مقال

بلال يبكي ويُبكي المدينة بأسرها

بقلم: خالد رمضان
صحابة رسول الله – صلى الله عليه – هم الصفوة المختارة والنخبة المنتقاة بعد رسل الله وأنبيائه، وكأنهم فُطروا من طينة غير التي فُطرنا نحن منها.. طيبةٌ نفوسُهم نقيةٌ سرائرهم عظيمةٌ مراتبهم حملةٌ الدين أصحاب التقوى وقوة اليقين، أحبوا رسولهم ودينهم حبًّا خالط سُويداءَ قلوبهم، وامتزج بدمائهم فهانت عليهم أنفسهم وأموالهم وأبناؤهم وأوطانهم فساحوا في بلاد الله ينشرون دينه، ويشرحون علومه لا يريدون جزاءً ولا شكورا .. أحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا خلّد ذكرهم ورفع قدرهم فقال فيهم: “لا تسبوا أصحابي فوالله لو أنفق أحدكم وزن أحدٍ ذهبا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفة”
وقال: ” أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم “. لو أمسك أحدنا كتابا أو تصفح موقعا إلكترونيا ليبحث ويقرأ عن أحدهم لشعر في دخيلة نفسه أن هذا الصحابيَّ هو أعظم الصحابة فلا قَبله ولا بعده، ولكنك ستُفاجأ حينما تبحث عن صحابي ٱخر أنه لا يقل عن سابقه وهكذا لن تستطيع التمييز بينهم فجميعهم عظماء كرماء نبغاء قادة أجلاء فهم كحبات اللؤلؤ الثمين الذي يشع نورا وضياءً.
واليوم نقلب صفحات التاريخ، ونغوص في أعماق سيرهم العطرة لننهل من معينهم، ونقتفي ٱثارهم ونتعلم من حياتهم المجيدة ما ينفعنا الله به في الدنيا والآخرة.
بلال بن رباح أول مؤذن في تاريخ الإسلام .
إنه بلال الحبشي الذي عذبه أمية بن خلف في رمضاء مكة وحرارة الصحراء تكوي جسده الشريف على مرأي ومسمع من أهل مكة جميعهم، وبلال يأبى أن يُشمتَ هؤلاء بالإسلام وأهله، وكان بوسعه أن يقولها بلسانه ويطمئن قلبه بالإيمان، ولكنه اختار الاختيار الأصعب عليه وعليهم فلم يشفِ غليلهم، ولم يُرح قلوبهم، بل كان يزيد في غيظهم وكيدهم فينطق بكلمة التوحيد التي كانت تنزل كالصاعقة على ٱذانهم (أحدٌ أحد).. فلما يئس أميةُ منه باعه لأبي بكر الصديق الذي دفع ثمنه خمس أوقيات من الذهب، حتى قال لأبي بكر لو أعطيتني أوقيةَ واحدةَ لأعطيتكه بها (استهانة ببلال)، فكان الرد القاهر من أبي بكر رضي الله عنه: وأنت لو أبيتَ إلا مئةَ أوقية لأعطيتك إياها (تعظيما وتفخيما وتكريما لبلال).
دخل بلال الإسلام بعقيدة الجبال وثبات الرواسي الشامخات فعرف له الإسلام صنيعه فكان من خيرة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل صار إليه أقرب وأقرب حتى اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون أول مؤذن في تاريخ الإسلام.
مرت الأيام ببلال يأتي وقت الأذان فيؤذن، ثم يذهب لحجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناديه للصلاة فارتبطت مشاعره وجوارحه وأحاسيسه برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كانت الصدمة الكبرى وحضرت الوفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال ليؤذن للصلاة التي كانت بعد وفاته (وهي تقريبا كانت صلاة العصر) ، وإذا ببلال يؤذن حتى جاء إلى قوله : وأشهد أن محمدًا رسول الله فخنقته العَبْرةُ وسالت دموعه وعلا نحيبه فلم يستطع أن يكمل الأذان، بل وقال : والله لا أؤذن لأحد بعد رسول الله، وزاد في حزنه حتى أنه عزم على الرحيل من تلك البلدة التي خلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوقفه الصدّيق وحاول منعه، فقال له بلال: يا صاحب رسول الله إن كنت أعتقتني لنفسك فلك ما تريد، وإن كنت أعتقتني لله فدعني وشأني، فلم يستطع أبو بكر أن ينفث ببنت شفة.
رحل بلال إلى الشام وظل مدة حكم أبي بكر، وحتى حكم عمر بن الخطاب، وإذا ببلال يستيقظ ذات ليلة مشرق الوجه مبتسم الثغر منشرح الصدر، فسألته زوجته عن سر ذلك؟
فقال لها :
لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي يقول لي :
ما هذه الجفوة يا بلال ؟
ألاَ تزورنا؟
لملم بلال أغراضه وشدّ الرحيل إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما فعل أن دخل المسجد النبوي الشريف، ثم دخل الروضة الشريفة وأخذ يتلمس الأرض ويقول في سريرته: هنا كان يجلس رسول الله، وهنا كان يصلي، وهنا كان يتحدث، يتحسسها وعيناه تدمعان وقلبه يرتجف حبا وشوقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما أحس الناس به تنادوا وجاؤوا فرحا وحبورا وسرورا بعودة بلال حتى أنهم طلبوا منه أن يؤذن كما كان يؤذن، لكنه رفض وقال : لا أؤذن لأحد بعد رسول الله، حتى جاء عمر وأمره أن يؤذن، فأبى بلال وقال : والله لا أؤذن لأحد بعد رسول الله، وبينما هم على تلك الحال جاء الحسن والحسين سبطا رسول الله، فطلبا منه أن يؤذن فانصاع لهما .
الله أكبر الله أكبر ( فكبر أهل المدينة)
أشهد أن لا إله إلا الله ( ارتجف أهل المدينة)
أشهد أن محمدا رسول الله ( عاد رسول الله) فبكى أهل المدينة على بكرة أبيهم ولم يُرَ أهلُ المدينةِ على هذه الحال إلا عند وفاته صلى الله عليه وسلم، وكأنهم تمثلوا رسول الله حيّا بين ظهرانيهم بسماعهم لأذان بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما قال أنس بن مالك: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ، فلما توفي صلى الله عليه وسلم أظلم منها كل شئ.

فاق النبيين في خَلقٍ وفي خُلقٍ
ولم يدانوه في علم ولا كرمِ
وكلهم من رسول الله ملتمسٌ
غرفا من البحر أو رشفا من الديمِ
وهنا يأتيه عمر معاتبا: أترد أمري يا بلال وتستجيب للصبيين؟ فيقول بلال : ومن يستطيع أن يرد أبناء رسول الله؟
رحم الله تعالى هذه الأعلام الشامخة التي أعزت الإسلام والمسلمين وكانت ولا زالت وستبقى أبد الٱباد فخر كل مسلم على وجه هذه البسيطة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى