مرحلة البطالة النضالية للفصائل والقوى الفلسطينينة
سري سمور | فلسطين
بُعَيْد توقيع اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) في حدائق البيت الأبيض مباشرة، وجه الرئيس عرفات من مقر إقامته المؤقت في تونس رسالة إلى الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بتطبيع الحياة، أي الطلب من الجماهير العودة إلى روتين الحياة اليومية الذي كان قبل 9/12/1987، وهذا الإعلان اعتبره مؤرخون ومراقبون التاريخ الرسمي الفعلي لنهاية انتفاضة الحجارة بعد سنوات ست من المواجهات التي كانت تشتد أحيانًا وتخبو أحيانًا أخرى، مرفقة بنمط حياة جديد اعتاد عليه الناس.
ليس من السهل على الجمهور العودة عن نمط حياة اعتاده وصار نمطًا معيشيًّا يوميًّا، إلا بعد فترة من الزمن، ولهذا، حتى بعد انسحاب قوات الاحتلال من المدن، ووجود السلطة، اعتاد الناس مثلاً على إقفال محلاتهم التجارية بتصرف عفوي ألفته نفوسهم مع ساعات العصر.
وبقي إضراب التاسع من كل شهر، الذي تتشارك في الإعلان عنه عدة فصائل، قائمًا حتى انسحاب قوات الاحتلال تقريبًا، ومع ذلك بدأ الجو العام يختلف مع شعور الناس بأنهم أمام مرحلة جديدة مختلفة عمّا كان في بضع سنين خلت، وبدأ الجميع، سواء من هو متفائل أو متشائم أو (متشائل)، يترقب، ويضع سيناريوهات محتملة عن طبيعة المرحلة القادمة.
أما الفصائل والقوى والحركات الفلسطينية التي فعليًّا قادت وحركت فعاليات الانتفاضة وأدارت بطريقة أو بأخرى الحياة اليومية للناس في مناطق الضفة وغزة، فقد دخلت ما يمكن أن نسميه مرحلة (البطالة النضالية)، ذلك أن طابع الانتفاضة عمومًا أوجد حالة من انخراط مجموعات كبيرة من الشبان والفتية في صفوف الفصائل وفق سياقات معينة، قد تكون لكل منطقة أو تجمع سكاني خصوصية ظروف مختلفة عند الالتحاق بأي فصيل، يدركها كل فلسطيني في الداخل.
وعمومًا فإنّ المنخرطين في الفصائل؛ كان شغلهم الشاغل فعاليات الانتفاضة المختلفة، مثل الإضرابات ورشق جنود الاحتلال بالحجارة ووضع المتاريس والكتابة على الجدران وملاحقة العملاء، والمظاهرات والمسيرات، وما تتطلبه هذه الفعاليات عمومًا من مظاهر؛ مثل ارتداء اللثام أو القناع، وبالتأكيد محاولة جلب عناصر جديدة لفصائلهم (الاستقطاب).
المرحلة الجديدة خلقت. أو فرضت، واقعًا جديدًا، كما أوجدت تغيرات اجتماعية ملحوظة، أزعم أن المهتمين بالمقاومة قد تجاهلوها أو أهملوها، ولم يدركوا مدى وعمق تأثيرها على المقاومة فكرة أو ممارسة.
وحالة (التحزّب)، إذا جاز الوصف، خلقت عند الجمهور نوعًا من الظنّ، بل أحيانًا الاعتقاد، بأنّ كل فرد لا بد أن يكون منتسبًا أو محسوبًا على فصيل ما، وحتى حينما يجدون بيتًا فيه بضعة أشقاء ليس لهم كما يقال شيء (في العير أو النفير)، كانوا يركّبون لهم انتماء ظنيًّا لا يخلو من الطرافة أو شطحات الخيال!
وهذا غير دقيق فثمة من هم فعلاً في ذروة المواجهات وعند خفوت وهجها، من حرصوا بشدّة على ألا يُصنفوا ضمن أيّ إطار سياسي، وهناك بعض أرباب الأسر من استخدموا الشدّة لإبعاد أبنائهم عن المشاركة في أيّ فعالية ضد الاحتلال ولو كانت تشييع جثمان شهيد، فضلاً عن إبعادهم عن حالة الاستقطاب والتحزب السائدة.
الحالة الجديدة جعلت عناصر وكوادر الفصائل في وضع (بطالة نضالية)، فبعد انسحاب قوات الاحتلال من مراكز المدن، وتراجع احتكاكها بالسكان، لم يعد لعناصر التنظيمات وكوادرها، نشاط، إلا فعاليات محدودة، متباعدة زمنيًّا.
قلت في مقالة سابقة إنّ ظاهرة عسكرة الانتفاضة تصاعدت، وطبعًا ليس من الممكن بحال من الأحوال، في ظروف الشعب الفلسطيني في الداخل، أن ينخرط كل عنصر في العمل المسلح، والذي اضطلعت به خلايا صغيرة، موزعة على مناطق الضفة الغربية (بما فيها القدس) وقطاع غزة.
وفعليًّا بعد تطبيق اتفاق أوسلو، وتسلم السلطة مسؤوليات التجمعات السكانية الكبرى، اقتصرت الحالة النضالية أو المقاومة إجمالاً، على عمليات عسكرية غالبها (استشهادية) تنفذها كل من حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، فعمليا لم يعد لعناصر الحركتين من غير العسكريين، إلا هامشًا محدودًا من العمل النضالي، اقتصر أغلبه على العمل الطلابي، وبقية عناصر الفصائل الأخرى لا يختلفون عن الحركتين، نظرًا لتشابه النشاط المقاوم في السنوات الست الماضية.
ودعونا نستعرض بعضًا من أحوال الفصائل والقوى في تلك المرحلة، مع التأكيد أن المرحلة الجديدة نزعت من الفصائل فعليًّا قيادة الجماهير وتوجيهها، وحتى بعد ذلك وإلى الآن، لم تتمكن الفصائل والقوى السياسية أيًّا كانت من استعادة دورها الحاسم المركزي الذي كان لها في فترة انتفاضة الحجارة، وحيث إن المجال لا يتسع؛ سأبدأ في هذا المقال بحركة فتح على أن أتحدث عن القوى والفصائل الأخرى في مقال أو مقالات لاحقة بعون الله وتوفيقه.
حركة فتح…مرحلة مختلفة نوعيًّا
أعلنت حركة فتح بأغلبية ملحوظة تأييد اتفاق أوسلو، باعتباره ممرًا إجباريًّا نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وأنه في ظل الظرف الدولي (أحادية القطبية الأمريكية بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي) والإقليمي والعربي (نتائج حرب الكويت وتدمير الجيش العراقي) ليس من الممكن تحصيل شيء أكبر في هذه المرحلة، وأن (البندقية تزرع والسياسة تحصد) و(البندقية غير المسيسة قاطعة طريق) وأن على الجماهير الالتفاف حول القيادة التاريخية لمنظمة التحرير، وأن الاتفاق وإن كان محفوفًا بالمخاطر، وطريقه مزروع بالألغام، فإنّ شعبنا واع وعنيد ولن يسمح بإضاعة ثوابته الوطنية، وأن قضايا الوضع النهائي (القدس واللاجئين والحدود) ستناقش ويتفاوض عليها فيما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية التي ستنتهي رسميا في 1999، ودعونا نعتبر هذه الفترة نوعًا من استراحة المحارب، وفق تلخيص مجمل الخطاب الفتحاوي المدافع عن الاتفاق آنذاك.
كما استخدمت فتح خطابًا اعتبر جديدًا على مفرداتها الثورية المعتادة التي كانت تركز على التحرير والكفاح المسلح، حول أهمية وضرورة بناء الوطن والمؤسسات، وأن المستقبل يبشر بالخير، نظرًا لتميز الإنسان الفلسطيني، فهو الذي ساهم في إعمار وبناء وازدهار العديد من الدول العربية التي كانت في حالة صعبة، فكيف عندما تحين له فرصة لبناء وطنه؟! ففلسطين فيتنام اليوم وسنغافورة (أو يابان) الغد وفق يافطات علقت في أماكن بارزة في غير مدينة في الضفة الغربية.
وانخرط كثير من قادة وكوادر وعناصر فتح في مؤسسات السلطة المدنية والأمنية، إلى درجة يبدو تعبير أن حركة فتح هي (العمود الفقري) للسلطة صحيحًا بنسبة كبيرة.
كان هناك بعض الأصوات المعارضة بصخب للاتفاق داخل حركة فتح، وعمدت حركة حماس عبر ما أتيح لها من منابر أن تبرز هذه الأصوات في إطار التحشيد الذي تمارسه لمعارضة الاتفاق، ومحاولة تجييش الجمهور ضده، ولكن بعض نشطاء اليسار (الجبهات تحديدًا) اعتبروا أن المعارضة داخل فتح تأتي في سياق (توزيع الأدوار) ومن أجل احتواء المعارضة.
وحقيقة كانت المعارضة للاتفاق داخل فتح متنوعة الدوافع والأسباب ومن غير الموضوعي وصفها بصفة واحدة أو تبني تحليل أحادي تجاهها، ولكن مع مرور الوقت انكمش المعارضون الفتحاويون، لأن تطور الأوضاع لم يعد في سياق (نعم) أو (لا) للاتفاق فقد حصلت تطورات جديدة تتجاوز فكرة المعارضة الجوهرية، وصار المعارضون ضمن (السستم) بطريقة أو بأخرى.
واختيار حركة فتح تجميد الفعل المقاوم لإعطاء فرصة للاتفاق، أدخل المقاومة في مرحلة حرجة عموما، وحوّلها إلى مقاومة فصائلية (ترتكز على حماس والجهاد الإسلامي) وأخرجها من الإطار الشعبي العام، ذلك أن حركة فتح لها جمهور واسع من الأنصار والمؤيدين، وهي التي قادت فعليًّا النضال الفلسطيني لعقود طويلة، ونشأت أجيال فلسطينية، على مفردات الحركة ورموزها وبطولاتها ومعاركها، وقصص شهدائها، وتواءمت نفسيًّا مع سرديتها للصراع والعلاقات الفلسطينية مع العرب وغيرهم.
والآن الحركة التزمت باتفاق ترعاه دول كبرى وعظمى، وأدوات تأثيرها على الشارع لم تعد فقط بالبعد المستند إلى الإرث النضالي الطويل، بل بشيء رسمي معترف به، وله أذرع تنفيذية وتشريعية، ستؤثر على مجموع الفلسطينيين في مناطق السلطة التي تقودها بل حتى خارجها، فمن أيد ومن عارض ومن وقف على الحياد، تأثر مباشرة بالوضع الجديد بمخرجاته المتنوعة.
وقد عقدت السلطة انتخابات رئاسية وتشريعية في مطلع عام 1996 بعد شهور من تسلم السلطة مراكز المدن في الضفة الغربية، وبعد عام ونصف على انسحاب الاحتلال من معظم أرجاء قطاع غزة ومدينة أريحا، و فازت فتح بأغلبية مريحة في الانتخابات التشريعية، كما في الرئاسية، في ظل مقاطعة حماس والجهاد الإسلامي والجبهات لتلك الانتخابات، وفي تقديري أنه حتى لو شاركوا فيها مثلما كان لاحقًا في 2006 أيضًا لفازت فتح.
قبل أن أختم أود الإشارة إلى أن المعارضين للاتفاق وحتى بعض من أيدوه بشدة، قد وقع في خلدهم أن التراجع عنه أو فشله وانفجاره كليًّا وارد بل مؤكد، وهذا تفكير –لا أنكر أنه انتابني شخصيًّا لفترة ما- خاطئ، فالتاريخ لا يعود إلى الوراء والفشل والتفجير والتراجع سيكون لملفات معينة ولكن دون السماح بالعودة إلى ما قبل مرحلة التنفيذ فيما يخص حياة الناس ونظامهم الإداري.
ولو أن المعارضة فكرت من هذا المنطلق ربما لتجنبنا الوقوع في مطبات عدة، ولكن قدر الله وما شاء فعل.