الفلســفة والكهــف والاســتبداد العربــي

أحمد برقاوي | مفكر فلسطيني

يسأل سقراط غلوغون في جمهورية أفلاطون قائلاً: تصور طائفة من الناس تعيش في كهف سفلي مستطيل ويدخله النور من باب، وقد سجن فيه (أي في الكهف) أولئك الأقوام منذ نعومة أظفارهم والسلاسل في أعناقهم وأرجلهم فاضطرتهم للجمود والنظر إلى الأمام فقط، ذلك أن الأغلال تحول دون التفاتتهم، ثم تصور أن وراءهم ناراً ملتهبة, في موضع أعلى من وقوفهم، وأن بينهم وبينها تلة عليها جدار منخفض كسياج المشعوذين الذين ينصبونه تجاه مشاهديهم وعليه يجرون ألعابهم..وتصور أناساً يمشون

وراء ذلك الجدار حاملين تماثيل بشرية وحيوانية مصنوعة من حجارة وأخشاب ضخمة مع كل أنواع الأواني مرفوعة فوق الجدار. أوليست معرفتهم بما يمر أمامهم من الأشياء محدودة على القياس نفسه. فتأمل ما يحدث لهم إذا أمضى مجرى الأمور الطبيعي إلى تحريرهم من القيود وشفائهم من جنونهم.

ترى هل حدد أفلاطون لنا مهمة الفلسفة مرة وإلى الأبد، تحرير الناس من قيودهم وشفاؤهم من أوهامهم؟

والحق أن دلالة الكهف من كهف أفلاطون إلى كهف بيكون واحدة. سجن يحول دون الرؤية ودون التمييز بين الخيالات والنظر. بل قل الكهف سجناً يعني هو النقيض للحرية. الكهف قيود تمنعنا من أن نكون أحراراً, لأن القيود والسلاسل تمنعنا حتى من الاستدارة.

يقول لنا الغربي على شاكلة هيدغر إن الشرقي على حافة الفلسفة. لأن كينونته لا تسمح بظهور الفيلسوف، وكأنه يقول لنا إن الشرقي هو ابن الكهف الدائم. فهل الكهف هو قدرنا فعلاً؟

إن تعالي الغربي لا يسمح له بأن يرى الشرقي حراً. أن يرسم مسار حريته من اليونان أصل الفلسفة أو مناخها إلى يومنا هذا. لسنا خارج الكهف بعد، والسلاسل التي قطعها الغربي، والأصفاد التي حطمها, والقيود التي كسرها، ما زالت تشكل جزءاً أساسياً من وجودنا.

ولهذا آن لنا أن ننتقل من حافة الفلسفة إلى الدخول في أتونها، متكئين على وعيٍ أولي بالفلسفة. لا ليست مهمة الفلسفة إضاءة الكهف وإبقاء الناس فيه، بل إخراج الناس من الكهف إلى الكينونة الحرة، غير أن مهمة كهذه، تتطلب أولاً وقبل كل وعي، وعياً بالكهوف نفسها وحال الساكنين فيها. وقبل أن أحدد الكهوف الكائنة أسأل هل حقل التفلسف ممكن الآن؟

إنني إذ أميز بين حقل التفلسف والفلسفة، فلأن الفلسفة لا جدوى منها دون حقل التفلسف، حتى ولو ظهرت تاريخياً أن حقل التفلسف هو حقل مجتمع الأحرار, كلما اتسع مجتمع الأحرار اتسع حقل التفلسف, دون أن يعني ذلك عدم ظهور فيلسوف في حقل عبودي بالمعنى الفلسفي للكلمة.

إن حقل التفلسف في وطننا العربي، هو حقل الوعي بالعبودية, والوعي بالعبودية نمط من وعي الحرية، فمن لا يتوافر على وعي ما بالحرية لا يعني عبوديته. والوعي بالعبودية وعي بغياب الحرية, لكن الوعي بالعبودية ليست وعياً عاماً, كما أن هناك وعياً زائفاً بالعبودية عند جمهور يسعى للانتقال من نمط عبودي إلى آخر.

وبالتالي إن حقل التفلسف متوافر مع توافر حقل الصد له, إنه حقل الوعي بالحرية دون حضور الحرية، لا بالمعنى اليوناني ولا بالمعنى الأوربي الحديث والمعاصر، تجعل لنخبة الفئات الشاعرة بالحرية في ظل النمط الآسيوي ـ الشرقي للسلطة، تجهد لأن تجعل من وعيها هذا حقلاً لتفلسفها.

وبعض المشتغلين بالفلسفة عندنا، تحايل على الفلسفة عبر اللجوء إلى الوعي الفلسفي ـ اللاهوتي الإسلامي في عملية استظهار قراءة شكلية. ولهذا هناك معركة حقيقية تقوم بين الفلسفة وحقل التفلسف, وهذا ما يحول دون انتصار حرية التفلسف انتصاراً كاملاً أو شبه كاملٍ, فلا تنتصر حرية التفلسف إلا بانتصار حقل التفلسف.

والفلسفة إذ تواجه الاستبداد السياسي الشرقي والاستبداد اللاهوتي، تضفي على نفسها التقية التي لا تطيقها الفلسفة أصلاً.

يفترض أن الفيلسوف العربي، أكثر الناس الشاعرين بحريتهم، وإلا لما اختار أن يفتح أكثر الكهوف عتمة، كهف الاستبداد الذي هو الكهف الأول، الذي تميزه الفلسفة، لكنه يحب أن لا يدخله بأسلحة تقليدية، صنع الاستبداد أسلحة مضادة ناجعة لها.

ليس من شيمة الفيلسوف بعامةٍ، والعربي بخاصة، أن يتنازل عن جعل الإنسان المتعين أساسياً للتفلسف بوصفه مركز العالم مركز الحياة بكل أشكالها. فالتفضيل الإلهي للإنسان وعي لاهوتي لا يحقق مركزية الكائن الإنساني بل يؤكد مركزية الإله نفسه.

والفلسفة إذ تنتصر للأنا تحرراً من الوعي القطيعي فإنها تؤسس لانتصار الذات. وانتصار الذات لا يعني سوى أنها لن تتحول بعد اليوم إلى موضوع، وإن جرى تحويلها فإنها تهب للدفاع عن كينونتها ذاتاً غاية. ففي عالم توحدت فيه مركزية الإله مع مركزية الحاكم، وتوحدت صفاتهما مع الفرق في الممارسة, فإن الانتصار للذات المستلبة موضوعاً، هاجس أصيل لفلسفة تسعى لإخراج الناس من كهف هم فيه مواضيع ليس إلا.

لما كان الفيلسوف ذاتاً، ولما كانت الذات لا تكون ذاتاً إلا في علاقة بموضوع, ولما كان الموضوع حقل امتلاك الفيلسوف, فالفيلسوف هو إذاً حرٌ بالضرورة, ذلك أن امتلاك الذات الموضوع يفترض ذاتاً حرة، تجعل من كل موضوع امتلاكٍ فلسفي موضوعاً ممكناً. ممكن المعرفة ممكن التغيير. وكل واقع ممكن المعرفة ممكن التغيير يتطلب لكي يصير موضوعاً للذات، ذاتاً حرة لأن الممكنات حقل حرية الذات, أو الحقل الذي تتعين به الذات. ولهذا فالفلسفة وهي تكشف عن الممكن أمام البشر أنفسهم فإنها تطلب منهم أن يكونوا أحراراً كي يصبح الممكن موضوعاً لإرادتهم. وهذا هو أس الترابط بين الحرية والوجود الذي ما زالت الفلسفة تجهد للتعبير عنه.

وإذا كان عالم الفلسفة كما أرادها أفلاطون هو المثال, ولما كان المثال هو المفهوم وليس لدولوز فضل في ذلك ولما كان المفهوم بعد قده مفتاح معرفة فإن الفلسفة لا تكتفي بقد المفهوم. وآية ذلك أن الفلسفة وهي تقد المفهوم فإن عليها أن تفضح ما يشبه المفهوم من جهة وتخليص ما علق ببعض المفاهيم من صفات واستعادته أداة معرفية.

فالناس يعيشون في كهف يعج بأشباه المفاهيم والمفاهيم التي تراكم عليها صدأ الوعي العامي.

وما أشباه المفاهيم إلا كلمات ـ أسماء، هي ثمرة فاعلية عقلٍ في طفولته الأولى، حوّل دهشته إلى كائنات, سمّاها, ثم استمرت باستمرار بنية الوعي الطفولي وتحولت إلى سبيل شبه معرفة. هذه الأشباه المشكلة للوعي, لوعي رهط كبير من الناس لا يمكن لغير الفلسفة أن تبددها من بنية الوعي عبر تبديد بنية الوعي ذاتها. أي الكهف المبني من أشباه المفاهيم.

أما المفاهيم الصدئة, فهي مفاهيم بالأصل لكن الوعي قد طلاها بما ليس من ألوانها. إن تحرير المفاهيم لا يعني سوى استعادة المفهوم من لصوص العتمة. من أولئك الذين حملوها أحكاماً مضمرة هي بمثابة صفات ليس منها أبداً.

الكشف عن أشباه المفاهيم استعادة الدهشة الفلسفية والتحرر من الدهشة الأولى للعوام والمستمرة نتائجها في أشباه المفاهيم. لقد أماتت أشباه المفاهيم الدهشة كحالة مستمرة, فألقت الناس في كهف بلا أسئلة بلا هاجس البحث والمغامرة, إنهاء أكبر الكوارث المجتمعية أن يكون مجتمع بلا أسئلة جذرية، وإذ أقول أسئلة جذرية فلكي أميز بين أسئلة صادرة عن عقل طليق متعلقة بالوجود والإنسان والحرية والمصير والعقل الطليق نفسه، مرجع الجواب على أي نحوٍ جاء الجواب, وأسئلة العقل البليد التي تنطوي على جوابها ولا تتطلب إعمال نظر لأنها أسئلة المؤقت والجزئي.

ولعمري إن استعادة لحظة الدهشة, لحظة الأسئلة الجذرية, لحظة مغامرات العقل الطليق، العقل ذي القلب النضر المليء بالحب شرط الفلسفة الأول استعادة لمكانة الكائن الحر للأنا وقد صارت ذاتاً متجهة نحو الفعل.

أجل الفلسفة عقل طليق ذو قلب نضر وحميم ومحب.

ويسأل سقراط غلوغون… فتصور ماذا يحدث إذا هبط ذلك الإنسان ثانية إلى الكهف .. أفلا يغشى الظلام عينه لانتقاله فجأة من نور الشمس الساطع إلى ظلمات ذلك المكان. يسأل سقراط أيضاً وإذا اضطر إلى إبداء رأيه في تلك الظلال ومجادلة الراسفين في القيود كل الدهر بخصوصها أي بخصوص الظلال, حال كون عينين حسيرتين, وإذا ظل على تلك الحال زمناً طويلاً أفلا يكون موضوع هزءٍ ويقولون انه صعد سليم النظر وعاد …عليله… أفلا يكون من الصواب براح ذلك الكهف, وإذا حاول أحد فك أغلالهم وأصفادهم إلى النور, أفلا يستاؤون منه إلى حد أنهم يغتالونه ان كان بيدهم طاقة الإيقاع به.

يجيب غلوغون بلى إنهم يغتالونه…

لكن سقراط لم يسأل غلوغون وماذا يفعل ذلك الإنسان الذي رأى نور الشمس, في هذه الحال أيصمت خوفاً من اغتياله؟ ويحق لي أن أجيب عن سؤال لم يخطر على بال سقراط ولم يذكره به غلوغون: لا. “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى