أحجار وأسرار
خالد رمضان | كاتب مصري – صلالة
في مثل هذي الأيام المباركات تتعطر الأجواء بأرائج إحدى الشعائر الإسلامية، وفريضة تهفو إليها كل نفس مسلمة تتوق لزيارة بيت الله العتيق، وتمثل أمام أستاره داعية راجية أن يغفر زلاتها، وأن يرحم ضعفها ووهنها وذلها .
تلك الشعيرة قد اختصها الله سبحانه وتعالى بسورة كاملة في كتابه الكريم، ولم تكن تلك الميزة لباقي أركان الإسلام الخمسة، ألا وهي فريضة الحج.
عرّف علماء اللغة الحج بأنه: القصد، وعرفه علماء الشرع بأنه: قصد الكعبة لأداء النسك. قال تعالى: “﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا﴾”، وقال:”﴿وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾”، ورجالا تعني مترجلين على أقدامهم، وضامر تعني خاوية البطن من كثرة الترحال .
وللحج ميقاتان:
– ميقات زماني، وهي أشهر الحج المعروفة (شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة)
– وميقات مكاني، وهي تلك الأماكن المتعلقة بمناسك الحج (الحرم المكي، وجبل عرفات والمبيت بمنى ومزدلفة)
ما من نفس منفوسة تجري في عروقها دماء موحدة بالله، مصدقة لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا وتجذبها هذه النفحات الإلهية، وتأسرها تلك الأنوار القدسية لتنهل من معينها، وتقبس من أنوارها علها تصيبها رحمة ربانية فلا تشقى بعدها أبدا.
إن الكثير ممن ينتمون إلى الإسلام، ويدخلون تحت عباءته يملكون الزاد والراحلة ويتخاذلون عن أداء فريضة الحج، وقد قرن ديننا الحنيف تلك الفريضة بالاستطاعة، قال تعالى:﴿فَمِنكم مَن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾، وقال:”وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ”، ولتعلم أن ذلك المال الذي بين يديك هو مال الله تعالى، ولم تحصل عليه بذكائك، ولا بعلمك، ولا بكدك وتعبك، وإنما هو فضل الله تعالى عليك .
ما قيمة الناس إلا في فضائلهم لا المال يبقى ولا الألقاب والرتب
ثم يخرج علينا ناعق جاهل ويقول لك: إن مناسك الحج التي تدعونها أيها المسلمون إنما هي أحجار في أحجار، بل هي وثنية إسلامية. هكذا يقولون من لا علم لهم بتلك الأحجار، ولا ما خفي فيها من أسرار.
إن الدين الإسلامي دين الوحدة والجماعة والأخوة والمساواة بين السادة والعبيد، بين الأغنياء والفقراء، بين الرجال والنساء في العبادات والمعاملات، فيجمعهم كل يوم خميس مرات، وكل أسبوع في صلاة الجمعة، ثم يجمعهم يوم الحج الأكبر مرة كل عام .
أما هذه الأحجار التي يذكرها هؤلاء فإنها ليست مقصودة لذاتها، إنما اكتسبت عظمتها من تعظيم الله لها، وتقديسه إياها، فمثلا ذلك الحجر الأسود الذي هو من أحجار الجنة، وكان حجرا أبيضا بياضا ناصعا ولكنه اسود من ذنوب العباد.
وقف عمر بن الخطاب أمامه وقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) .
ثم نأتي للحجر الثاني وهو الكعبة المشرفة وهو أول بناء وجد على ظهر البسيطة فقال تعالى :”إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ”
حين تمثل أمامه تتذكر ما فعله خليل الله إبراهيم وولده إسماعيل عندما رفعا قواعد البيت الحرام، ثم كيف لهذا البناء أن يجمع شمل المسلمين من شتى البقاع والأصقاع، فتجد هذه الكلمات تنسال على شفتيك ودون أن تدري:(اللهم زد هذا البيت مهابة وتشريفا وتعظيما).
ثم تهرول لحجرين ٱخرين وهما(جبل الصفا، وجبل المروة)، فتبدأ سعيك بجبل الصفا، وتختمه بجبل المروة سبعة أشواط كاملة ودون توقف أو استراحة فيتبادر لذهنك قصة تلك المرأة الضعيفة التي نفد من عندها الماء والغذاء ولا أنيس ولا جليس في ذلك الوادي المجدب، وتلك الصحراء القاحلة حتى فجر الله تعالى الماء من تحت أقدام ولدها الرضيع، فتوقن أن بعد العسر يسرا، وبعد الضيق فرجا.
وحين تحملك أقدامك للحجر الأكبر وهو جبل عرفات وترفع بصرك لترى هذه الجموع الغفيرة التي أتت من كل حدب وصوب، وقد وقفوا في صعيد واحد خاشعين خاضعين، تجمعهم أرض واحدة(جبل عرفات)، ويرتدون ثيابا واحدة (الإزار والرداء)، ويلهجون بكلمة واحدة (لبيك اللهم لبيك)، لا تفرقهم ألوانهم، ولا تشتتهم ألسنتهم، ولا تصدهم ألوانهم، ولا ترفعهم أحسابهم ولا أنسابهم ولا مراتبهم، ولا مناصبهم أتوا ربهم من شتى البقاع والأصقاع، قد تجردوا من كل مظاهر الترف والرياء والخداع، ممتثلين لأوامره، راغبين في رحمته وعفوه ومغفرته.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”.
إن هذه الأحجار تحمل بين طياتها الكثير من الخفايا والأسرار، وما لا يعلمه إلا العزيز الغفار، فلا تحرم نفسك أنوارها الخفية، ولا تبخل على نفسك بأرائجها الزكية.
وأختم بقول الشاعر :
وقد مددت يدي بالذل منفردا
إليك يا خير من مُدت إليه يدُ
***
فلا تردنها يارب خائبةً
فبحر جودك يروي كل من يردُ