عاش جمال عبد الناصر.. لذكرى الذي قال للعرب: يمكنكم
د. خضر محجز | فلسطين
مع الذكرى الحادية والخمسين لوفاة ناصر، لم يكن عبد الناصر بطل جيلنا فحسب، بل كان أمل أمة ناهضة، بدأت ـ تحت وقع صوته الهادر، وطلته البهية، ووجهه الجميل، وتواضعه الجم ـ تستجيب لنداءاته. كنا نجتمع كل موعد خطاب، في البيوت والمقاهي والشوارع، في كل أنحاء الوطن العربي، لنتشرّب الكرامة والعظمة من صوت العرب، صوت عبد الناصر. وفي تلك السنوات اندلعت الثورة الجزائرية، لتلهب أحلامنا، ولنرى ناصر بطلها الأول.
أَمَّم القناة، ووزّع الأرض على المزارعين، وبنى السد العالي، وأوصل الكهرباء إلى كل بيت في الريف، وصنّع مصر، وأنشأ البنية التحتية للصناعة، إذ أنشأ مصانع الحديد والصلب بحلوان، وأصلح التجارة بمنع الاحتكار، وأنشأ الوادي الجديد، وحرر إرادة مصر من تدخل الدول الكبرى، وعرّب مصر، وعلّم الفلسطينيين مجاناً، وغرس معنى الكرامة في قلوب العرب، ودعم الثورة ضد الاستعمار في آسيا وأفريقيا، وأنشأ كتلة عدم الانحياز لخلق توازن دولي بين المعسكرين، ورعا الثقافة والعلم، وأنشأ معاهد الاختراع العلمي في الشؤون العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وأعاد تسليح الجيش المصري بأحدث الأسلحة، إذ كسر احتكار السلاح، وفتح المنافذ على العالم الاشتراكي، الذي بمساعدته تم كل ذلك. ثم أنشأ منظمة التحرير الفلسطينية، وأمن لذلك تغطية عربية في مؤتمرات القمة، وما تبع ذلك من إنشاء جيش التحرير الفلسطيني.
واليوم يمكنني أن ألاحظ أن كراهية أعداء النهضة العربية لمنظمة التحرير، يعود جزء منها إلى كراهيتهم لناصر العظيم. لقد أرادوا أن ينقلبوا عليه ، ثم يقدم لهم المساعدات.
وعلى صعيد الدين، أنشأ إذاعة صوت القرآن الكريم، وأمر بتسجيل المصحف المسموع بأصوات قراء مصر الأشهر، فصار الكتاب المرقوم مسموعاً، ودعم توسع الأزهر وانتشاره في العالم، فصارت بعوث الأزهر العلمية والدعوية في كل بلاد العالم.
وعلى صعيد الثقافة، تمكن عبد الناصر من الوصول إلى عقول كل قراء الوطن العربي، إذ بدأت المطابع المصرية تقذف ملايين النسخ من الكتب يومياً: كتب دينية، وكتب ثقافية، وفلسفية، وفنية، من كل الأنواع، بعضها عربي التأليف، وكثير منها مترجم.
يكفي أن أذكر أنه كان ثمة من السلاسل العالقة بذهني: “روايات عالمية من الشرق والغرب”، “كتاب لكل يوم”، “كتاب الأخبار”، “سلسلة الألف كتاب”، “كتاب الهلال”، “روايات الهلال”، مجلة “الأزهر”، “مجلة سمير للأطفال، “مجلة ميكي للأطفال، “روايات الجيب”، “مجلة الكواكب”، “مجلة آخر ساعة”، “مجلة الإذاعة والتلفزيون” … وكثير غيرها مما لا تحفظه الذاكرة.
كل هذا كان يُطبع ويُصدَّر إلى الأقطار العربية، بثمن زهيد لا يحسن جعله غير خاسر إلا نظام يعرف علاقات الأشياء، ويُحسن الاستفادة منها: فبقايا الورق المتخلفة عن عمليات قطع المقاسات الكبيرة لصفحات الجرائد، مثلاً، يتم استخدامها لابتكار مقاسات خاصة، لسلاسل مختلفة من كتب تثقيف الجمهور.
هكذا غزا عبد الناصر العقول والقلوب. وهكذا تثقف جيلي من عشاق القراءة. ومع كل ذلك كان صوت عبد الباسط عبد الصمد يلعلع في الشوارع والأسواق. فيما الأزهر يقود الوعي الديني في كل أنحاء الدنيا، حيث كان حضوره مميزاً في آسيا وأفريقيا، وأنحاء العالم أجمع.
في تلك الفترة وصل الدعاة الأزهريون إلى كل مكان، وغزا صوت عبد الباسط كل القارات. أما الفلسطينيون فلم يكتف بتعليمهم في جامعات المحروسة مجاناً، بل أنفق عليهم كذلك.
لم يوافق الإخوان المسلمون على المشاركة في ثورة يوليو 1952، فلما نجحت تذكروا أن ناصر عضو في جماعتهم، فطالبوه بحق البيعة، وتسليم الدولة للمرشد. لكن الثورة لم تكن ثورة ناصر ليسلمها، بل كانت ثورة الجيش. وللجيش ضباط شاركوا في الثورة، منهم الشيوعي واليميني والمتدين. وكانوا ممثلين في مجلس قيادة الثورة.
لكن كيف يقول ناصر هذا لجماعة تؤمن بالفردية الدكتاتورية؟ كيف يقول هذا ناصر لجماعة ترى أنه مدين لها بكونه يوماً مر من عتبة بابها، ثم غادر؟ من هنا كان لا بد من الصدام. ولقد حدث الصدام الأول أيام نجيب.
في الشهور الأولى من سنة 1952، قبيل انطلاق شرارة الثورة، حاول ناصر أن يختبر قوة تنظيمه داخل الجيش. فخاض التنظيم الناصري “الضباط الأحرار” انتخابات نادي الضباط، ودعم مرشحا وطنياً مقابل مرشح الملك. وكان هذا الضابط هو اللواء محمد نجيب.
نجح محمد نجيب. وعلم الضباط الأحرار أن شعبيتهم داخل الجيش مضمونة.
وحين انطلقت الثورة، ونجحت، رغب ناصر ورفاقه في أن يقدموا للعالم وجها ناضجاً، ورتبة عسكرية عالية. وإذ كانوا شباباً حديثي السن، ولا يتعدى أغلبهم رتبة البكباشي (رائد)، فقد اتصلوا بنجيب وأعلموه أن الثورة قد سيطرت على البلد، وعرضوا عليه أن يكون رئيساً لمصر. فضحك نجيب ـ وراء خط الهاتف ـ بفخر معجب، وقال كما يقول كل كبير متردد للشبان المتحمسين الذين نجحوا:
ـ انتو عملوتها يا أولاد؟
وهكذا صار محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر.
حين رفض ناصر تسليم الثورة للإخوان، كان الرئيس محمد نجيب قد صدق أنه هو من قام بالثورة، ورغب في (التحرر) من سلطة مجلس قيادة الثورة، فتوجه نحو الإخوان، وبدأوا بوضع الخطط للاستيلاء على الدولة، بمساعدته.
أدرك ناصر ذلك وكشفه. فعزل نجيب. لكن الإخوان ملأوا الشوارع بالتظاهرات المطالبة بعودته، وتسليم الدولة للسياسيين من رجال الدولة السابقين ـ يعني لأنفسهم ولأعوانهم ـ مع أنهم هم كانوا أهم من طالب ناصر في الشهور الأولى بإلغاء الأحزاب.
تزايدت التظاهرات وهددت الثورة. فقبل ناصر بإعادة نجيب، إعادة تكتيكية، حيث وقف بالشرفة مع “عبد القادر عودة” القائد الإخواني، الذي وقف ـ بشموخ باشا يخاطب فلاحي عزبته ـ متوجهاً إلى الجمهور المغيب، بضرورة طاعة الأمر بالمغادرة، فقد تحققت مطالبهم.
لا جرم. فقد عاد أنصار الإخوان! فهم متعودون على الطاعة في المنشط والمكره.
عادوا وعاد الرجل الذي صدق أنه رئيس مصر التي صنعت الثورة، عاد محمد نجيب إلى سدة الرئاسة ليحكم مجلساً خلق الثورة وينتظر الآن قررا إعدامه من شخص هو الذي أتى به إلى السلطة.
لكن مجلس الثورة كان بالمرصاد.
عاد نجيب، ريثما يتم عزله مرة أخرى. ولكن بعد أن أعدم ناصر أعداء الثورة، وعلى رأسهم عبد القادر عودة. وعزل نجيب وفرض عليه الإقامة الجبرية في بيته. وكان سيد قطب طوال ذلك مؤيداً لمجلس الثورة ولناصر، إذ لم يكن قد صار من الإخوان بعد.
كان المرشد الأول حسن البنا قد أسس جهازاً سرياً أسماه “الجهاز الخاص” الذي سوف يُصِرُّ الإخوان ـ بعد نكستهم ـ أن الهدف من تأسيسه كان قتال العدو في فلسطين. وحين اضطر حسن البنا إلى إرسال مجموعات صغيرة من الإخوان المسلمين للقتال في فلسطين، لم يقل أحد من الإخوان إنهم من الجهاز الخاص، فلقد كان واضحاً للجميع بأنهم كانوا مجرد متطوعين تلقوا تدريبات ميدانية سريعة في ثكنات الجيش. فلا أدري كيف أمكن للمغيبين من عناصر الجماعة، أن يصدقوا أن الجهاز الخاص قد تم إنشاؤه للجهاد في فلسطين، وهو لم يجاهد في أي مكان، سوى الدولة المصرية!
ومن جهة أخرى يمكن القول بكل ثقة، بأن الإخوان الذين دونوا شهاداتهم الكاذبة على التاريخ، قد حرصوا على نسبة كل إنجاز للجيش المصري لهذه المجموعات المتطوعة؛ بل ونسبوا كل بطولة لقائد أو مجند مصري إلى هذه المجموعة الصغيرة: فهم على سبيل المثال، حين رأوا بطولات الضابط المصري أحمد عبد العزيز، صاروا يزعمون أنه من الإخوان المسلمين. فلو شاء الله وعاش أحمد عبد العزيز وعذبهم في السجون، لما ادعوا إلا أنه من نسل الشياطين. ولم نذهب بعيداً، وقد كان ناصر منهم، فلما لم يسلمهم السلطة، أنكروا أنهم عرفوا فيه ثائراً، بل قالوا بأنه ينحدر من سلالة يهودي مغربي قدم إلى مصر في زمن سابق؟
حسناً، لقد قال الإخوان بأن الجهاز الخاص، قد تم إنشاؤه للقتال في فلسطين. ولكن القتال في فلسطين انتهى آخر الأمر، فيما واصل الجهاز الخاص بقاءه.
وفي السادس والعشرين من أكتوبر عام 1954، أثناء إلقاء خطابه في ميدان المنشية بالإسكندرية، أطلق الإخوان المسلمون النار على ناصر. لكن الله سلمه. فشنت أجهزة الدولة المصرية حملة اعتقالات ضد الإخوان المسلمين، تشبه الاعتقالات التي كانت قد شنتها ضدهم قبل الثورة. ولم يكن ثمة قائد إخواني اسمه سيد قطب. لكنه سيكون من بعد، وسينشئ تنظيماً سرياً جديداً، ليعيد الكرة، فيفشل، فيتم إعدامه، فيملأون الدنيا ضجيجاً بأن ناصر قد أعدم مفسر القرآن. وكأن تفسير القرآن يمنع شخصاً بأن ينقض على دولته بالسلاح!
تلكم هي بعض من صورة التراجيديا القطبية الشهيرة، التي سيحاول الجهاز الرسمي للإخوان أن ينفيها فيما بعد، رغم أن كتّاب الإخوان أنفسهم قد اعترفوا بها. لكن واقع الإخوان في السنة اليتيمة التي حكم فيها مرسي مصر (2013) يؤكد أنهم كذبوا في روايتهم عن مرحلة ناصر.
في 26 أكتوبر 1954، أطلقت خلية من الجهاز السري الإخواني النار على عبد الناصر، أثناء إلقائه خطاباً جماهيرياً في ميدان المنشية بالإسكندرية. ورغم أن الإخوان طوال مرحلة (الابتلاء) ظلوا ينكرون هذه التهمة، إلا أن كتابهم وقادتهم اعترفوا بها، بعد أن أفرج عنهم السادات، وصاروا يشعرون بالتمكين.
تمت محاكمة وإعدام عدد من المتورطين. في هذه اللحظة كان سيد قطب قد صار من الإخوان، واعترف عليه أعضاء الخلية بأنه واحد منهم. فحكم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً. وخلال فترة سجنه ألف كاتبه (في ظلال القرآن) حيث يبدو واضحاً من تأمل الكتاب ومراجعه أن مؤلفه لا يخضع لسجن قاس، فالمصادر في مكتبه السجن متوفرة له، وتواصله مع الخارج معلن عنه، والكتاب يطبع أولا بأول تباعاً، مع أن مؤلفه متهم بالإرهاب.
امتلأ كتاب الظلال بالأفكار التكفيرية، إلى درجة أنه كفّر الأمة كلها، حكاماً ومحكومين. وهذا هو نص ما قاله حرفياً في كتاب (في ظلال القرآن):
“لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا اللّه. فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان ونكصت عن لا إله إلا اللّه، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن “لا إله إلا اللّه” دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية الحاكمية التي يدعيها العباد لأنفسهم… إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا اللّه… البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات “لا إله إلا اللّه” بلا مدلول ولا واقع. وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد ـ من بعد ما تبين لهم الهدى ـ ومن بعد أن كانوا في دين اللّه” (انتهي بنصه من: الظلال. مجلد2. دار الشروق. ص1057).
بعد عشرة أعوام من سجن سيد قطب، عفا عنه الرئيس عبد الناصر لمرضه، فخرج من السجن عام 1964 ليعيد تشكيل الجهاز السري.
لقد أوتي الرجل قدرة هائلة على التصورات المتعجلة، التي أتاحتها له مبالغته في تقدير نفسه، حتى إنه تصور أن عبد الناصر عدوه الشخصي. وكان المرشد الهضيبي يشجعه. من هنا فلا غرابة أن يعاود محاولة الانقلاب.
كانت الخطة تقضي باغتيال ناصر، من خلال تجنيد قناص يعمل بالحرس الرئاسي، وتفجير القناطر الخيرية، لتغرق الدلتا، وتنشغل الدولة بمحاولات إنقاذ ملايين الغرقى، فينقض المنقلبون على مفاصل الدولة.
ولما قُبض على المتهمين، اعترفوا على سيد قطب، فاعترف بما وُجّه إليه من تهم، وصدر الحكم بإعدامه، فأعدم. ومن يومها والإخوان ينسبون إليه أقوالاً لم يقلها. حتى وصل بهم الحد إلى الزعم بأن ناصر رجاه، أن يعترف بحكمه مقابل العفو، فأبى. لكن أطرف ما سمعته من ترهات حول هذا الموضوع، ما قاله شيخ ديماغوجي شهير، من أنه قال لأخته حميدة يومها، بأنه اختار الموت، لأنه رأى الرسول وسيفطر معه بعد المغرب.
فهذه الرواية المزيفة منقولة من كتب التاريخ، ومنسوبة لعثمان بن عفان، حين حوصر فأبى التنازل عن الخلافة. والأطرف من كل ذلك أن أحداً من عائلته لم يحضر إعدامه، الذي تم في ساعة مبكرة من صباح ذلك اليوم. فكيف تم نقل الرواية المزعومة.
إنها المخدرات الفكرية يا أصدقائي؟
أقلقت أفكار سيد قطب عدداً كبيراً من قادة الجماعة، واعتبروها تطرفاً لا يليق بجماعة من أهل السنة. فألفوا كاتباً يرد على الظلال، ويفند ما ورد فيه من تكفير. باسم: (دعاة لا قضاة) الذي وضع عليه اسم المرشد حسن الهضيبي، وظل الكتاب الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين طالما كان ثمة ابتلاء، إلى أن يشعروا بشيء من التمكين فيقصونه ويستنكرونه.
لقد تصدى الكتاب لانحرافات فكر سيد قطب بالتفنيد.
لكن الزمان سيتغير، وسيشعر الإخوان بالتمكين في مصر وأماكن أخرى، فيقذفون (دعاة لا قضاة) جانباً، ليستمر الظلال يزرع بذور التكفير.
والآن مَنْ مِنَ الإخوان هنا سمع بهذا الكتاب، الذي كان جزءاً من الواجب اليومي في الأسر، قبل موت المرحوم عمر التلمساني؟ لقد مات عمر التلمساني، فصار الجهاز السري هو من يقود الجماعة، وصار كتاب (دعاة لا قضاة) من المحرمات.