المصير.. قصة قصيرة
عيشة خالد عبد المولى | الجزائر
اهتزّ رأسهُ متحركًا من موضعهِ مرسلاً ببصر يترقبُ نحو الباب المغلق الذي ندت منهُ حركة تنذرُ بقادم ، أرهف السمع للطرقِ الخفيف و قد اكتفى بتحريكِ عينيه من موضعهما دون أن يتحركَ الجسدُ الغارقُ تحت غطائهِ الرَّقيق مثقلًا بعجز المرض الذي صلّب أطرافهُ و قد شلَّ شقهُ الأيسر، فلم يعد لهُ حق تحريكِ عضو أو حرية تجعلهُ يدبُّ على قدمين سليمين فينصت لما يدارُ حولهُ من حديث لا يردُّ بهِ إلاّ بهمهمة يثارُ معها الرِّيق من الفم الذي انحرف على غير موضعهِ، واستكانَ برقدتهِ التي أتت تبتلعُ ما تبقى من أثر رواق الشباب الذي شمل متانة الجسد القوي وحماسته، وأقبلت العيون المتفجرةُ برغبة الشباب، و أطرحت مكانها وجل ينوبُ عن الذعرِ الرّاكد بجسدهِ وهو الذي كان يقوم مقام الصوتِ الزاجر الذي ينقاد لهُ فيما يقول بخنوع الطاعة المستجيبة، مؤديًا بما يجب عليه من فضائل الرجولة المضحية والمقيمة لأساس بيت قويمٍ أتى على انشائه سعيًا بجهد مبذول ، مغمورة نفسهُ المدفوعة على العاطفة التي تحيل منهُ قلبًا مبتهل الأحاسيس شغلهُ الحبُّ الذي عُمِّرَ على فض القلبِ الواسعِ فأتى عليه ساكنًا يقيم به الحب و الرضى و يبعثُ لهُ بالسعادة ،و قد تلقى من القلب المحب الواسعِ الودَّ و الاهتمام في أيامٍ بهيجة مكلّلة بولدين وبنتين ضاعفا له من حجمِ الألفة والعشرة الطويلة.
دلفت زوجهُ الحجرة و هي منبسطةُ الأسارير، وبعد برهة تبعها من الخلف رجل جميل المظهر برجولة نطق بنضجها الشاربان الملتفان في نهايتهما، بهندامٍ أنيق و هو يبعثُ بتحية المساء ترافقها ايماءة بالرأسِ للرّاقد أمامهُ ، و تقدَّم إليهِ متحاملًا على كرسي قبالة سريرهِ، و همّ يحادثهُ سائلا عن صحته و أخبارهِ كما ينبغي لزائرٍ قريب مهتم تبدرُ عليهِ سماتُ القلق لخالهِ المريض، فما ينفكُّ مداومًا زيارتهُ و يدخل عليهِ كلما بدا لهُ ذلك مشغل الفكر بأمره فيفعل أكثر مما يفعل الأخرون معهُ، و ما هي إلاّ لحظاتٌ معدودة حتى عادت الزوجة وهي تحملُ صينية بها إبريق الشاي وطبق حلوى، وضعتها على خوان بمقربةِ الضيف هي تنتقل لتجلس جانبهُ بهمّة تحركها الخفة ويلهجُ لسانها بترحابٍ قوي أعلنتهُ بنظرات واشية نطقتها بلا تعبير.
كانت سمراء بملامح دقيقة تنبت في اتزان جمالي و جسد متين عودهُ بأنوثةٍ فوارة، و تتدخلُ كلما همَّ الجالسُ محدثا الرَّجل فتجيبُ على لسانهِ وتقحمُ نفسها في حوار مصطنع من مألوف الأحاديث عن الأقاربِ والأهل فيما يطرقُ الزوجُ مغرق التفكيرِ مستشعرًا بحركاتها سرورًا خفيًا يغالبها، فيظهرُ مرتسمًا على ملامحِ الوجهِ المنشرحِ، تحاول مداراتهُ بابتسامةٍ آليةٍ تنبعُ نافذةً من القلبِ وعلى غير موضعِ الكلام المستدعِي لذلك واحتجَّ بذلك بثورة صامتة لا يبانُ منها الحنق الباطنِي على ما يحدث أمامهُ و احتجَّت بذاتهِ عواصف متأججة تنطلقُ منهُ في هيئةِ البركان الفائرِ، فلا يبدُو عليهِ غير الصمتِ الثقيلِ، و ينقلبُ الشحوب المصفرُّ إلى حمرةٍ تعتلي حدقتي العينين قبل أن تمرَّ للوجهِ الذي يفسرُ اعتصارة ألمٍ لما يشقُّ على المريضِ تحمُّلهُ، و قد بدا لهُ أنّ ما بينهما حوارًا يظهرُ على غيرِ حقيقته، وما هو إلا إشارات و همزات كاذبة مفرغة من كلِّ شيء يريدانهِ فيحاولان به مجاراة المريضِ العاجزِ، فلا يتكشف سرُّ ما يختلجُ بدواخلهما، إنّهُ يرقبهما بصمتٍ ويهتزُ جسدهُ الرَّابضُ في عجزهِ مرسوفًا وكأنَّهُ أفرغ من كلِّ قوتهِ التي فارت نحو رأسهِ المعذّبِ بموجِ مضطربٍ من الأفكارِ التي لا تكفُّ فلا يدركُ شيئًا بذاتهِ يمنحهُ الطمأنينة ويكذبُ انفعالاتهِ الظاهرةِ التي سيطرت عليهِ فيرهفُ سمعهُ و يحاولُ كلَّ مرَّةٍ أن يحرِّك الفم فيشتركُ معهما بأحاديثهما علَّهُ يخفت من حدّةِ الموقفِ الجارف الذي يتخبط فيهِ ويصغي بقوة أذنيهِ لكلِّ لفظٍ قد يغالبُ أحدهما فيخدعهما وينبئ بعاطفة خفية يودُّ رصدها فيتقصّى عليها بقوة معجزة تحيل لوح الجسد الرّاقدِ إلى قوةٍ هائجةٍ بحرارةِ الغضبِ، و يتذكرُ إخلاصها الطّويل لهُ والحب المتبادلَ المترعِ بفائضِ السرورِ الذي تنعم بهِ لسنوات، ممارسًا الأبوة و عاطفة الزوج المحب.
فلّما طرق هذا الزائرُ بابهُ انقبضَ لهُ القلبُ و جزع من خطر شرٍ محدِّقٍ و رائحة خادعة تنطقُ ضحكاتهُ بالهواءِ مفرقعة تهزأ بعجزهِ وعزلتهِ، إنّهُ قلبهُ يختبرُ الخوفَ و اليأس من أن تفلت الزوجة من يدهِ ، المرأة الجميلة التي حظي بها و ركض ورائها و منحها ما يحوي القلبُ من حبٍّ و رأفةٍ هل ستمقتُ ما بهِ من ضعفٍ و هي التي أحبت فيه من نفس قويةٍ بهمَّةِ الشبابِ الوافرِ ؟ هل تراني جثة ملتصقة ترومُ الرعاية و الاهتمام منها فتمكث معتنية بضعفي؟ أم ستتحملُنِي لأيَّام بدافعِ الشفقة ثم تهزأ بنداءاتي الصبيانية الطالبة للرحمةِ الصادرة عن شفاهٍ منحرفة في صورة كريهة؟ أصغى لما بينهما واعتلت بهِ حرارةُ ملتهبة فوضت هدوء ذهنهِ الذي حاول تصنُّعه و تمثلت له بصورتها المندفعةِ منتشية بحماس اندلع من الحبّ الجديد وهي تشقُ لهُ من تحت الظلامِ بجرأة شبحٍ لا يخافُ شيئًا و قد فرضَ بسطوة رعبهِ هدوءًا يقذفُ في قلبِه كلما ندت عنهُ حركةٌ مفاجئةٌ وتخيَّل نظرتها الحادّة بحور العين الفاحمةِ وهي تواصلُ أحاديثها في سرعة لا تودُّ بها أن ينقطعَ أمرُ الحديث في سرعة دلَّت على قلبٍ مترعٍ بالحبِّ الذي ودَّ تبهِ أن تنطق بهِ بلسانها، لولا رهبةٌ حدَّت من شأنِ قوتِها من الزوجِ المسكين و نشاطِ الجسدِ الخفيف الذي خدِّر بسرٍّ الحبِّ الذي يجعلهُ يهذِي بما لا يعي ، تغرقُ عينيها بالحب و تتهامسُ هازئةً بالمنطرحِ بنظراتٍ موحيةٍ وهي تلامسُ الجسد الماثل أمامها مزهوةٌ بثيابهِ وغلظتهِ التي امتدَّت منهُ ذراعانِ حولها في وقاحة استمدّت جرأتها من الأنوثة المجيبة لكلِّ ما يجلبُ الرضى للقلبِ الفتي وإن كان نداء عبثٍ من شيطانها الذي ارتدى لاعنًا حبسهُ في قمقمٍ صدئ.
وعاودَ الرَّجلُ مكرِّرًا زياراتهِ بالاهتمامِ المغلفِ برغائبهِ، و ندت من جدرانِ البيتِ رائحة خيانةٍ تنفذُ من تحتِ بابِ حجرتهِ و سلكت الدناءةُ بدوافع وحشيةٍ فلم يستطع معها قدرة كفيلة بأن يقاومَ لكرامتهِ أو يتفوّه بكلمةٍ تثأرُ لهُ من زوجهِ وابنِ أختهِ و استجابت للنَّظراتِ و القبلاتِ التي ينتفضُ لها القلبُ نابضًا بحيويةٍ يتحرَّى لها بعنادهِ ، في كلِّ لقاء يمهِّدُ جوّ الفضا الذي خلى من كل رقيب إلاّ من أولادٍ صغار لا يروعهم شيء مما يحدث ،فالقلبُ يغامرُ بكرامته في سبيلِ الحبِّ ، فمضت تفتعلُ الشجار و تنقبُ عن الغلطِ لتثور حانقةً عن دنيا تكافحُ بها بدل أن تعيشها و تنشبُ بأظافرِها المتحفِّزةِ كقطٍ بري يدفعُ عن نفسهِ شرًا من عدوٍّ يلاحقهُ فأهملت لهُ الرِّعاية التي بذلت أحسنها في العهدِ الأوّل من مرضهِ و آنست من وحدتهِ و هي تدفعُ عنهُ شرَّ أفكارٍ محمومةٍ يعاقبُ بها نفسهُ المستجيبةِ للمرضِ، و في لحظةٍ رفعت صوتها تطلبُ الطلاق هاجرةً البيت بنفسٍ راغبةٍ لذاتها السعادة التي أدبرت عنها و لم يتبقى لها منها إلاّ صورًا من الماضِي تتحسرُ عليها و لم تهب بعنادها أن تزيحَ ما يعرقلُ حياتها و إن كان زوجًا مريضًا ونادت بصوت صارمٍ :
حياتي معك باتت جحيم ملتهب و لا شيء سيتمخضُ عن هذهِ المقاومةِ العابثةِ، إنّك تتعفَّنُ حيًا وإنِّي أجاري حياتي معك بلا طائل ..
واستطردت بعد صمت قليل :
الطلاقُ رحمةٌ لكلانا…
فصمت مرهفًا للصوتِ الجريء الذي نطق بقوةٍ استمدَّها من ثقةٍ اشتدّت بها لتطلبَ الطلاق و هي تعي خطوتها الثانية، فودَّ الانقضاض متحسسًا جمودَ أطرافهِ الميتة و هي ملتصقة بالفراش طابعة عليهِ الأثرو صدق الريب الذي كان يزاحمُ فكرهُ و يهاجمهُ كلَّ ليلة متخيلاً خيانتها كلَّما وسم بها رقة الصوتِ الذي تقابلهُ بهِ و رأفة مطبوعة على الوجهِ الذي يظهِرُ نعومتهُ الأنثوية فيما يتبطنُ بعفن الفسق و ينفلتُ جسدها مذعنًا لثورة المجون المضمر بتلونه، وقد وجد نفسهُ يتفرَّسُ بها و يرغى من فمهِ المحاولِ للثأر بلهوجة غضبٍ أعمت ملامحَ عباراته المنطوقة بغير صحة مفهومة ، ولم تعر بالاً لفهمِ ما يريد قولهُ. وعادت تزيدُ من زواقِ كلامِها لتغلق به جموحها بأنها تطالب بحق لا سوء بهِ ولا عيب، فتلوَّت به رغبة تعتصرُ قلبهُ بالانتقام منها و تسمم جسدهُ الميتَ بقذارة احساس، حاولت الانفلات منها بأي وسيلة، ارتعت ما تبقى من صحة بدنهِ و رقب سقف الحجرة متأملاً و هو يضرع بقلب مكلوم يدعو ربهُ متوسلا أن تبتلى بنهاية تكونُ فيها جرسة و فضيحة تذاعُ سيرتها على كلِّ لسان و غلبتهُ عصارة الهياجِ التي شحنت عروق وجههِ بالدِّماء، مشخصًا إلى فوق حتى انثنى رأسهُ على رقبتهِ و قد أودع روحهُ الغاضبة و راحت تقبلُ على سعادة توليها كل اهتمامها تسبحُ في لذّةِ حياة كالحلمِ و قد أودعت ماضيها ورائها بذكرياتهِ مع الزوجِ الذي باتَ بصورتهِ مبعثا مقلقا ومكدراً لصفاءِ القلبِ النَّاعم بسعادةِ الحبِّ، لكنَّهُ لا يوقظهُ من هناءهِ مع إبن أختهِ الذي لا يشبهه بشيء راضيًا بها و بأبنائها الأربعة فأحسنت معاملتهُ ولم تدخرُ عنهُ سبيلًا لينال بهِ راحة و طمأنينة منبسطاً بها مبادلًا لها الحب الموفور بأعوامٍ معدودةٍ ليتقلّب على منظرِ رجلٍ لم تعهدهُ على ذلك الشأن الذي اتّضح عنهُ بشخصٍ جديد تقزز من ذاتهِ و قد استيقظ على شعور حقير كان ينازعهُ بارتكابِ الذنبِ في بيتِ خالهِ الذي كان يدخلهُ زائرًا ثمَّ عاد إليهِ زوجًا ففترت بهِ نوازعُ الرَّغبة الجارفة التي كانت تمحقُ لمَّا بداخلهِ من سوء فعلٍ يقترفهُ حتى لاذ بنفسهِ ضجرًا منها، فوجدت نفسها تواصلُ حياتها بأولادها الذين كبرُوا و كبر بقلبها مقت الرِّجالِ جميعًا فلعنتهُ و لعنت عقبهُ كل رجلٍ و أقحمت حياتها بوادر من شيء أصاب نفسها كالمرض فتكثرُ من خلواتها بنفسِها و تغلقُ بابها في وجهِ كل قادمٍ يزورها و تحادثُ نفسها بصوتٍ أشبه بالتمتمةِ و تحرصُ على التنظيفِ التّام لكلِّ ركنٍ من أركانِ البيتِ كأنّما ترومُ بفعلها إزالة ما علته من أوساخ لا تنظّف حتى تعيد كرَّتها المتتالية لحدِّ الوسوسة. و لا تثقُ بيدٍ دخيلة تقرب بيتها و تسكبُ دلو الماءِ وراء كلِّ ضيف فور ما يقربُ عتبة الباب و لو كان والدها ،الذي تطلُّ عليهِ من ضلفةِ الشِّباكِ فتغلقُ الباب و تدعِي خلو الدار من أي أحد فيعود أدراجهُ ،و تخرج عند هبوطِ الشمس فتتلفعُ بحايكٍ مرقع الجوانبِ بقطع ملوَّنة و تسحبُ ذيلهُ ورائها حتى يتآكل من التراب و تنطلق بموعد لا تزيدُ عنهُ أو تتأخر إلى السوقِ و الدّكاكين تخرجُ بذراعها ممتدّةً نحو العابرين و الباعة تطلبُ إحسان المحسنين و تتحفّزُ بعباراتٍ نابعةٍ من نفسٍ متوسلةٍ تشحذُ رأفة القلبِ قبل جيبهِ و تفترشَ الطّريق تقلبُ الرحمة في أوجهِ المارّة و تعود آخر اللّيلِ محمّلةً بأكياسِ مشترياتها مثقلة الخطى وسيرة شحذها على كل لسان فلا تبالي بها حسباناً..