لا تتواضع
حسني نجار | شاعر سوري مقيم في سلطنة عُمان
التواضع جُلُّه محمود، ومنقبة لطالما حثَّتْ عليها الشرائع السماوية والأعراف الاجتماعية، وسمة من سمات الخُلُق الرفيع، تُدني صاحبها من القلوب، ويَعظم شأنه ويطيب ذِكره ويحلو مجلسه. وفي هذا أنشد أحدهم:
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
على صفحات الماء وهو رفيع
///
ولا تك كالدخان يرفع نفسه
إلى طبقات الجو وهو وضيع
///
ولله درُّ المتنبي حين قال:
ملأى السنابل تنحني بتواضع
والفارغات رؤوسهن شوامخ
على أن ما ذكرته آنفا معروفا لدى السواد الأعظم من الناس، ويكاد لا يختلف فيه اثنان، أو ينتطح فيه عنزان، ولكن جال في خاطري بعض التساؤلات، من قبيل: هل يمكن أن يكون التواضع مذموما لا محمودا في بعض حالاته؟ وهل يمكن نصح أحدهم بالابتعاد عن التواضع في مواقف معينة؟
أقول بملء فيَّ: نعم.. وهاكم بعض الأمثلة على هذه المواقف، ولكن قبل ذلك حبذا لو نتفق على أن الثقة بالنفس وتقديرها، واحترام الذات، ليست من التكبر في شيء، ولا هي نقيض التواضع، وكذلك حسن المظهر ورتابة الهندام هما من أسباب النجاح وليستا من علامات التكبر والغرور.
• لا تتواضع أمام المتكبر والمتعجرف، فهذا يغريه بالتمادي في تكبره وعجرفته وشعوره أنه أفضل منك بكثير، وأنك أضعف منه. وقد قال بعضهم: “التكبر على المتكبر صدقة، لأنه إذا تواضعتَ له تمادى في ضلاله، وإذا تكبرتَ عليه تنبّه”. وهذا ما يسمى بالترفّع.
• لا تتواضع حينما يتطلب منك الموقف أن تكون قوي الشخصية واثقا من نفسك، صارما وحازما، فهنا لا مكان للتواضع، ولا محل للدعة والمسكنة، وعليك أن تتحلى بقوة الشكيمة حتى تكون مهابا مطاعا مسموع الكلمة، وهذه من صفات القائد الناجح أيًّا كان موقعه.
• لا تتواضع أمام عدوك أبدا، ولا تجعله يشعر أنك ضعيف وغير قادر على مواجهته، وتحلى برباطة الجأش وقوة البأس، واعلم أن عدوك يفسر تواضعك على أنه نصر مؤزّر له، وهزيمة نكراء لك، وهنا أتذكر مقولة نابليون: “الرجل القوي هو الذي يبتسم بينما دموعه تنهمر من عينه”.
• لا تتواضع إذا كنت في موقف تفاوض أو مقابلة شخصية يتوقف عليها ترشيحك لعمل أو وظيفة أو منصب ما، وعليك التسويق لنفسك بشكل جيد، وإظهار إمكاناتك ومنجزاتك وقدراتك والتحدث عنها بكل فخر وثقة، والتواضع في هذه الحال قد يفسَّر على أنه تهلهل في الشخصية وقلة في الخبرة، وأنك غير جدير بهذا المنصب أو الوظيفة.
• لا تتواضع إذا سُلبتَ حقا من حقوقك أو تعرضتَ للإهانة، فليس هنا محلا لإظهار التواضع ولين الجانب، وطالب بحقك، أو ادفع عن نفسك المهانة بكل جرأة وقوة، وكما يقال: “لا يضيع حق وراءه مُطالِب”.
وختاما، اعلم أن كثيرا من الناس يستغلون المتواضعين ويهمِّشونهم ويركبون على أكتافهم، وضع نصب عينيك أن المبالغة في التواضع تعطي غالبا – بل دائما – نتائج سلبية، وأن التواضع في غير مكانه مذلة. وقد اختصرت هذه المقالة في بيتين من الشعر، قلتُ فيهما:
إنّ التواضع في الإنسان منقبة
من غير ذلّ ولا عَجز ولا وهن
///
فاختر لنفسك بين الناس منزلة
واحفظ كرامتها في السرّ والعلن