صور المثقف

الدكتور خضر محجز | غزة – فلسطين

يتحير القارئ في فهم موقف المثقف من القضايا المختلفة، عندما يستخدم المنطق السليم، ويحلل علاقات النصوص. وذلك ناتج عن تصور مثالي كان قد أنشأه مسبقاً عن هذا الكائن الأبستمولوجي، الذي يمتهن المعرفة، ويتخذها حرفته التي يتعيش منها.

يقول تيري إيجلتون: “الأدب هو أيديولوجيا، لأنه إحدى الوسائل التي تستخدمها مجموعات معينة لفرض سلطتها على الآخرين”.

فالمثقف في ذلك مثل السياسي تماماً. وإذا كان أحد تعريفات السياسة هو فن الممكن للوصول إلى الهدف، فإن المثقف يستخدم المعرفة للوصول إلى ذات الأهداف: السلطة والقوة وإقرار وقائع، ما كان لها أن توجد، دون الاستعانة بقوة المعرفة.

لقد ولى الزمان الذي كانت فيه المعرفة تُراد لذاتها، من يوم أن قرأ بعض المثقفين نيتشه (أو النسخة المشوهة منه). ومن منا لم يسمع من مثقف هنا أو هناك عن نسبية الحقيقة!. حتى لقد بتنا لا نعرف ـ نحن خلق الله البسطاء ـ إن كانت (فلسطين/ المثقفين) هي لنا، أم هي شراكة مع قوم آخرين؛ لمجرد أنهم استطاعوا، مؤقتاً، فرض وقائع تريد لها بعض الكائنات الأبستمولوجية أن تكون حقائق!؟.

هل من الغريب أن يتصدى شخص مثلي (غير مثقف) لتعريف الحقيقة بلسان العجائز، ويتجرأ على مخالفة كل هذا الركام الهائل من المثقفين النيتشويين!. حسناً.. يقول خضر محجز، غفر الله له بهذا القيل: “الحقيقة هي ما هو مطابق للشيء في وجوده الذاتي كما هو ـ أو كما خلقه الله عليه، إن كنت من المؤمنين ـ فهو قارّ لا يقبل التغيير، لأنه مرتبط بقوانين الطبيعة وقوانين التاريخ”. فالله حقيقة لا تقبل التغيير ولا تغيرها الأحداث، ولا تقبل النسبية. وفلسطين التاريخية لها سكان عمروها منذ نزل الإنسان من فوق الشجرة ـ هذا إذا كان قد نزل فعلاً ـ وهم أهلها ولا يقبلون شراكة لهم في بيتهم، خصوصاً إذا وقعت بالقوة، وهذه حقيقة موافقة للأشياء لحظة حدوثها، ولا تقبل منطق النسبية، وكل ما يطرأ عليها من وقائع مخالفة، إن هو إلا زائل وغير حقيقي البتة؛ تماماً مثل كون الأرض تدور حول الشمس، ومثل كون الشمس كرة ملتهبة من النار ـ بل أكثر تحققاً من ذلك ـ ومثل كون حب الخير شعوراً طبيعياً في الناس الأسوياء…

أقول هذا وأنا أراقب ما يدور على الساحة الثقافية، مما هو مختلف مع الكتب: الكتب التي تعودنا أنها تحمل المعرفة والحقيقة والخير. فماذا نرى اليوم؟.

لقد حدث اليوم شيء كبير!. فعندما يتناول القارئ، هذه الأيام، كتاباً لأحد المثقفين، فإنه يشعر بالبون الشاسع بين مواقف مؤلف الكتاب ـ الذي يعرفه عن قرب، ويقرأ تصريحاته في الصحف ووسائل الإعلام ـ وبين مواقفه المبثوثة بين ثنايا نصه الإبداعي!… فلماذا؟.

يقول وين بوث في كتابه (بلاغة السرد) أن كل كتاب يحمل صورة عن مؤلفه، يستكشفها القارئ بين السطور. وهذه الصورة ليست بالضرورة هي صورة الكاتب الحقيقية. وهذه الصورة ـ التي هي من إنتاج قارئ النص ـ تحيل إلى المؤلف الضمني: وهو غير الشخص المدني الذي نعرفه ويحمل بطاقة الهوية ذات الرقم المحدد، والمسجل باسمه الرباعي في سجل وزارة الأحوال المدنية.

إذن، فالمؤلف الضمني هو القناع لا الأصل. والأصل موجود في الحياة، ويتنفس، ويقبض الراتب الشهري، ويسافر في المهمات، وتُصرف له البدلات المختلفة، التي تتحدد قيمتها تبعاً لخطورته الأبستمولوجية. والقناع لا يحيل إلى الحقيقة في شيء، لأن وراءه وجهاً لزجاً لا يحب صاحبه كشفه أمام الآخرين.

الأصل يحيل إلى الحقيقة. والقناع يحيل إلى الزيف. ولطالما استمرأت وجوهٌ قناعها حتى تلبس بها. والثقافة المهزومة يلبسها قناعها مستعيضة به عن التاريخ. ولطالما رأينا مثقفين يكتبون عن الحرية والتعدد، ثم يزيفون إرادة الناس بالميليشيات المسلحة، ويناصرون الدكتاتوريات ويدبّجون في مديحها المقالات، وربما كتب الواحد منهم خطبة الحاكم، ثم ضمنها ادعاءاته بدعم الثقافة والحرية… ثم لا يمنعه كل هذا من الزعم بأن صورة المثقف هي في الإبداع، لا في وسائل الإعلام، غير مدركين أن تلك هي صورتهم الحقيقية.

فمن منا لم ير مثل هذه الكائنات الأبستمولوجية المبثوثة في كل محفل!؟.

أقول هذا تعليقاً على ما يثار، بين الحين والآخر، من معارك بين مثقفين يتصارعون على خَشاش الأرض، ثم يخرجون علينا بصورة المختلفين على حدود الوطن!. ولا يتورع الواحد من هذه الكائنات الأبستمولوجية، عن لفت انتباهنا إلى ما قاله في المسألة الفلانية، في كتابه الفلاني، متناسياً أن ما قاله في كتابه الإبداعي، يتناقض مع تصرفاته التاريخية ومواقفه الحياتية.

ختاماً، أعترف بأنني لم أقرأ هذه العبارة للينين، ولكن قيل لي إنه قالها: “المثقفون هم أقدر الناس على الخيانة، لأنهم أقدر الناس على تبريرها”. ولكن عندما سمعت ـ ذات نكبة ـ أن شاعراً معروفاً نظم قصيدة يدعو فيها بلير إلى تشديد القصف الجوي على بغداد؛ أدركت أن هذه العبارة موافقة للحقيقة، في جزء كبير منها على الأقل. الأمر الذي يحيلنا إلى مسألة ذات علاقة. والحديث ذو شجون كما يقولون. وهي الخلط المتعمد بين الثقافي والسياسي.

لقد قيل مراراً، في الكليشيهات الثقافية، أن المثقف هو ضمير الأمة، وأنه يمثل مرجعية الروح الوطنية، ومكان الإجماع. على اعتبار أن دوره يجب أن يختلف عن دور السياسي، الذي يتلاعب بالحلم لكي ينال الممكن. ومن هنا فإن المثقف (كذا يزعمون) يصطدم مع السياسي دائماً حول منطقة الحلم.

حسناً، فلنصدق ذلك، شرط أن تقولوا لنا كم مثقفاً سُجن أو فُصل من عمله أو صُفّي جسدياً، بسبب حراسته للحلم؟. إننا نرى المثقفين هم المهرولين في سباق ماراثوني مع السياسي نحو مغتصب الوطن: يرودون الطريق للسياسي ويجملون له التنازل، وعندما لا يفعل يشهرون به ويتهمونه باللاواقعية. لكأن الثقافة هي قبول الواقع!. إذن فماذا ترك الثقافي للسياسي؟.

لقد رأينا مثقفين يشهرون بالسياسي إلى حين الترقية!. ورأينا مثقفين يهاجمون السياسي إلى حين المهمة!. ورأينا مثقفين يتهمون السياسي إلى حين صرف المنحة!. ألا يعطي هذا إشارة تفسر لماذا يحتقر السياسي المثقفين!؟.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أخي الكريم
    تحية طيبة
    هل تعتقد ان هؤلاء يستحقون صفة مثقف ؟
    كيف يمنح لقب او صفة مثقف ، هل بموجب الشهادة ام القدرة على الكتابة ام ماذا؟
    اعتقد صفة مثقف تنطوي على محتوى ضمني من الالتزام.. مع ان هناك هلاف على تعريف المثقف، لكن الفئة التي تفضلت بالحديث عن افعالها ليست منهم.
    تحياتي مرة اخرى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى