وقد جعل المعمار باب ظله القبلة المؤدى إلى الصحن بابا فخما كأنه باب حقيقي للجامع وربما وقع هذا الاهتمام به لأنه كان يؤدى إلى بلاطة المحراب مباشرة، ولكن المؤكد هنا أن طقس دمشق الممطر شتاء هو الذي أملى على مهندس الجامع إغلاق ظلة القبلة من ناحية الصحن بهذا الباب.، ومهما يكن من أمر فان طول جدار القبلة يبلغ حوالي 136 متراً تمتد بطولها عقود أروقة ظلة القبلة الثلاثة بموازاة جدار القبلة وهى ذات الهيئة التي كان عليها المسجد منذ تشييده إذ حافظت التجديدات المختلفة على هذه الهيئة بكل دقة.
ويقطع أروقة ظلة القبلة رواق تسير عقوده بشكل عمودي على جدار القبلة، وسقف هذا الرواق الذي يعرف باسم (المجاز القاطع) أعلى من مستوى أسقف بقية الأروقة ليسمح بدخول المزيد من الإضاءة الطبيعية إلى تلك المنطقة التي تنتهي إلى محراب الجامع.
وتأكيدا لأهمية المحراب فقد شيدت فوق المجاز القاطع قبة تعرف إلى اليوم باسم (قبة النسر) لان أشكال الأسقف الجمالونية في ظلة القبلة صارت أشبه ما تكون بنسر (المجاز القاطع) ناشر جناحيه (أسقف الأروقة الموازية لجدار القبلة) بينما تعد القبة بمثابة الرأس لهذا النسر، وتفتح ظلة القبلة على الصحن ببائكة من اثنين وعشرين عقداً وتزين واجهة الظلة بأعلى العقود سلسلة من نوافذ ذات عقود مستديرة وهى توأمية بواقع اثنتين منها فوق كل عقد من عقود واجهة الظلة.
وفى صحن الجامع نحو الغرب بناء يقوم على عدة أعمدة رخامية يقال أن مال الجامع كان يودع فيه، وكان في القرن التاسع عشر مستودعا للكتب والمخطوطات، وللجامع الأموي أربعة مداخل أقدمها باب جيرون وباب البريد، وترجع مآذنه الباقية إلى عصور الأيوبيين والمماليك والعثمانيين وان تميزت المئذنة الغربية بأنها الأجمل نسباً والأكثر رشاقة وهى من تجديد السلطان المملوكي الأشرف أبو النصر قايتباى بالجامع.
وقد استحق الجامع الأموي شهرته في دنيا العصور الوسطى ليس بسبب اتساع مساحته وفخامة بنائه الرخامي فحسب، بل قبل ذلك وبعده لتلك الثروة الفنية الهائلة من أعمال الفسيفساء الرخامية والزجاجية التي كانت تغطى جدرانه وعقوده أعلى كسوة الجدران الرخامية وكانت ترتفع بمقدار قامة الإنسان، وكان يعتقد في مشارف العصر الحديث أن هذه الأعمال الرائعة التي لهج المؤرخون بجمالها قد دمرت بفعل الحرائق الخمسة التي ابتلى بها الجامع الأموي إلى أن اكتشفها العالم الفرنسي (دى لوري) في سنة 1927م اثناء إجراء بعض عمليات الترميم.
فعند إزالة طبقة من الجص الأبيض في عقود ظلة القبلة اكتشف هذا الفرنسي أن تلك الطبقة تحجب وراءها فسيفساء رخامية مذهبة ومتعددة الألوان، وسرعان ما اتضحت ملامح هذا الانجاز الفني الرائع الذي يعود ولا شك إلى عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، ومذ ذاك بات من المفهوم السبب الذي من اجله أغمى على مندوب الإمبراطور البيزنطي بعد أن كادت نفسه تذهب حسرة من سمو تلك الأعمال الفنية الرائقة.
وتمثل زخارف فسيفساء الجامع الأموي بداية مبكرة وناضجة لفن الزخرفة الإسلامية الذي التزم منذ بواكير أيامه الأولى بعدم استخدام رسوم الكائنات الحية من تصاوير البشر والطيور والحيوانات في تزيين أماكن العبادة، وتحتوى هذه الزخارف الفسيفساء على رسوم لعمائر ذات أسقف مائلة يبدو أنها كانت منتشرة آنذاك في دمشق لتجنب أضرار الأمطار الشتوية الغزيرة بالإضافة إلى رسوم نباتية لأشجار وثمار وأوراق نباتية مختلفة الإشكال والأنواع.
ومن العناصر النباتية التي استخدمت في زخارف الفسيفساء رسوم المراوح النخيلية ، وكذا أنصافها، وعناقيد العنب وكيزان الصنوبر وثمار الرمان وأوراق الشجر ذات الأطراف المدببة والأوراق النباتية الثلاثية البتلات (السباتى) وغيرها من العناصر النباتية التي نقلت بحذافيرها تقريباً من أعمال الفسيفساء الرخامية بقبة الصخرة بالقدس والتي شيدت وزخرفت في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، وقد قيض لهذه العناصر بعد تطويرها وتحويرها على أيدى الفنانين المسلمين أن تصبح الملمح الرئيسي للفنون الإسلامية التي اتصفت زخارفها النباتية المعروفة باسم الأرابيسك أو التوريق بالتجريد والتعقيد.
ويرجح بعض الآثاريين أن مناظر العمائر الممتزجة برسوم الأشجار والنباتات تمثل في بعض جوانبها لقطات تصويرية لعمران مدينة دمشق وخاصة منطقة الغوطة الشهيرة، ومن المعروف أن الجامع الأموي بدمشق يحوى مزاراً به جثمان القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين في حطين وغيرها من مواقع الحروب الصليبية ببلاد الشام، وقد وقف القائد الفرنسي (غورو) الذي دخل دمشق عنوة أبان الحرب العالمية الأولى، وقف هذا القائد على قبر صلاح الدين ليقول قولته الشهيرة (ها قد عدنا يا صلاح الدين الآن فقط انتهت الحروب الصليبية).
ولكن القوات الفرنسية لم تلبث طويلاً في دمشق وبقى الجامع الأموي ومزار صلاح الدين الأيوبي يستقطبان زوار المدينة العتيقة.
=========
* الكاتب :
مدير
مَرّكَزُ الخَلِيجَ للبُحوثِ وَالدّرَاسَاتِ التَّارِيخيَّةِ
خبير الآثار والعمارة الإسلامية
* ( تبسيط الثقافات والمعارف والتاريخ والحضارة والآثار والفنون والعلوم الإنسانية وروافدها واتاحتها للمجتمعات البشرية في هذا الكون- المعرفة ليست حكراً على أحد)
(الثقافة حق للجميع -لا حَجْرَ على فِكْر)