شعرية ضياع الآخر في ديوان( مرافئ التيه) للشاعر سالم الغزولة
أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
إنَّ الواقع الرومانسي الذي كان يحياهُ الشَّاعر سالم الغزولة ألقى بظلالِه على إنتاجه الأدبي، كان يجِد له صدى لدى الشُّعراء الشَّباب في العراق ويؤثِّر فيهم , وكان ذلك في مرحلة جديدة من كتابة الشعر، أي المدة التي شهِدت نُضوج الشاعر شعريَّاً, ويَلحظ قارئ الشعر العراقي الحديث أنَّ أغلب القصائد إنَّما هي قصائد حبٍّ تتأرجحُ بين التَّوق إلى امتلاك الحبيبة والظفر بها والتوسُّل إليها ، وبين الحزن والخوف والبكاء الناتج عن فقدانها، أي أنَّ لغة الشِّعر في تلك الحقبة شهدت ظهور ألفاظ العشق والحبٍّ وما ينتج عنه من عواطف نتيجة الفقدان والأسى والبكاء والفرح فضلاً عن ألفاظ الطبيعة؛ لذلك فإنَّ الشَّاعر الرومانسي الشَّاب غالباً ما نراه يوحِّدُ بين المرأة والطبيعة([1]),ونلمح ظهور مثل تلك الألفاظ في قصائدهِ مثل (مرافئ ,الضياع , النسيان ,الغياب ,الأحلام ,الهذيان ,التمرد البعد ,وحشة , ذكرى) والمتأمِّل في نصوص الشاعر سالم الغزولة الغزلية يجد أنَّ الشَّاعر يُقيم خطاباً بينه وبين نفسه من باب نجوى الذات، ولكن عن طريق خطابِ شخصٍ آخر مُجسِّداً حالةً من الانصهار الروحي بينه وبين الحبيبة، فنراه يقول في قصيدة له عنوانها مرافئ التيه :
في المرفأ السابع
ترقب نمارسك الحزينة
ترميني كسرة خبز للبحر
يؤوينا الموج لأحضان شواطيه
في المرفأ السابع
اعد أصابع الوقت
آلاف المرات
تعبت يداي من العد
وما تعبت أنت من الغياب
في المرفأ السابع
كل سفني عادت
وما عدت أنت
ولم تعد أنت !![2]
توجَّهت ذاتُ الشَّاعر إلى الحبيبة بألفاظٍ رقيقةٍ وعذبةٍ تشوبها العاطفة الدافئة في انسيابيةٍ واضحةٍ تُجسِّد مرادَ الشَّاعر الذي جعلَ الهوى يجسد سلطةً عاطفيَّةً مؤثرةً عليه, إذ يصدِرُ خطابَهُ العاطفي إلى حبيبتهِ بألفاظٍ وعباراتٍ تعكسُ ما يختلجُ في نفس الشَّاعر من تباريحَ هوى العاشقين ووله ذواتهم إلى ما يُحبِّبُ نفوسهم , ويُقرِّبها من الآخَر الغزلي بغض النَّظر عمَّا إذا كان حقيقياً أم مخترعاً فالمرأة ” المحبوبة ” تتحد مع الذات في خطابٍ عاطفي يصور رغبات الأنا الحقيقية ومتخيلاتها في اللاوعي, الذي يفترض شكلاً من أشكال هذا الآخر ولكن هذه الأنا المفترضة ليست خيالية , بل معبِّرة عن متخيلات اللاوعي([3]), لذا فإنَّ الشَّاعر لا يقوى على الرحيل وترك حبيبتِهِ بل يستمر في التودُّد إليها وكسب رضاها فيقول :
قالت : قتلتني
ورحت تجوب عرض صحاريك
ذبلت سنواتي بعدك
وأيامي هزيلة عجاف
الروح طلل قابع
وبئر العمر معطلة
وما زال صداك ينادي
هل لحضورك من مزيد !!؟[4]
ووَلَهُ الشاعر بمحبوبتِهِ قادهُ إلى التَّعبير عنها بمظاهر الصَّد والاشتياق الذي تكلَّلَ بالوصف الحِسِّي لطبيعة تلك العلاقة ، ولكن مع عدم الانحراف عن الغزل الروحي إلى التغزل بمادياتٍ رخيصةٍ يمجُّها العقل , فالشَّاعر يجعل الطريق بينه وبين الآخر “المرأة” موصَداً، ولا سبيل يخرج الشاعر من معاناتِهِ وانغلاقه على ذاتِهِ إلَّا أن يمارس انفتاحه على الآخَر الغزلي الذي يكمل له ما استلبَ منهُ وكان سبباً في عزلته فالوعي الشعري لا يمكن أن يوجد إلَّا في الآخر بأن يعيش انفتاحه عليه ؛ لأنَّ هذا الانفتاح سبيله الوحيد لكي يمارس ذاته وفعاليته , إنَّ الآخر” المرأة ” يُمثِّل مشروعاً لهذه الممارسة لأنَّه مليء بالممكنات[5], ويلجأ الشاعر سالم الغزولة بعد ذلك إلى إحاطة حبيبته بمظاهر الاستعلاء والإعراض والهجر في سبيل كسب ودِّ الآخَر الذي يتغزَّل به ، يقابله تنازلُ ذاتِ الشَّاعر عن كل تلك الأشياء وإبدال مكابدة الحياة وتعاستها التي تحياها تلك الذات الحالمة بنظرة ودٍّ من شأنها أن تعيد كلَّ شيء إلى مكانِهِ الطبيعي([6]),وتستمر الذات المتغزِّلة في تغليب تصورها للعالم العاطفي الذي تحياه([7]), وذلك من خلال استمرار الشاعر في حشد الصور العاطفيَّة التي تُفصِحُ عن ذاته الوالهة لرؤية الحبيبة فنراه يقول:
أين السبيل إلى دروب الأحلام ؟
أم أن أيامك الراحلات ما عادت تبصر
في ساعاتها نشوى
وما عاد يرتسم فوق نبض شفتيك شهد
أما أن لك أن تحط ركابك الثكلى
وتبصر لسفنك السكرى فنارات !!
أما حان للنذير أن يصرخ بأعلى صوته
كفاك
كفاك لا رحيل ولا بعد !![8]
إنَّ الشَّاعر المُحِبُّ هنا كان قد استعان بامرأةٍ ليس لها وجودٌ واقعيٌّ ، وليؤكِّد فكرتَهُ هذه يلجأ إلى توظيف المرأة ” السراب أو الحلم ” وهي إحدى الوسائل التي يستحضرها الشَّاعر ليُعبِّر من خلالها عن الحب الأفلاطوني المفقود ؛ لإبراز صورة الحبيبة العالقة في ذهنهِ لذلك كانت المرأة هي الصُّورة والحُلم والواقع الذي يركن إليها الشاعر في الحقيقة والخيال لتملأ عليه وجودُهُ ([9]), إذ إنَّنا أمام شاعر يتجشَّم كافة الصعوبات ويذللها في سبيل لقيا من يعتقد فيه صفات الحبيبة ، فيعمد إلى خلق مساحةٍ من التَّوافق الوجودي بينه وبين الآخر ؛ لتعويض الحرمان العاطفي الذي ترك أثرهُ في نفسهِ ، والذي تَجسَّدَ بمحبوبته الغائبة وحضورها معه سراباً أفلاطونياً، إذ تؤدِّي المرأةُ بفعل الحبِّ دوراً فاعلاً في الحياة من خلال ثنائيَّة الحضور والغياب، فحضورها في الحياة يملؤها عاطفةً وبهجةً , في حين يُثير غيابها أجواء الخواء والحرمان([10]) ,والغزلُ هو استجابة روحية تجذَّرت في ذات الشَّاعر ، وإنَّ أول الشُّعور بالانجذاب نحو الآخَر يكون نتيجة تفتُّح الذات العاشقة على غيرها وعلى العالم([11])؛ لذلك نجِدُ الشَّاعر سالم الغزولة لا يدِّخر جهداً في سبيل وصال محبوبتهِ والظفر بها والبوح بعاطفته لها ,وتتوجَّه الذاتُ إلى الحبيبة بخطابٍ يستبطن معاني الألم ، واللوعة ، والرغبة في عدم الافتراق والتزام الشاعر الصمت ، إلَّا أنَّ عواطفَه جسَّدت ما يدور في مخيَّلته شعراً متخذةً بذلك من حبِّهِ الزائد للآخَر وسيلةً للكشف عن حالتِهِ النَّفسية وعن موقفِهِ الانفعالي ,وفي قصيدة أخرى يتغنَّى الشاعر بمفاتن الجسد الأنثوي ؛ لأنَّ حبيبتَهُ ساحرةُ الغرام فيتوجَّه إليها , ويُحيطها بهالةٍ كبيرةٍ من كلمات الإغراء المعسول فنراه يقول :
وأنا اقرأ كفك
أضعت أصابعي
في دفء المساء
وذبت شفتاي
في تلاوة رضاك !![12]
هنا يظهر لنا الشَّاعر بألفاظٍ غزليَّةٍ تنحرف عن الغزل الروحي والعفيف لتنقادَ إلى التَّغزل بماديات المرأة التي تُبيح للمتلقِّي وضعَها تحت عنوان الغزل الحِسِّي , فالشاعرُ قد اختزن المرأةَ في ذاكرتهِ فهي تمتلك مخيلتهِ , وتعيش معه في أحلامهِ , الأمر الذي يعكس احتشاد النَّص وازدحامهِ بالصُّور الحِسِّية والحركيَّة من خلال الألفاظ الدالَّة على الحركة مثل ألفاظ انعطاف الجسد والإغراء ,فضلا عن الألفاظ التي تدلَّ على حركة الزمن وتقلبهِ من الزمن الماضي إلى الزمن المضارع في أبيات النَّص اللاحقة وهذا يدلُّ على تموُّج الذات وعدم استقراريتها وإبرازها بوصفها وسيلةً يستعين بها الشَّاعر على أداء المضمون الشِّعري المختمر في عقلِهِ, إذ يُشكِّل الحبُّ وجوداً حركياً في حياة الإنسان فهو يصنع المعجزات وله القدرة على مساعدة الإنسان في أن يتعرَّف على وجودهِ من خلال اعتراف الآخر به, فضلاً عن كونه الحقيقةَ الكبرى التي تُعطي الحياةَ البشرية جانباً غير قليل من قيمتها , وما ينتج عن ذلك الحب من خروج المحب من تمركُزهِ الذاتي، وسعيهِ جاهداً في سبيل إعطاء الأولوية أو الصدارة للآخَر([13]), وتبدو المرأةُ في حياة الشَّاعر سالم الغزولة حبيبةً ومعشوقةً, يجِدُ فيها صفات المرأة التي تملؤ عينَهُ وقلبَهُ , والتي كلَّما زادَ تحديقاً بها ظهرت عليها معانٍ جديدةٌ تخلع عليها سمةَ الجمال.
المراجع:
([1]) ينظر : دير الملاك : 170 .
[2] ديوان مرافئ التيه : سالم الغزولة : 116 0
([3]) التجليات الفنيَّة لعلاقة الأنا بالآخر في الشعر العربي المعاصر : 139 .
[4] ديوان مرافئ التيه : 8 0
([5]) جماليات الشعر العربي: 145 .
([6]) ينظر : مدخل إلى سوسيولوجيا الأدب العربي : البيضاء – المغرب , ط1 , 2005م : 132 .
([7]) ينظر : معجم المصطلحات الأدبية :107.
[8] ديوان مرافئ التيه : 82 0
([9]) النور والظلام في شعر البحتري: 169 .
([10]) ينظر : النور والظلام في شعر البحتري : 169 .
([11]) ينظر : الحب عند العرب: 64 .
[12] ديوان مرافئ التيه : 43 0