التطور التقني وفانتازيا العمل في تجربة جمال الشاعر
عمارة إبراهيم| شاعر وناقد مصري
القصيدة المتطورة في بنيتها وهي تنتهج مشروعية عملها من مصطلح الشعر الحر لابد وأن تتعدد فيها الرؤي الجمالية المستجدة بدهشة واقعية الصور الشعرية غير المتوقع ورودها داخل النص ومباغتة القارئ بمسارات جديدة لها،أيضا يتحقق لها الأبعاد الفنية التي تتسم باستدعاء مكونات جديدة لها، مثل تقنية السرد التي يحمل فيها بنية الحكي الشعري في سياق أحواله وعبر المنطق والتداخلات الفلسفية الإنسانية ذات الحضور الموظف داخل مكونات النص لانتاج التأويل الذي يضيف له طرحا جماليا مغايرا، بزيح عن النص ثقل البنية الانشائية أو الوصفية المباشرة في عمله حتي لا تجعل المشاهد يقف عند الحدث المجاني في فنية حضوره وفي تفصيلاته، بل تخرج إلي مسار فني يتحقق منه فضاءات العمل المتسع في بنيته الكلية وفي تعدد تأويل هذه الواقعية التي تبني صورها الجمالية من مظاهر أفعال اللغة عبر مشحون دفقتها التي بناها الشاعر وعبر المكونات الإضافية التي حلق من خلالها، وتماس مع مظاهرها الجمالية مثل استحضار لغة الطبيعة التي تتعانق مع أحوال النص او مثل استخدام لغة الفلاش باك الاسترجاعية أو استخدام لغة الفانتازيا التي تضيف عمل استدعاء جمهور الشاعر لنصه وبجعله جزءا من هذه المكونات التي يسعي في استلهام حضورها كي يعزز التطور الذي يسعي إليه ويجعله مغايرا عن الشعراء الآخرين، مشاركا ومعززا في نهضة الشعر الذي يمثل لغته وبيئته وثقافته وزمنه،يتعاطى فيه قضاياه الخاصة والجزء الذي تفاعل معه من خلال القضايا العامة التي تخصه أو تخص وطنه أو أمته أو تخص البشرية التي تعيش وفق مشاركاتها الإنسانية الصحيحة والفاعلة داخل مجتمعاتها.
كل هذه المكونات هي أيقونات عمل التطور والتجديد في المبني والمعني للنص الشعري، وقد سبقتنا إليه تنويعات عمل الشعراء من خارج لغتنا وبيئتنا، حتي حاول بعض الشعراء تقليد عملهم الذي لم ينسجم مع كل مظاهر بنية قصيدتنا وبنية أحوالها وثقافتها.
وهي أيضا من دفعت شاعرها نحو استحضار أرضية عملها، لتكون ضمن سياق المشحون الانفعالي المهيأ لعمل النص، يستحضر منها القاموس المناسب لمشحونه عبر هذه اللغة التي أبرزتها مظاهر أفعال الأحوال؛ فتماست مع عمل وجدانه حتي يتحقق للنص مظاهر جمالياته في تطورها المنشود يكون عملها متوافقا ومنسجما مع ذائقة شاعرها ومع قناعاته المهمة في تطوير النص كي يتأقلم مع بني التطور الحياتي للإنسان وفق بيئته وثقافته وانسجام لغته وموهبته، ويكون له الدور المهم في إنجاز هذا التطور من خلال عمله الإبداعي الذي تحقق في تشكيل مبناه الشعري الجديد الذي يتناسب مع الشكل الشعري الذي يختاره الشاعر،فيتناغم مع معطيات أخري تمنح ضرورات النص في إنتاج المعني الدلالي وصوره الشعرية التي تتناسب مع بنية الأحوال داخل القصيدة، بعيدا عن المعني المباشر الذي يتبناه الكثير مما يضعف النص ويحوله الي محانية الاستقبال في بنية الجملة الشعرية التي لا تتفاعل مع المساحات الجمالية التي تحققت من هذا التطور.
أيضآ من ضمن مكونات هذا التطور،توافق إيقاع النص المستحدث في بنيته وفي لغته وفي تراكيب عمله سواء كان من تفعيلات البحر الشعري الذي انسجم مع المشحون الإنساني الذي تهيأ لمكون النص أو من خلال إنتاج نغمية إيقاع أخري أنتجتها حركية الأفعال عبر مظاهرها اللغوية التي تكيفت مع معطيات هذا المشحون في تراكميته داخل وجدانية الشاعر متشبعا من قضية إنسانية ما،عامة او خاصة لتنصهر مع إيقاع اللغة وتجانس توزيعاتهما من حركية هذه الأفعال ومدلولاتها داخل النص الشعري أو في مجمل قصائد الديوان الشعري، ويزيد عن ذلك خبرة الشاعر في إيجاد علاقة التناغم بين اللغة ومظاهر أفعال بنية الأحوال في توزيع مشاهد الحدث وزمنه من خلال انسيابية العمل في سياقه الحالي عبر تواترية هذا المشحون الشعري الذي يتحقق في منجز الشاعر.
إن الشعر هو ناقة الله في قلب وروح الشاعر الموهوب؛ يتحمل من إنتاجه ألم حضور مشحونه الذي تضيق منه الحواس يتحمل في عمله ما لا أذن سمعت ولا لغة تكونت ولا صورة له أبهرت ولا ضمير له أفاد بحضوره ولا إيقاع لأحواله غير المرتب؛ من بعد القرآن،إلا كان هو حاجة الإنسان لتطهير الروح من متعلقات القبح مهما تفوق. فإيقاعه يمثل لغة فعل الروح من دون ترتيبه؛ فهو تجانس فعل الحال مع قاموسه المختار وكسر الإيقاع لا يوجد إلا من كسر أحوال الفعل وخروجه عن أنساق حضوره ولا شيء غير ذلك. كما أن الشعر هو المتفاعل مع تناص التراث والثقافة في توافق استدعائهما بشكل غير مرتب ليمثل وجوده مع انصهار واختمار مكوناته في قوالبه المتحركة، لا الساكنة. هو نهر الكلام في أبهي جريانه؛ يروي أرض الصحراء وشروخ الروح مهما غزاها ملح الفجور وحط في طاعون الأجساد الجامدة والمتحركة فيرويها.
كانت هذه مقدمة في تجربة جمال الشاعر الشعرية،حيث تقدم اتجاها آخر قد سلكه بخلاف شعراء التطور والتجديد وملاحقة القصيدة العربية بركب التطور الإنساني فوق الأرض البشرية وذلك عن قناعاته التي أوجدها في مشحونه الداخلي ممتزجا باطلاع واسع علي تراثه الشعري العربي في قديمه وجديده،وكان عليه أن يكون غير مقلد أو ناسخ أو ناظم؛ فالنص عنده يخوض غمار المواجهة، لكثير من واقعنا الذي أصبح يمثل في فروقاته الإنسانية عنصرية وتدني الفعل والقول والشكل، وظلامية القادم الذي سطا عليه حفنة من أشرار العالم وأصبحوا يسيطرون علي مقدرات حياة البشرية فوق الأرض فامتلكوا زمام الاقتصاد العالمي وطوروا ترسانة عسكرة جيوشهم المعتدية علي الأرض والعرض والعقائد وهي تعربد في إبادة كل من لا يسلم لهم مفاتيح بوابات ملكيته واعتناقه ونفسه ليكون عبدا يخدم ويأكل، يشرب ويتناسل ويكرر نفسه من ذريته القادمة معهم، بهذا العمل الذي يرصده الشعر العربي عند قليل من شعراء المعاصرة والتطور؛ فكان من ضمن خطط الشاعر أن يعري هذا القبح علي صعيد بؤرة تصوير كاميراته الراصدة في محيطه الخاص ومحيط مجتمعه ووطنه وعروبته ومحيط البشرية في سياق مكونه الإنساني الذي يتمناه؛ فأوجد لنفسه خطا منهجيا في كتابة قصيدته بأن يكتب عير فانتازيا اللا مألوف،وغير التقليدي، وتكون وجهة بنيته الشعرية وفق مراسم أحوالها من خلال تبسيطها باستخدام الألفاظ العربية والألفاظ المعربة بأسلوب يقترب من فانتازيا الرصد وفانتازيا التشكيل المنولوجي علي سبيل المثال،في نصه الشعري الذي كلما ذهبت إليه واطلعت علي مراسم بنية أحواله وكيفية إنتاج عمل لغة أفعال الأحوال في إنتاج مظاهرها اللغوية الخاصة، ستقول من دون تردد هذه قصيدة جمال الشاعر؛فهو الذي يبني عوالم تجربته عبر هذه المنهجية التي تتسع باتساع مظاهر أفعال اللغة، حيث يتنقل بكاميرا التصوير إلي واقع بؤرة الصورة الحياتية التي جردها من الاصطناع وأرغمها علي ابراز مفاتن عملها في بنية شعرية تتعدد فيها تقنيات عملها؛ فتارة تأخذك في مشاهد سينمائية رومانسية غير تقليدية، تجمع الحب بين الحبيب والحبيبة وتارة أخري يحيلك إلي نقد الأوضاع الاجتماعية أو السياسية بشكل يتغير بتغير واقع الحدث في بنيته الظاهرة،لكن بلغة الفن الذي يمتلك بساطة الألفاظ وبساطة التراكيب حيث يعتمد علي استدعاء لقطة إنسانية ما،يبني عليها عوالمه الفنية التي يحيلها إلي رمزية تسابق تعرية واقعية ما رصدته كاميرا التصوير التي يجيدها بخبرات واسعة، فمثلا: في قصيدة “دنجوان”، تتعدد المشاهد والتناصات في بنية القصيدة؛ يبدأها بسؤال استغرابي وموحي للقارئ أن النص تبرز بداياته بكتابة ربما يستقبلها الرومانسيون لفك شفرة السؤال البسيط جدا حيث يبدأ: ماذا لو وقعت في غرام القطة؟ ثم تأتي في السطور الذي يلي؛ أمي تقتلني،والجيران سوف يتحولون إلي حوامات فضائية، ترصد انفلاتي. ويختتم دفقته التي أحدثت الاندهاشات والفضول عند القارئ، ماذا يريد الشاعر القول هنا، وبعد ذلك ستعاود استكمال قراءة النص بنسبة تركيز أشد؛ فتقرأ: … سآوي إلي جبل يعصمني من الترهات، وأناشد العصافير، والتلال المجاورة، لعلها تتعاطف معي، مثلما تعاطفت مع “علي ابن الجنايني”.
ثم يبدأ مشهدا آخر لكنه يمسك في تلابيب الوحدة الموضوعية التي يستكملها،ليتحول الي مدخل آخر يرسم به لنا عوالم وخطط بنية النص العامة من خلال هذا المزج والتنوع في المشاهد المتناسقة التي يتحقق لها الربط بين تناص تراث القرآن في قصة نوح والغرق، ذلك في إحالة عبقرية تجمع هذا التناص في بنيته الشعرية المختلفة التي تنسجم مع عمل تقنية المنهج الرومانسي الذي بدأ به النص والربط بين سؤاله ماذا لو وقعت في غرام القطة؟ وبين موقف أمه والجيران الذين سيتحولون إلي حوامات مراقبة ترصد انفلاته، ثم إلي كيفية عمله الذي يعترض هذه العمليات التي تفقده عناصر مادية حياته التي اقتنع بها وبادر بالعمل في إنتاج ما يتطلع إليه بقناعاته الخاصة،لكن تأتي منه الصدمة التي أوجدها عندما أحال أمر هذا الخروج بالذهاب إلي الجبل والتلال المجاورة علها تتعاطف معه مثلما تعاطفت مع علي ابن الجنايني، لتمثل له التحدي الذي يسعي إليه بتحقيق قناعاته الحياتية وهي تحيله إلي عناق شخصيته التي يريدها.
يقول في نفس القصيدة: أنا الدنجوان الذي أوقعته ابنة البواب مرتين علي بوزه … قلبه الآن بوصلة معقودة علي وجه القمر ودونها انطفاءات لا تعد.
هكذا تتنوع وتتعدد المشاهد في النص من واقع هذه التراكيب وهذه البنية التي رسمت زخما جماليا مغايرا تحققت فيها بنية الضمائر وتكرار أسلوب النداء كما تحقق الاحتشاد لعوالم النص في بنيته وتحققت الدهشة في استقباله،وفي تلقيه.
كما أن انسجام الإيقاع في مجمل وحدات المشاهد قد حقق تناغمافي عمل تقنية السرد الشعري بضفيرة عمل الأدوات ومنها الألفاظ التي انسجمت مع البناء الكلي؛فحين تجد لفظ “دنجوان” المعرب ولفظ “بوز”العربي في انسجام إيقاعي وحالي مختلف البنية والجمالي ويكون وجوده ضمن شحنة عمل الوجدان،كما أن عليه أن يضيف للقصيدة جماليات جديدة تمثل منتج عمل هذا التطور الذي حقق هذه التناغمية الإيقاعية من خلال تطور بنيتها،المتوافقة والمنسجمة مع مكونات جمعية العمل الذي أبرزه مشحون دفقات الأحوال في القصيدة،مع الاستفادة من توظيف تراثه المقدس الذي تم داخل العمل بتقنية الفانتازية التي يجيد الشاعر توظيفها بتفرد وغيرها من المكونات المكملة لإنتاج جماليات النص،ليتحقق منها الجرس الإيقاعي المناسب، وكان لخبرات الشاعر الكبيرة في استخدامه الألفاظ التي ساهمت في إبراز هذه التكاملية حتي استفادت من كل مظاهر حراك أفعال الأحوال، في بنية القصيدة.
وكان أبرز العوامل في النص هو تقنية عمل الفانتازيا التي يجيد الشاعر رسم عوالمها داخل معظم أعماله، لتمثل التحرر الذي ابتغاه لفك قيود المنطق والشكل كي يعتمد علي اطلاق سراح الخيال الذي اعتني بفضاء حقيقة الأحوال للخروج عن مقتضي أحوال العادي من لغة الأفعال في واقعية أحوال تجربته، فطوعها الشاعر ليمثل العمل الفانتازي الذي منح النص دهشة التلقي من واقع تفاصيل مشاهد النص المختلف في استخدام أدوات بنيته وفي مكوناته التي أفرزتها أحوال القصيدة من زاوية الاختلاف عن التقليدي والمباشر، وهي تؤكد وقع فكره وعبقرية حضوره وخبرات عمله الفني الذي ربط بين مساحات واقعه الممتلئ بمظاهر الشك والغموض والارتباك في سياساته العامة والخاصة وبين تقنيات هذا العمل الفني الذي يبدو في بعض مناطق النص أو النصوص تقريريا أو إنشائيا ولكنه غير ذلك لأنه اعتمد علي هذه التقنية لإبراز عوالم جمالية جديدة منها العمل الفانتازي الذي بناه الشاعر علي غير العادي رغم بساطة لغته التي كانت جزءا مهما من تقنية العمل السردي داخل شعرية النص.
وربما كانت تمثل وجهة عوالمه الشعرية التي يحاول أن يختطها لتكون له منهجيته الخاصة في الكتابة، حتي تتفوق فيها معالم أنسنة قصيدته وهي تجمع بين النقيض في العمل الدلالي الذي تحقق من هذه البنية ليحقق التوازن النفسي مع الانسجام الذي تعددت فيه مظاهر حراك الأفعال من بنية أحواله في لغة بسيطة غير مرتبكة ولا تملك التقعير وهي تذكرني بكتابات سابقة عند شعراء قلائل سبقوه وهم الذين تفوقت بني كتاباتهم علي عمل اللغة الخام التي لا تنجز غير المبني والمعني الدال عن الفعل وسياقه.
في قصيدة المطرقة يعود بنا الشاعر الي لحظات الوعي من تأريخ الأمة مستدعيا قصة سيدنا إبراهيم وتحطيمه للأصنام وبداية رسالة رسولنا الكريم في ربط عناصر تناصهما في بنية يربطها بواقع حياة الأمة عبر تاريخها الذي عاصره الشاعر ورصد تفاصيل أوجاعه ورتب حضور مشحونه النفسي من تداعيات الألم الذي تفوق علي مركزية قوته النفسية ليرسم عوالم قصيدته في جمعية التشابه بين الجهل الذي كان والجهل الذي حضر من تداعي السياسات التي وجهت لحضوره فيرسم ملامح هذا المزج بين فوضي التشابه في بنية شعرية يقوم بتوظيفها من تفاصيل بساطة عمل المدراء الذين يملكون السلطة ويداهنون ويطاردون الضمير العام الذي أفقدوه سلطته بدفاتر الكوبيا وأجهزة الآي باد والمقشات الطويلة ويصفهم بالتيوس المستنفرة وكيف تحطم صحراء الروح من شدة العطش الذي فاق الوجع في تصوير الشاعر، عندما يستدعي واقعه المأزوم الذي نعيشه، بهذه اللغة شديدة الإحاطة بمرتهن عملها الفني الرامز إلي هذا التوجه السياسي الذي يريد أن يبقي علي جهلنا وعلي فتنة أدواته التي باعها لنا كي يتحقق له منها السيادة علينا ويمنحنا اللغة التي تجرأت في التطاول علي اللات والعزي وهبل سيد أصنامهم في لغة إسقاط تبرز عوار ما نحن عليه الآن مستحضرا في ذلك تراث عروبتنا وهو يعكس أحوال الأمة وكأنه يجمع أحداثها القديمة وهي تتكرر في مشاهدها وفي تشابهية إنتاجها وإن اختلفت في مظاهر تطور أدواتها لكنها تمثل هذا الواقع الذي فرضه علينا الجهل ونتائجه التي أوصلتنا إلي ما نحن عليه،فهنا يعكس باطلاعه ومعايشته وثقافته كل هذا الحضور في قصيدة “المطرقة” حيث يقول:
أننا مازلنا نعبد الأصنام ؟!
.. نطوف كل يوم
حول مكاتبها البيضاوية
نصدح مهللين
“نحن غرابا عك عك..
عك إليك عانية.. “
مدير “الكوبانية”
لم يكن يرضى
بأقل من هذا
كان يحمل خمس عنزات
بين يديه
و هو يلتقط الصور الضوئية
ثم يأمر برفت خمسين شغيلا
و يخزق أعين الباقين
واحداً واحداً
يا سيدنا معاذ
هذه هي المطرقة
التي حطمنا بها
التماثيل مثلما فعلت
خذها واحك حكايتنا
و أنت ردف النبي علي رحله
لعلنا نفوز بمكرمة منه
ف يقول فرحانا بنا
والله إني لأحبهم
فالشاعر هنا أجاد في استخدام المفردات التي تجمع بين تناص تراثه المستدعي وبين المفردات التي عصرنت أحداث بنية واقعه، وبين اللغة المستعربة التي انسجمت مع هذه البنية المختلفة، أيضا انسجمت مع بنية الفانتازيا التي حاكها كي تمثل ضرورة ذائقته حيث استهدف منها شريحة كبيرة، من متلقي قصيدته، وربما أستقرأها حاضرة بين سطور تجربته الشعرية ليكونها ويمثل ضرورات وجودها لترتكز جمالياتها بين روافد وأشكال وبنية القصيدة العربية في نصه؛فتجمع كل هذه المكونات التي تحققت ورسمت عوالمها ومكوناتها كي تمثل خطابيته الشعرية التي تؤسس لإبداع شعرية الفانتازيا وعبقرية ثقافة الفن الشعري الذي يرسم بيان الأمة مؤرخا في عصور وجودها الشعري؛ فالواقع مثل ما صوره الشاعر هنا بلغة الفعل الذي أدار كل هءه المكونات عبر مظاهر اللغة التي يدركها العامة قبل الخاص،لاستبيان وجوده الذي يمثل زماكانية البيئة وهي تمثل حاضره وسط الغابة التي نعيش فيها وهي لا تملك من قوانين الحياة غير قانون القوة. فاللغة أداة عمل أفعال الأحوال،والبنية هي جسد القصيدة الذي يبرز الجمال فيها بمنطوق حراك أفعال أحوالها، في أسلوب بنائها ومنتج صورها عبر واقعية الأحداث التي تختمر في صحن وجدانية الشاعر.
ومن الأنموذج الأخير من مختاراتنا لبعض القصائد في تجربة الشاعر وقد نوعناها حتي تلملم العوامل الاشتباكية التي اعتمدنا فيها علي البحث واستجماع كلزالعناصر الفنية التي بنيت علبها تجربة الشاعر وكانت هءه النماذج هي أيقونة العمل الذي بنينا عليه هذه الرؤية النقدية التي أفرزت هذه التعددية وتكونت من خلال تقنيات عمل الشاعر في عموم تجربته التي تمثلت في قصيدة “البرتيتة” وهي تطرح بشكل أوضح جوهر وقوة واختلاف عمله عبر منهجه الشعري الذي رسمه في معظمها؛ فلو قمنا بالبحث عن أصل الكلمة لوجدناها تأتي من أصل إيطالي وأصلها “برتيتا”وتعني الجذر أو الأساس ويختلف معناها بحسب موقعها في الجملة وتم تحريفها في عاميتنا إلي لفظ برتيتة وتعني اللعبة التي تمثل في عملها استنطاق تفاصيلها من الإسقاط الفني الذي يرمز إلي واقعية ودرامية الأحوال العامة المرصودة والتي عبر عنعا في عموم تجربته يحقق فيها هذه المعالجة الفنية داخل النص، لتكون بنية عمله النقدي، حيث يعالج منه الاجتماعي أو السياسي في بنية شعرية المنولوج الناقد.
وفي هذه القصيدة تحديدا التي استخدم فيها بعض الألفاظ المعربة والألفاظ التي تقف بين حدود الموروث الشعبي وبين اللهجة العامية والألفاظ العربية التي يشيع استخدامها بين العامة مثل: “اللعيبة، جرسون، مبسوطة، الفوطة،الفاهيتة،” ليقوم بدمجها في بنية عمل قصيدته الفصحي كي تمنح عوالمها من واقع لغة الحدث التي يرسم بيانها بنفس لغة استقبالها داخل المشحون في غرفة وجدانية الشاعر لتصل إلي شريحة التلقي وهي التي تأثر منها ويؤثر فيها بطريقة عمل المنولوج الفني المؤثر بمشحونه الإنساني داخل التناول الشعري الذي يمثل الواقع المأزوم بمشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية من تعدد الحروب والابادة المجتمعية من خلال لعبة الموت التي تبرز اسقاطاتها في مشاهد سينمائية، يفضح منها عوار أحوال الإنسانية في زمنه وبيئته وهو يشاهد فيه العالم وكأنه يعيش في حانة، الكل يلعب فيها والجرسون الذي يمثل مادة الاستهلاك لا يسكت عن العمل والناس مبسوطة، والأطباق الطائرة تمثل عمل العفريتة والمنضدة الفخمة تدير العمل بأوامر سرية ثم تخرج منها الي الفضاءات التي تأثرت من هذه الألعاب وهي تمثل جريمة في حق الإنسانية وهم لا يرون منها غير إنها ألعاب التسلية التي يتمتعون بأوقاتهم فيها ولا تمثل لهم غير الحانات التي أفرزت بواعثها الي خارج حدود المكان والزمان؛ لكن في الحقيقة هي القنبلة الموقوتة التي سيلقونها في استعراض ألعابهم التي لا تمثل لهم غير اشتهاءزالموت للبشرية من دونهم في لعبة غير آدمية.
فاللغة الرامزة تستنطق أحداث وفجر الموت المرتب للناس، والصور الشعرية تبني مسارها من واقعية الفعل وأحداثه في هذه الحانة الصغيرة التي رسمها لنا الشاعر بلغة فنية برع فيها هذا الاحتشاد الفني في بنية عمل الأسلوب الذي لا يحتاج لتطور مكوناته داخل النص غير اليساطة التي أرهقتها رمزية هذا العمل الذي تحقق منه جماليات النص في عموم الحدوتة التي لا زالت،ونحن نمثلتفاصيل أدواتها،وأحداثهاونحن ضحاياها، كل ذلك ولم نزل في حضرة الجرسون والنادل والموسيقا والرغبات المكبوتة،نهلل،نصفق،نغني ثم نموت!.
سأختم بمقطع من قصيدة “البرتيتة”
صاح اللعيبة
هيا ياجرسون
الناس الليلة مبسوطة
الفوطة نادته ..
اخطفنى من أيدى المشجب
ناوله الرف الأكواب
وهمت أطباق طائرة أن تتفلت
.. داعبها ..
انتظرى
يا أيتها العفريتة
استدعاه الطاهى
حط على شفتيه السكر ..
ضاءت
بسمته الطازجة
على وجه
“الفاهيتة”
أعطته المنضدة الفخمة
بعض أوامرها السرية
أيقن أن الإيقاع الآن يدار
بقنبلة موقوتة
فى استعراض محسوب دار
أدار السيمفونية
وزع
أوراق النوتة
شاهد زرقاء العينين.