الأمر الذي يحرك العزة في النفوس
رحاب يوسف | كاتبة وقاصة وتربوية فلسطينية
الإيمانُ بالله من أعلى أسباب العِزَّةِ، عندما تُؤمِنُ أنَّ اللهَ بيَدِهِ العِزَّةُ، وبيَدِهِ كُلُّ شَيءٍ، لم تَعُدْ تخشى أحداً أو شيئاً أمامَكَ، إن اللهَ – سُبحانَهُ وتعالى – هو القَوِيُّ، الجَبَّارُ، القاهِرُ فوقَ عِبادِهِ، فلا تَخَفْ أحداً وأنتَ تَركَنُ إلى رُكنٍ شَديدٍ، ألا هو اللهُ – عزَّ وجَلَّ – ما قِيمَةُ كُلِّ هؤلاءِ البشَرِ بكُلِّ ما يَملِكون؟ ألا ترى أنَّهُ عندما تحدُثُ كارِثَةٌ جَوِّيَّةٌ، أو أرضِيَّةٌ، أو أوبئةٌ، كيف تختفي قُوَّةُ البشَر؟ حينها تَنقَلِبُ الحياةُ في ثَوانٍ! كُلُّنا يعلمُ حَجمَ هذا الكَون، والذي هُوَ لا شيءَ أمامَ قُوَّةِ الله، يقول اللهُ تعالى: “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ” الزمر (67)، هل يُمكِنُ لعَقلٍ أن يَتَخَيَّلَ هذا؟ مَن الذي يَستَطيعُ أن يَتَصَوَّرَ – مهما وَصَلَ من إبداعٍ في الخيال – أنَّ الأرضَ قَبضَتُهُ يومَ القيامة؟ إذا كان اللهُ هو الكبيرُ – سبحانَهُ وتعالى – فما شأنُنا نخافُ من الصِّغارِ؟ إذا كانت السماواتُ والأرض كُلُّها لا تساوي شيئاً عند الله، وفي الحديثِ الشريف – بما معناهُ – ما السماءُ الدنيا للثانيةِ إلا كحَلَقَةٍ في فَلاةٍ، والثانِيَةُ إلى الثالِثَةِ إلا كحَلَقَةٍ في فَلاةٍ، وهكذا حتى السماءُ السابعةُ كحَلَقَةٍ في فلاةٍ لكُرسِيِّ الرحمن – سُبحانَهُ وتعالى – فالذي استَقَرَّ عندَهُ الإيمانُ بعَظَمَةِ العظيم، الجليل، الكبير، الجبَّار، العَزيز، القدير، كيفَ يَخشى مَخلوقاً! قال العِزُّ بن عبدالسلام: “إذا عَرَفتُم عَظَمَةَ اللهِ يُصبِحُ أعظَمُ جَبَّارٍ كالهِرِّ أمامَهُ”، فالمُوَلِّدُ الأساسيُّ لقَضِيَّةِ العِزَّةِ مَعنى الإيمان، كان الكُلُّ يَتَسابَقُ لمَعرِفَةِ سيرَةِ حياتي، رُبَّما يَقيني وتَوَكُّلي على الله أظهَرَ للبعضِ أنَّني (واصِلَةٌ) كما كُنتُ اسمَعُهُم ، ليَتَبَيَّنَ للجميع أنَّني فَلّاحَةٌ بسيطَةٌ، لكنَّني أرى اللهَ عظيماً، فيصغُرُ كُلُّ شَيءٍ في نَظَري، وأستَمِدُّ ثباتي، وقُوَّتي، وكَرامَتي من إيماني بالله ربِّ العِزَّةِ، فبئسَتْ حَياةٌ لا كَرامَةَ فيها.
الأمرُ الذي يُحَرِّكُ العِزَّةَ في النفوسِ، الأمرُ بالمَعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكَرِ، قال الرسولُ مُحَمَّد – صلى الله عليه وسلم -: “مَن رأى مِنكم مُنكَراً فليُغَيِّرهُ بيَدِه، فإنْ لَم يَستَطِعْ فبِلسانِهِ، فإنْ لَم يَستَطِعْ فبِقَلبِهِ، وذلك أضعَفُ الإيمان” كُلٌّ يُنكِرُ ويُغَيِّرُ حَسبَ أدواتِهِ، وقُدُراتِهِ، ومَنبَرِهِ الذي يَقِفُ عليه، فإن كانت أداتُكَ القَلَمُ فليَكُن، وإن كانت ريشَتُكَ فليَكُن، لا تَخَفْ وأنتَ مَعَك الجبّارُ.
من معاني العِزَّةِ العِلمُ الشَّرعِيُّ الصحيحُ الذي يَجعَلُ العِزَّةَ تُطَبَّقُ في مَكانِها الصحيح، كُلُّنا يَعرِفُ جَبَروتَ عُمَرَ بن الخَطَّاب على الكُفّار، فهو نَفسُهُ الذي رَفَضَ أن يُذَلَّ قِبطٌ نَصرانِيٌّ.
من معاني العِزَّةِ العَفو عند المَقدِرَة، وهذا ليسَ ذُلّاً، فالمُسلِمُ لا يَتَجَبَّرُ، ولا يَتَهَوَّرُ، ولا يَتَكَبَّرُ، بل هذا كَرَمٌ وجُودٌ في العَفو.
من أسباب العِزَّةِ في هذا الزمان أن نُؤمِنَ أنَّنا لسنا مُتَخَلِّفين، كما يُحاوِلُ الغَربُ إقناعَنا، وأن نَتَيَقَّنَ أنَّ المُستَقبَلَ للإسلامِ، وما نَعيشُهُ اليومَ ما هُوَ إلا جَولاتٌ، والعِبرَةُ في النهايات.
هناك عِزَّةٌ، وهناكَ كِبرٌ، والكِبرُ مَرفوضٌ شَرعاً، يقول الرسولُ مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم -: “لا يَدخُلُ الجَنَّةُ مَن كان في قَلبِهِ مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ”، فكيفَ نُفَرِّقُ أننا في كِبرٍ أم في عِزَّةٍ؟!
من عَلامات الكِبرِ رَفضُ الحَقِّ، واحتقارُ الناسِ، فرَفضُ الحَقيقَةِ والبُرهانِ تَكَبُّرٌ، والأمرُ الثاني هو احتِقارُ الناسِ، وهو أمرٌ مَرفوضٌ، والتوازُنُ في العِزَّةِ مَطلوبٌ، فإن زادتْ عن حَدِّها صارَتْ مَذمومَةٌ، ومِن أشكالِ العِزَّةِ المَذمومَةِ الموالاةُ لأعداءِ اللهِ، فتَجِدُ البعضَ يَطلُبُ العِزَّةَ بالتَّحالُفِ مع الأعداءِ؛ ليَعتَزَّ بِهِم، ويَقوى باسم المَصالِحِ وغَيرِها، هذه ذِلَّةٌ وليسَتْ عِزَّةٌ، ومنها العَصَبِيَّةُ القَبَلِيَّةُ، والقَومِيَّةُ، فعندما سَمِعَ الرسولُ – صلى اللهُ عليه وسلَّمَ – أحدَ الصحابَةِ من الأنصار يقولُ: (لا للمُهاجِرين)، وآخرُ من المُهاجِرينَ يقولُ: (لا للأنصارِ)، غَضِبَ غَضَباً شَديداً، وقال: (أبِدَعوى الجاهليَّةِ، وأنا ما زِلتُ مَوجوداً بين ظَهرانيكم؟)، وقالَ كَلِمَتَهُ الشهيرة: (دَعوها فإنَّها مُنتِنَةٌ)!
كذلك الاعتزازُ بالكَثرَةِ مَذمومٌ، فيومَ حُنَينٍ اعتَزَّ المُسلمونَ بكَثرَتِهِم، يقولُ تعالى: “لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا” التوبة (25)، لا تَعتَزُّوا بالعَدَدِ والكَثرَةِ، وكم من كَثرَةٍ كغُثاءِ السيلِ، فكُلُّ هذه المَظاهِرِ ليسَ لها قِيمَةٌ؛ لأنَّهُ في النهاية ما النَصرُ إلا من عند الله، وكذلكَ العِزَّةُ المَذمومَةُ، والاعتزازُ بالمَظاهِرِ، فالبعضُ يُبالِغُ بالزينَةِ، يقولُ تعالى: “فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ” القصص (79)، فالمَكانَةُ العالِيَةُ لن تَحصُلَ عليها بمُبالَغَتِكَ في المظاهِر، وكذلك العِزَّةُ بالجاهِ والمَنصِبِ.
من أشكالٌ العِزَّةِ المَطلوبَةِ ما يُسَمَّى “رَدُّ الصائِلِ”، فهذا مَبدأٌ إسلاميٌّ أصيلٌ، وهو يقولُ إنَّهُ مِن حَقِّكَ أنْ تَرُدَّ مَن يَصولُ على مالِكَ، وعِرضِكَ، وأرضِكَ، وكذلكَ العِزَّةُ المَطلوبَةُ تكمُنُ في التواضُعِ، قال تعالى: “أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ” المائدة (54)، فالكافِرون المُحارِبون الذين أعلَنوا الحَربَ عَلَينا، وليَسوا عامَّةَ الناسِ الذين لا يُؤذونَنا، يَقولُ عُمَرُ بن الخَطَّاب: “نحنُ قَومٌ أَعَزَّنا اللهُ بالإسلامِ، فمهما ابتَغَينا العِزَّةَ بغَيرِهِ أذلّنا الله”، هذا حُكمُ الله على هذه الأُمَّةِ إذا حاوَلَتْ أن تَعتَزَّ بشَرعٍ غيرِ شَرع اللهِ فلن يُعِزَّها اللهُ!
انظُرْ إلى عبد الحَميد الجَزائِريِّ عندما جاءَهُ الحاكِمُ المُستَعمِرُ مُهَدِّداً، قال له: “أنتَ تَنشُرُ الفِكرَ الذي يؤذينا”، فقال لهُ: “لا تستطيعُ أن تَفعَلَ بي شيئاً، إذا كُنتُ أنا في عُرسٍ، هَنَّأتُ وعَلَّمتُ المُحتَفِلين، وإنْ كُنتُ في مأتَمٍ أوعَظتُ الحاضِرينَ، وإن كُنتُ في قطارٍ عَلَّمتُ المُسافِرين، وان دَخَلتُ السجنَ أرشدتُ المَسجونينَ، وإن قَتَلتُموني ألهَبتُم مشاعِرَ المُواطِنين، وخَيرٌ لكَ أيُّها الحاكِمُ ألاّ تَتَعَرَّضَ للأُمَّةِ في دينِها.
يَروي الإمامُ الغَزالي: “إني لأرحَمُ ثَلاثَةً: عَزيزَ قَومٍ ذَلَّ، وغَنِيَّ قَومٍ افتَقَرَ، وعالِمٍ تَلعَبُ بِهِ الدُنيا، فالأخيرُ أرشِدوهُ، لا تَشمَتوا بِه لعَلَّهُ يَرجِعُ إلى الصوابِ والهِدايَةِ؛ ولنَكُنْ أعزّاءَ، ونَفهَمُ مُعادَلَةَ العِزَّةِ الصحيحَةِ.