عزيز أفندي
يكتبها : محمد فيض خالد
قالوا إنّ أسلافه من أصولٍ أرمينية، ودليلهم السّاذج حُمرة وجهه القاني التي تُشبه لونَ الطّربوش ، ولغده المُتدلى بنتوءات عريضة، يفترش فوقَ رقبته الغليظة كضرع بقرة سمينة ، ناهيك عن خده الأثيل الأمرد، وزُرقة في عينيه تُشبه في نقاءها ماء التّرعة ساعة يبعثر الفجر رايته البيضاء، ما إن يُذكَر اسم ” عزيز أفندي ” بين الفلاحين في أنديتهم؛ حتى يتغامزوا بكلماتٍ عدت بمرورِ الزّمن أشبه بالوردِ المكرور، يُقسِمون بأغلظِ أيمانهم:” إنّ صنعة أجداده التي أوكلت إليهِ كُلّ هذا الجاه العريض هي الخمور، لقد كانوا من أكبر تجّار الخمور في الصّعيد ” غيرَ أحدا منهم لم يستطع إثبات دعواه ، جميعها أضغاث أحلام ، سريعا سريعا تتبخّرُ في نفسِ كُلّ مشتهٍ حاسد، يتمنّى في دخيلةِ نفسه: ” يا ليتَ لنا مثل ما أوتي عزيز أفندي”، تتقافز خيالات كثيرة، تزاحم عقول وضمائر الجالسين ، يأكل الغيظ شغاف القلوب ، يعدّوا عليه أطيانه التي بلغت الألف فدّان، وماكينات الرّي والحرث التي لا يهدأ ضجيجها ليل نهار، وأسراب المواشي من كُلّ صنفٍ، تتناطح بين جَنباتِ الحَظائر، وبساتين الفاكهة تتلألأ ثمارها لذّة للناظرين، كأنّها جنة عدن التي وعِدَ المتقين، يتَمطّى سباعي خفير الإصلاح متثائبا في كُلّ نوبةٍ، ليقول: ” الملك للهِ، ما دايم إلّا وجهه، الكفن مفهوش جيوب ” تتحدّث أبهة قصره عن أنّ صاحبه سليل نعمة وربيب جاه ، يُقسِم ُ” منقاريوس” دلال الزِّمام :” إنّ لمعة زجاج نوافذه المتوهجة ، يراها من على مسافةٍ بعيدة “
لم يُخالِط ” عزيز أفندي ” فلاحي القرية إلّا لِماما ، حتى زوجته الشّقراء وأبنائه في منأى عن عيونهم المتربصة ، فأسوار القصر العالية حِجابا مستورا، يعتقدواأنّها خُلِقت من طينةٍ غير طينتهم، أية طينة بل قُلْ من لبنٍ حليب، من عسلٍ مُصفّى، يُطَالِعون بياض جسمها الوضاح، ذراعيها العاريتين، حُمرة تقدح في وجنتيها المكتنزتين لحما طَريا، خصل شعرها الأصفر الوهاج الذي يفوق صُفرة سنابلهم، هي لا تُشبه بحالٍ من الأحوالِ نساءهم العِجاف، اللاتي تركن أنوثتهن بين الحقول، وفوق تراب الجسور وبركها، ونفضن البقية فوقَ روث البهائم في الحظائرِ، وأمام الأفران وكوانين النَّار، قالت ” فرحانة ” ضاربة الرّمل:” إن الست هانم ، شابة ريّانة، في زهرةِ العُمر وبسمة الصِّبا ،ذات قامةٍ سامقة ، وعيون فوارة تُرسِل السِّحر حيث تُرسل النّظر، سخية اليد ” على عكس زوجها، فمعروف عنه بخله وشحّه، تلتمع في عينيهِ شعلة الحِرص، لا يتحرّج أن يعلنها صريحة أمام جلسائه بصوتٍ راعش: ” هؤلاء الرِّعاع أعدى من بعوض البركة، إن أعطيتهم يدك التهموا ذراعك ” ، لا يلقي لنصائح أصدقائه بالاً ، حين اعتقدوا أن في تقتيره الزائد السبب في انتكاسِ صحته ، نَصَحوه أكثرَ من مرةٍ بالإحسانِ لهؤلاِء لكن دون فائدة .
صَارت أفعاله مادة للتندّرِ ، حَلفَ “سطوحي” المزين يوما برأسِ حماته :” إنّ جيب عزيز أفندي لا يخلو من البلحِ المحمص والكِشك، يلتهمه ساعة مروره على الغيطان ، وفِي مراتٍ كثيرة يهبط كالعمل الرَّدي فوقَ مناديل الأكل التي يتحلَّق حولها الأُجَرية ، فيأتي عليها دونَما غَضَاضةٍ، سُرعان ما يتجشأ شاكيا عللهِ وأوجاعه التي لا تنتهي “ساعتئذٍ تأخذ” سيد مصيلحي ” خفير الدايرة الشَّفَقة ، يُمصمص شفتيه في امتعاضٍ دفين، يجترّ حكاية مرض البيه الذي حارت فيه الأطباء ، يُردّد بصوتٍ مخنوق :” مسكين البيه بتاعنا، لا يأكل ولا يشرب إلّا بأمرِ الحكيم ” يمطّ بوزه اليابس متفاصحا:” ملعون أبو المال الذي يجرّ المرض والعلة، الحمد لله على نعمةِ الصّحة ، عود فجل ، وكسرة عيش ناشف بالدنيا وما عليها، سلطان زماني “، هنا تتعالى الضحكات في سخريةٍ هازئة، فهم على درايةٍ من أنّ كلامه لا يصدر عن ديانةٍ أو صيانة، لكنّها قلة الحيلة، وغطرسة الفقراء وفلسفتهم الفارغة، فلو كان صادقا ما تعوّد سرقة الذرة من حُقولِ الدايرة، ولا مدّ يده على سقطِ حديقة سيده، تبيعه زوجته في الأسواق، جميعهم وأسلافهم يرددون منذ عقودٍ طويلة هذا اللَّحن الأجوف، ولكنّهم يتَمنّوا في قرارةٍ نفوسهم المرض ولحس التراب؛ نظير ساعة نعمة يحيونها في سرايا ” عزيز أفندي ” يذوقوا من خيراتها، أمّا ” زيدان ” خفير السرايا فدائما ما يُلقي على سيده إشراقا هائلا من التُّقى والهيبةِ ، يتَصَاعد الدّم في رأسهِ حينَ يُذكَر بخل ” عزيز أفندي “، يقول بشيءٍ من المُرَاوغةِ والمُخاتلة :” البيه عنده لله كتير ، فعادته في كُلّ رمضان أن يذبح ويوزع على الفقراء، يا ناس اتقوا الله فيه “، ذاتَ صباحٍ داهمت قوة من الحكومة القريةِ، امتلأت السّرايا والجسور والسّكك بالعسكر المدججين بالسّلاح، نهروا الأهالي في شدةٍ ، أجبروهم ملازمة منازلهم، وبعد انجلاء الغبار ، تحرّكت الشّائعات تملأ المصاطب والحقول، يقول ” عبدالمنجي المنجد” بنبرةٍ الواثق وهو يلضم الإبرة :” لقد اقتادوا عزيز أفندي في ثياب نومهِ مُكبّلا بالحديدِ ، وجدوا في السرايا مخبأ سريا امتلأ بالمصاخيط، والجواهر الثمينة، بقية من كنوزِ قارون ولهذا أخذوه ” ، تناثرت القصص من أفواه الحقدِ والمكيدة، تنهش الرّجل، جعلت سمعته يوما بعد يومٍ تتساقط رمادا، فتحت شهية القُصّاص ، اندفعوا بلا رويةٍ يُردّدون من نسجِ خيالهم الباهت :” لديه عصا موسى، ما إن تمسّ النّحاس حتى تُحيله ذهبا إبريزا، ولديه أحد عروش الملكة بلقيس، ونخلة من اليَاقوتِ عراجينها من الزّمرد ، وطاحونة تحولُ التُّراب إلى دقيق “، وبعد شهرٍ بالتَّمامِ أذاعَ ” زيدان ” أنّ سيده قد عَادَ ” صَاغ سليم ” يكيد الأعادي ، ويُعيد هيبة السّرايا ورجالها، لتخرس الألسن، وتنطفئ نار الشَّماتة، عادت الأحقاد كما كانت تشبّ من جديدٍ ، تكمن خَلفَ الصّدورِ الحَرِجة ، تنتظرُ يوما تتَشفّى فيهِ ، حتى بعد أن فارَقَ ” عزيز أفندي” دنياهم بسنواتٍ طوال ..