ويطعمون الطعام (12، 13، 14)
إبراهيم محمد الهمداني | اليمن
الإطعام.. أول مصاديق الإيمان في ثلاثية البر
يعد مفهوم البِرِّ من المفاهيم الدينية، ذات المعاني والدلالات المتعددة، التي تلتقي في مجملها، على قاعدة مطلق الإيمان الصادق، ومطلق الإحسان المتواسق، ومطلق الخير المتلاحق، أي أنه إخلاص الإيمان الاعتقادي القلبي، بكل ما أوجب الله تعالى الإيمان به، والاتساع في الإحسان – بمعناه الواسع – وفعل الخير في مقاصده الشاملة، وتحقيق العبادات باليقين والصدق والتقوى، وحين يتطابق القول والفعل والضمير، يتحقق معنى البر المراد في القرآن الكريم، في قوله تعالى:- “ليۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ“. (البقرة:١٧٧).
من لطائف التعبير القرآني – في سياق طروحاته المفاهيمية – أنه يبدأ أولا بنسف ودحض المفهوم السائد الخاطئ، ثم يقيم على أنقاضه، تأسيسا مفاهيميا جديدا صحيحا، كما هو الحال عند تناوله مفهوم البر، في موضعين، بادئا بنفي التصور السائد الخاطئ، بقوله تعالى:- “ليس البر”، ومستدركا في طرح التصور الحقيقي، بقوله تعالى:- “ولكن البر”، الأمر الذي يجعل العقل الجمعي، يقف وجها لوجه، أمام اعتقاده المنحرف وسلوكياته الخاطئة، وبذلك تقوم عليه الحجة، ويلزمه اتباع الحق وأهله، لما فيه فلاحه وسعادته في الدنيا والآخرة.
تقدم الآية الكريمة السابقة، تعريفا شاملا لمفهوم البر الحقيقي، بعد نفي المفهوم الزائف، الذي كان سائدا لدى أهل الكتاب، ومن في حكمهم، المتموضع في المظاهر الشكلية، والمبالغة في توجيه وصرف وجوههم، قِبَل المشرق والمغرب، دون التوجه بالقلوب إلى الله تعالى، وإخلاص العبادات والمعاملات لوجه الله وحده لا شريك له، بعيدا عن الرياء والتباهي، بتلك الطقوس والشعائر الشكلية، المفرغة من معناها الروحي، وغايتها الأخلاقية الإنسانية، ليصبح بذلك البر في مفهومه الحقيقي – حسب الطرح القرآني – كما تنص عليه الآية السابقة، اسم جامع لصحيح العقائد وحميد الخصال والمرضي من الأعمال الصالحة، التي تتقاسمها ثلاث ركائز، على النحو الآتي:-
الركيزة الأولى:- القيم العقائدية الإيمانية؛ التي تشمل جميع جوانب الإيمان الصحيح، التي لا يُقبل عمل الإنسان، إلا بعد اعتقادها واليقين بها.
الركيزة الثانية:- القيم الأخلاقية الاجتماعية؛ التي تشمل جميع أعمال الخير والإحسان والعطاء، وتعزيز قيم التكافل والتعاون والإخاء والتراحم، بين أبناء المجتمع، وفي مقدمتها الإنفاق – عامة – بمختلف مستوياته وأبوابه، والإطعام – خاصة – في مختلف وجوهه وطرقه.
الركيزة الثالثة:- القيم التعبدية الدينية؛ التي تشمل جميع العبادات والقربات، الهادفة إلى تطهير وتهذيب وتزكية النفس، وتعبيدها لله تعالى، وربطها بمنهجه وبحضوره الدائم، بما يضمن عدم انحرافها، عن صراطه المستقيم.
اشتملت هذه الآية الكريمة، على جوامع البر والإحسان، وفي تفسيرها يقول السيد المولى بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه:- “قال الشرفي في (المصابيح) حاكيًا عن المرتضى (عليه السلام): «معناه: ليس كل البر تولية المشرق والمغرب من القِبَل التي أنتم تُمارون فيها ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ فأخبر سبحانه بفنون البر وما يصح لهم به الإيمان ويكمل لهم اسم البر والإحسان» انتهى. ﴿الْبِرَّ﴾ الاتساع في الإحسان وفعل الخير، و﴿قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ الجهات التي يولي إليها الكفار وجوههم ويزعمون أن ذلك هو البر، وليس البر ذلك، ولكن البر الإيمان بلوازمه وتوابعه التي يعملها”، وتلك هي الركيزة الأولى للبر، وأما الركيزة الثانية فهي كما يقول السيد المولى رضوان الله عليه:- “﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ أي ماله، كقوله تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ﴾ [النازعات:40] أي نفسه ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ في حال حب المال، كالإطعام في حال حاجة المطعِم ـ بكسر العين ـ إلى الطعام، كما قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان:8] وقال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92]”.
وفي هذا السياق يحدد السيد المولى، وجوه إيتاء المال وجوانب إنفاقه، الموضحة في الآية الكريمة، وضرورة إطعام الطعام، بوصفه الغاية الرئيسة من الإنفاق وإيتاء المال، بقصد إطعام ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين، بما يقيم أودهم ويكفيهم، ويحفظ كرامتهم، وأما إيتاء المال في الرقاب، فالمقصود به العتق من العبودية، وهنا تظهر دلالة جديدة، حيث جُعل عتق الرقاب من العبودية، مقابلا لعتق الأنفس من الجوع، وفي كليهما إنقاذٌ من الهلاك، وميلاد حياة جديدة.
تشتمل الركيزة الثالثة، على مختلف القيم والطقوس الدينية والشعائر التعبدية، وفي مقدمتها إقامة الصلاة، ثم إيتاء الزكاة، ثم يتلوها بقية الأمور الدينية، التي تضمنتها الآية الكريمة، ويمكن القول إن التأكيد على إيتاء الزكاة، في مقام العبادات الواجبة، يدل على أن إيتاء المال، غير إيتاء الزكاة، ويؤكد ذلك سماحة السيد القائد، يحفظه الله بقوله:- “فالله سبحانه وتعالى عندما يقول: {وَآتَى الزَّكَاةَ}، بعد أن سبق قوله: {وَآتَى الْمَالَ}، فهي في هذا السياق: في سياق الالتزامات المتعددة المتنوعة، المتعلقة بمالك، فعليك المبادرة بإيتاء الزكاة، بإخراجها، لا تحتاج إلى ملاحقة وضغط، وإحراج، وإلحاح، وإزعاج، ومشاكل، والبعض حتى قد يحتاج إلى السجن، أو يحتاج إلى ضغوط كبيرة، ولوم وتوبيخ وعتاب… وغير ذلك، أن يبادر بإخراجها حسب توجيهات الله فيها”. ويضيف يحفظه الله قائلا:- “{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، يعني: حتى في الظروف الصعبة، وحتى مما يحب، وليس فقط ممن إذا أحرج في مجال العطاء، أصبح محرجاً، يجامل ويحاول في سياق مجاملته أن يخرج الشيء الرديء، الذي لم يعد راغباً به، أو لا يرى أنه أصبح بحاجةٍ إليه، لم يعد محتاجاً إليه، فيعتبر هذا شيئاً طارفاً، لا بأس سيخرجه مجاملةً”.
ولذلك ارتبط نيل البر، بإنفاق أطيب المال، وارتبط تحقق كمال الإيمان، بالجود والإنفاق والإطعام، رغم شدة الحاجة، والظروف الصعبة، إلا أن نفس المؤمن لا تفقد خيريتها، وروحية البذل والعطاء، والمسارعة إلى التعاون على البر والإحسان، ولو بأقل القليل، لأن ذلك القليل له أهمية كبيرة، في واقع المجتمع الإنساني، حيث تتظافر الجهود، ويتحقق كمال الإيمان وتمام البر، على مستوى الفرد والمجتمع، خاصة في هذا الشهر الكريم المبارك، وما فيه من عظيم الأجر وجزيل الثواب، من الله تعالى للساعين في هذه الأعمال العظيمة.
مشروع الوجبة الرمضانية.. عطاؤك يطعم جائعا
يعد برنامج إطعام ثورة في الإحسان المجتمعي، بكل ما للكلمة من معنى، نظرا لسمو أهدافه، ونبل غاياته ومقاصده، ولأهمية ونوعية المشاريع، التي ينطوي عليها هذا البرنامج الرائد، وهي مشروع “الوجبة الرمضانية”، ومشروع “الأفران الخيرية”، ومشروع “اللحوم والأضاحي العيدية”، وتسعى هذه المشاريع إلى تخفيف وطأة الحاجة وحالات البؤس، لدى الأسر الأشدفقراواحتياجا، التي لا تجد قوت يومها، من خلال حشد التمويل، وإحياء وإعادة تفعيل قيم التكافل الاجتماعي، في إطار الواجب الديني أولا، والموروث القيمي ثانيا، بما يحقق حالة التراحم والمواساة والتعاون والإحسان، ضمن مقتضيات دائرة الأخوة الإيمانية، انطلاقا من الموجهات القرآنية، وأولوياتها واستراتيجياتها التي رسمتها القيادة الثورية، وترجمتها مؤسسة بنيان التنموية، وبقية الشركاء، سواء في الجانب الحكومي، أو في الجانب المجتمعي.
يستهدف مشروع “الوجبة الرمضانية”، الأسر الأشد فقرا واحتياجا، بتوفير الوجبة الرمضانية، لعدد 41 ألف أسرة مستفيدة، أي ما يزيد على ربع مليون فرد مستفيد، يدخل ضمنهم عدد من أسر الشهداء والجرحى والأسرى والمفقودين، عبر 153 نقطة توزيع، ضمن نطاق جغرافي يشمل أمانةالعاصمة وجزء من محافظةصنعاء، حيث سيتم توزيع 615 ألف وجبة غذائية، خلال أيام شهر رمضان المبارك، وبتكلفة تقدر بحوالى مليار وخمسمائة مليون ريال يمني، ومن مميزات هذا المشروع العظيم، أن العاملين فيه قرابة الألف موظف وعامل ومتطوع، يبلغ عدد المتطوعين منهم 560 متطوعا، معظمهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، من جرحى الحرب والعدوان، وتلك هي أبلغ وأعظم صورة للإحسان، والتعاون على أعمال البر والخير، في ظل الظروف الاستثنائية الصعبة، وتداعياتها السلبية على المجتمع اليمني، اقتصاديا ومعيشيا.
في أول أيام شهر رمضان المبارك لهذا العام 1444، دشنت مؤسسة بنيان التنموية والهيئة العامة للزكاة، مشروع الوجبة الرمضانية، تحت شعار “عطاؤكم يُطعم جائعاً”، وفي فعالية التدشين تحدث المهندس محمد المداني المدير التنفيذي لمؤسسة بنيان التنموية، عن هذا المشروع، بالقول:- “نحن نحاول قدر الإمكان أن نفعل كل المصانع المحلية ومزارع الدجاج المحلية، بحيث تصبح مكونات الوجبة كلها منتج محلي خالص”، ويضيف قائلا:- “تتكون الوجبة الرمضانية، من دجاجة وزبادي وخبز، ينتج الخبز عبر أربعة خطوط إنتاج آلية، وفرنين حجريين، يتم التوزيع عبر أسطول مكون من تسع سيارات”، ويعد هذا المشروع السادس، لمؤسسة بنيان التنموية وشركائها من المحسنين، حكوميين وتجار وأفراد، ومن كل فئات المجتمع، وفي سياق الحديث عن أهم الشركاء، يقول المهندس محمد المداني:- “ومن أهم الشركاء، الهيئة العامة للزكاة، التي قدمت هذا العام مبلغ أربعمائة مليون ريال، وهي شريك أساسي ومساهم كبير خلال الأعوام الماضية، إضافة لشركاء آخرين حكوميين، من أهمهم وزارة الاتصالات وشركة كمران ومصنع إسمنت عمران، ونطمح اليوم أن يبادر الجميع حكومة وتجارا، للمساهمة في هذا العطاء الرمضاني الخيري”، بالإضافة إلى عدد كبير من الشركاء، وفي مقدمتهم الجبهة الإعلامية، الذين كانوا سندا وعونا لهذا المشروع، بتوظيف كل إمكانات الإعلام – بوسائله المختلفة – لما فيه تحفيز وتشجيع وتوعية المجتمع، وحشد التمويل وغير ذلك، نظرا لما تقتضيه ظروف المرحلة، من تظافر الجهود والإمكانات، في سبيل تعزيز التعاون والتكاتف والتراحم، لتجاوز آثار العدوان الغاشم والحصار الشامل، لكي نقوم معا بتحويل التحديات إلى فرص.
إن الدور الذي تقوم به الهيئة العامة للزكاة، يعد هاما وأساسيا ومحوريا، سواء في دعم هذا البرنامج والمشروع، أو في المجتمع بشكل عام، حيث أعادت لفريضة الزكاة مقامها الروحي ومكانتها الدينية، ووظيفتها المجتمعية الإنسانية، سواء من حيث تنظيم أوعية الزكاة ومصادر جبايتها، أو من حيث تفعيلها في مصارفها، التي حددها ووضحها الله سبحانه وتعالى، الأمر الذي جعلها تحقق إنجازات عظيمة، وقفزات هائلة، وقد ظهرت نماذج مشرقة من نجاحاتها المتوالية، منذ بداية تأسيسها – بتوجيه من سماحة السيد القائد يحفظه الله – وحتى الآن، وبصماتها ظاهرة للعيان، سواء في مصارفها المعروفة، أو في الجانب الإغاثي والإنساني، وهو ما يكشف عظيم دورها في تعزيز التكافل والصمود، في سبيل الحفاظ على انتصار الشعب، لإرادته وحريته وكرامته واستقلاله.
وفي ذات السياق يؤكد الشيخ شمسان أبو نشطان، رئيس الهيئة العامة للزكاة، على أهمية الشراكة مع مؤسسة بنيان، قائلا:- “إن هذا هو أول المشاريع بالشراكة الصادقة مع مؤسسة بنيان، [وإنه بمثابة نقطة البداية لانطلاق] سلسلة مشاريع، من بداية شهر رمضان إلى نهايته، على مستوى ديوان عام الهيئة، وعلى مستوى الأمانة، وكل المحافظات والمديريات والعزل والأحياء”، في صورة أقل ما يمكن أن توصف به، أنها ثورة إحسان وتعاون على البر والتقوى، ويضيف الشيخ أبو نشطان، قائلا:- “إننا عندما نقف لنطلق مشاريع الهيئة العامة للزكاة، التي هي ركن من أركان الإسلام، قرنها الله تعالى بالصلاة وبالصيام، وبسائر الأركان التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، هنا نستشعر رحمة الله سبحانه وتعالى، نستشعر عظمة الإسلام، عندما يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:- “إن الله فرض في أموال الأغنياء، بالقدر الذي يسع الفقراء”، الزكاة خيرها واسع، ولابد من تعاون الجميع، واستشعار المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى، والحرص على الإسهام في فعل الخير، وإغاثة الملهوف ومواساة الفقراء والمساكين، وهنا ندرك أن هذا هو سر النصر، هو سر الصمود”.
إن تناغم وانسجام جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها، ومؤسسات المجتمع المدني، وكافة أبناء المجتمع اليمني، مع توجيهات القيادة الثورية الحكيمة، وخاصة موجهات السيد القائد يحفظه الله، التي تضمنتها كلمته في آخر جمعة من شعبان، في التهيئة لاستقبال شهر رمضان، تعكس حرص القيادة على الارتقاء والنهوض بالمجتمع، والعمل على صون حريته وكرامته واستقلاله، بمختلف الطرق والوسائل، والاهتمام العالي والكبير، بكل تفاصيل شئونه وأحواله، والمثابرة على تهذيبه وتزكيته دينيا وأخلاقيا، وتوثيق روابطه بخالقه ونبيه ودينه، بما يضمن ريادته وسيادته، وفوزه وفلاحه في الدنيا والآخرة.
الوجبة الرمضانية.. انعكاس الهوية الإيمانية وعظمة الثواب
يمثل الإنفاق في سبيل الله عموما، وإطعام الطعام لمستحقيه خصوصا، متوالية من القيم الدينية والأخلاقية، المترابطة شرطيا فيما بينها، لترسم في تكاملها العقائدي والسلوكي، أنصع صور الإيمان والثقة بالله، وأبهى مظاهر الهوية الإيمانية، التي جسدها الرسول الكريم وآل بيته الأطهار – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – خير تجسيد وأرقى تمثيل، فكانوا لكل المسلمين خير قدوة، وأهدى سبيل للوصول إلى كمال الإيمان، وصدق الانتماء والتولي، لله ولرسوله وللذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة وهم راكعون، جاعلين ذلك المقام جامعا لأداء فريضتين معا، في وقت واحد، في سابقة إيمانية عظيمة – تعكس كمال الإيمان والتقوى – لم تكن إلا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وحده دون سواه.
وعند الحديث عن الإنفاق والجود، على المستوى الجمعي، يتفرد مجتمع الأنصار بمقام الإيثار العظيم، دون غيرهم من المجتمعات، في صورة باذخة المكارم، شاهقة البذل والسخاء، خلدها القرآن الكريم عنهم، تأكيدا لجليل فعلهم، وعظمة نفوسهم، وصدق إيمانهم وتوليهم، في قوله تعالى:- “وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ”، (الحشر:٩).
وكما أن الصلاة لم تمنع أمير المؤمنين علي عليه السلام، من الإنفاق وإيتاء المال للسائل، كذلك مجتمع الأنصار لم تمنعهم حالة الخصاصة وشدة الحاجة، عن الإيثار لغيرهم على أنفسهم، بما لديهم، وهم في أشد المعاناة والحاجة إليه، وعلى ذات المنوال، كان أهل اليمن في إسلامهم المتفرد، وارتباطهم بالله ورسوله وآل بيته الأطهار، وفي مقدمتهم أمير المؤمنين علي عليه السلام، الذي بلغت علاقتهم به حد التماهي، فهو وليهم الخاص، قبل غيرهم، له بيعتهم المتجددة كل عام، منذ مجيئه المبارك إلى اليمن، وحتى يومنا هذا، وهم مفزعة في الشدة، وعونه في كل نازلة، وأنصاره وسيوفه البتارة، في كل وقعة مزلزلة، وهم شيعته الخُلَّص، لهم به اهتداء، وفيه أسوة واقتداء، وقد خلَّد لهم التاريخ الكثير من المواقف المشرفة، التي جعلتهم مصداقا لتزكية الرسول الأعظم – عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام – لهم، بقوله:- “الإيمان يمان والحكمة يمانية”، وفي رواية، “والفقه يمان”، جاعلا منهم جماع الإيمان وكماله، فهم تجسيد كيان الإيمان، والإيمان تحقيق شخوصهم وكينونتهم، في علاقة جدلية تكاملية مغلقة على طرفي القضية؛ فالإيمان – بما هو منظومة من القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية – ليس إلا يمانٍ، ولن يكون غير ذلك، والنطاق المعنون ب “يمان”، أرضا وإنسانا، لن يكون إلا الإيمان، ولن يكون شيئا غير ذلك، وهو ما تؤكده دلالة السياق الإخباري، في الجملة الاسمية، من حالة الثبات والرسوخ والحلول الدائم، بدوام طرفي القضية المنطقية، (الإيمان واليمنيين).
ونحن – أحوج ما نكون في مقام الاقتداء – إلى التحلي بخلق الإيثار، تأسيا واقتداء بمدرسة القيم والأخلاق العظيمة، التي كانت شخصية أمير المؤمنين علي عليه السلام، أبهى مظاهر تجلياتها، ويعد عطاؤه وإحسانه ورحمته – كما يقول السيد القائد يحفظه الله – “من أهم الجوانب التي يجب أن تتصف بها النفسية المؤمنة، وهو جانب – أيضاً – إنساني، وأخلاقي، وإيماني.. الإمام علي “عليه السلام” كان في هذا الجانب متميزاً، وراقياً على الآخرين، من أتباع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وسجل له القرآن الكريم والتاريخ، في ذلك ما فيه دلائل مهمة ودروس مهمة”، وبتخلقنا بفضيلة الإيثار، نصل ما انقطع من حبل عطاء وجود وسواء وبذل أجدادنا الأنصار، الذين امتدح الله تعالى صنيعهم ذاك، بقوله:- “وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ”. (الحشر:٩)، ليكون ذلك لنا طريقا إلى استعادة الدور الريادي، في احتضان دين الله، ونصرة وليه القائم بأمره.
إن مشروع “الوجبة الرمضانية”، واحد من أبواب الخير والإحسان، المشرعة لنا في شهر الله، والإسهام بالإنفاق في إطعام المحتاجين، كفيل بتهذيب أنفسنا، وتطهيرها من الشح، وتخليص قلوبنا من حب المال، واستشعار المسئولية الدينية والإنسانية، أمام الله تعالى، والاعتياد على البذل والعطاء، يحقق سمو النفس وزكاءها، ويدفع عنها خبث الطمع، ويقيها ذل السؤال، ويجعلها إلى العطاء أميل، وإلى الجود أسرع، وإلى التعفف أسبق، وإلى التحلي بالإيثار ومكارم الأخلاق أقرب، وإلى ابتغاء وجه الله أرجى وأحق، خاصة وقد اجتمعت خصلتان من خصال البر، في هذا المشروع، فهو من ناحية إسهام في إفطار صائم، وهو من الناحية الثانية، إسهام في إطعام جائع، وفي هذا السياق ينقل السيد القائد – يحفظه الله – عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قوله:- “وهو شهرٌ يزيد الله فيه أرزاق المؤمنين، ومن فطَّر فيه مؤمناً صائماً؛ كان له بذلك عند الله عزَّ وجلَّ عتق رقبة، ومغفرةٌ لذنوبه فيما مضى”، وهنا نلاحظ التقابل بين الفعل “من فطَّر مؤمنا صائما”، والثواب الإلهي “كان له عند الله عتق رقبة”، أي ثواب عتق رقبة، فيكون بذلك ثواب عتق النفس من وطأة الجوع والفاقة، موازيا لثواب عتق رقبة مرمنة من رق العبودية، وبذلك يمكن القول إن الجوع والرق، متساويان في سلب حرية الإنسان وإذلاله، وكلاهما يستوجبان العتق، أما طمعا في الأجر، أو تكفيرا للذنوب، كما يقول سماحة السيد القائد يحفظه الله:- “لأن التوبة من الذنوب لا يكفي فيها مجرد الاستغفار، لابدَّ من الأخذ بأسباب المغفرة الأخرى، من ضمن ذلك: هذا العطاء الذي يمحو الله به ويكفر به عنك سيئاتك، حتى في آثارها السلبية على نفسك، وفي أن تنتهي نهائياً من سجل أعمالك، أنت بحاجة إلى الله سبحانه وتعالى، هذا التضامن، هذا التكافل أمرٌ مهمٌ جدًّا، سواءً على المستوى الشخصي، أو إضافةً إلى ذلك النشاط المنظَّم، مثلاً: في الحارات، وجبات إفطار وما شابه”.
ذلك وغيره يجعلنا معنيون أكثر بالمبادرة إلى التبرع لمشروع الوجبة الرمضانية خاصة، والمسارعة إلى دعم مشاريع برنامج “إطعام” عامة، نظرا لما لذلك من عظيم الأجر وجزيل الثواب، في هذا الشهر الكريم، استجابة لأمر الله تعالى، وتحقيقا لصدق هويتنا الإيمانية، وإثباتا لحقيقة تولينا لله ولرسوله وللذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.