فكر

التجربة الإنسانية والإعلامية

د. هبة محمد العطار| أكاديمية وإعلامية

تُعد التجربة في الفكر الإنساني فعلًا تأسيسيًا للوجود، إذ لا يكتمل وعي الإنسان بذاته ولا بالعالم إلا عبر ما يخوضه من تجارب تُعيد تشكيل إدراكه للمعنى، وتمنحه قدرة على قراءة الحياة بعمق يتجاوز السطح والاعتياد. فالتجربة ليست مجرد حدث عابر، بل هي ممارسة وجودية تخلخل الثابت فينا، وتفتح أمام الذات أفقًا للتأمل وإعادة التعريف. ومن هنا، يصبح خوض التجارب ضرورة وجودية، لأنها الوسيلة الوحيدة لاكتشاف الإمكان الإنساني الكامن في كل فرد، وصوغ وعيه في مواجهة المجهول.
تكتسب التجربة الإعلامية بعدًا فلسفيًا خاصًا، لأنها تمثل المساحة التي يلتقي فيها الفكر بالفعل، والمعرفة بالممارسة، والوعي بالقيمة. فالإعلامي لا يتكون داخل حدود النظرية، بل في ميادين الاحتكاك بالواقع، حيث تُختبر المصداقية وتُمارس المسؤولية، ويُعاد تعريف المعايير الأخلاقية في مواجهة ضغط اللحظةالإخبارية وسرعة التغير.
التجربة في المجال الإعلامي ليست مجرد تدريب مهني أو تراكم للخبرات، بل هي عملية وعي متواصلة تضع الإعلامي أمام أسئلة جوهرية .. كيف يمكن أن ينقل الحقيقة دون أن يفقد موضوعيته؟ كيف يوازن بين حرية التعبير ومسؤولية التأثير؟ وكيف يصوغ رسالته في عالم تتنازع فيه الحقائق والمصالح؟ .. في كل تجربة مهنية، يتسع أفق الوعي لدى الإعلامي، ويغدو أكثر إدراكًا لحدود ذاته ولطبيعة الدور الذي يؤديه في تشكيل الوعي الجمعي.
فالإعلامي الذي يخوض التجربة بشجاعة يكتسب قدرة على التفكير النقدي، وعلى التعامل مع الحدث لا بوصفه مادة للنقل، بل موضوعًا للفهم والتحليل. إنه يتجاوز التغطية السطحية إلى قراءة أعمق للواقع، ويحوّل الممارسة المهنية إلى فعل ثقافي يسهم في بناء وعي اجتماعي أكثر نضجًا وإنسانية.
التجربة الإعلامية هي مسار لتكوين الذات المهنية والفكرية. فهي التي تُنضج الحس الأخلاقي، وتُعمّق البصيرة النقدية، وتجعل من الإعلامي فاعلًا معرفيًا يشارك في إنتاج المعنى لا في تكراره. وبهذا المعنى، تصبح التجربة شرطًا للوجود المهني الحقيقي، ولتأسيس علاقة متوازنة بين الإعلامي والواقع الذي ينقله، بحيث يتحول الفعل الإعلامي إلى وعي يمارس ذاته عبر الكلمة، والصورة، والموقف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى