في الملتقى الثاني للسردية الفلسطينية ونقد النص التاريخي

تحسين يقين | فلسطين
لا ينبغي لكتابة التاريخ أن تكون وقفا على مراحل الصراعات؛ فالتاريخ تاريخ، خاصة إن كان موضوعيا وصادقا. ومع ذلك يصعب تجنب تأثير النزاعات والصراعات على روايات البشر أفرادا وأسرا وجماعات وأمم. وبالرغم من كل هذا التأثير السلبي، الذي يتفق مع مقولة أن التاريخ يكتبه المنتصر، إلا أن ذلك ليس أبديا، ولعل ما نعيشه اليوم من تحولات هامة، ستجعل احتكار عملية التأريخ قديما ومعاصرا عملية صعبة.
منذ عقود ثلاثة أو يزيد، تطورت الرؤية التاريخية باتجاه موضوعي فيما يخص التاريخ القديم، خصوصا في زيادة التأكيد على الاهتمام بالمصادر الحقيقية العلمية، وليس الروايات فقط، ودخل هذا المجال علماء حقيقيون من جنسيات وقوميات وأديان مختلفة، بمن فيهم علماء وباحثون من طرفي الصراع، نظروا للتاريخ نظرة علمية ناضجة غير متوترة، ولا تسعى للتوظيفين الأيديولوجي والسياسي.
في الملتقى الثاني للسردية الفلسطينية: نقد النص التاريخي، الذي عقد قبل أيام في جامعة الاستقلال بأريحا، من خلال وزارة الثقافة وجهات ذات صلة، أمكننا الاطلاع عن قرب على ما قطعه المؤرخون والباحثون الفلسطينيون من مسافة تمنحنا القوة والأمل، بما امتلكوه من رؤية موضوعية متقدمة في فهم التاريخ، يمكن أن تشكل علامة فارقة في خطابنا السياسي والتربوي والإعلامي، فقد ظهر تمكنهم واطلاعهم على المنجز العالمي في الموضوع، كما ظهر اطمئنانهم وعلميتهم الهادئة بعيدا عن التوتر والقلق الأكاديمي.
من أهم نتائج الملتقى ليس فقط في الإجماع على الرؤية الموضوعية في فهم مراحل التاريخ في المكان والأزمنة، بل في القدرة الأكاديمية لتأسيس تيار جديد يعيد كتابة التاريخ هنا، للتأثير على مجتمعات المعرفة، وعلى الشعوب.
في السردية، نجد حديثا عن سرد السرد نفسه، القادم من الخارج ومن أدبيات تاريخ فلسطين القديم، حيث من المهم الاطلاع على أساليب ومناهج ما تم سرده من أواخر القرن الثامن عشر، حين فكر نابليون بونابرت في هذه البلاد، ليستغل اليهود في حملته باتجاه مصلحته بالطبع، وما تلا ذلك من بحث الأوروبيين من خلال جمعيات أهلية للعودة من خلال أساليب ناعمة، بعد فشل الحسم العسكري وخروجهم المهزوم في العصر الوسيط.
والآن، صار من المهم إيصال نتاجات هذه الأبحاث على اختلاف منطلقاتها، حتى يفهم الفلسطيني والعربي والآخرون، ما الذي حدث في هذه البلاد، وما الذي يحدث الآن، وما الذي ينبغي فعله للمستقبل؟
وهنا، تصبح دراسة التاريخ القديم الممتد عبر جغرافيا أوسع كثيرا من خارطة فلسطين التاريخية، أمرا يوسع النظر، حيث سيتم تناول تاريخ المكان القديم هنا، كتاريخ فلسطيني، مرت على شعبه تحولات دينية وسياسية، فهم الذين كانوا هنا في أزمان الأنبياء وقبلهم، وهم هنا قبل الديانات السماوية، وما العهد القديم مثلا إلا روايات الناس هنا، فهي رواياتهم وأساطيرهم، وهي تؤكد حضورهم من قبل وبعد، وكل ما حدث هو في تغيرات الأديان ليس أكثر، فهم أهل الرواية النسبية، وليس القادم عن بعد ليدعي أنها روايته المطلقة.
في الواقع، فإنه من الصحيح أنه تم استخدام الروايات التوراتية للتأثير على يهود أوروبا والعالم، لكن الحسم هنا على أرض الواقع كان من قوة السلاح والمال والإعلام، وهو مستمر حتى الآن، فقد صدق الاستعمار ما أراد أن يصدقه لمصلحته.
والآن لم يعد ممكنا تصديق احتكار جماعة ما لتاريخ آخرين بدعوى الدين؛ لذلك ينبغي عالميا تغيير الخطاب هنا من منظور تاريخي وأخلاقي، يتأسس على صدق رواية الشعب الأصلاني لا نفيه، وهو الشعب العريق الذي لم ينف جماعة من قبل بل استوعب حتى أبناء الغزاة الذين عاشوا هنا من آلاف ومئات السنين.
في مؤتمر أريحا، تقوت وجهة النظر الداعية لكتابة تاريخنا لنا وللآخرين، بلغو علمية غير نزقة، تنظر للتاريخ نظرة شمولية، شكلت ليست فقط فسيفساء تاريخية، بل انعكست أيضا على الهوية.
لقد تم موضعة السردية في إطار فكري تاريخي نقديا، حيث صار من المهم البناء على ذلك وتفصيله، وتقديمه لطلبة التاريخ في المدارس والمعاهد والجامعات الفلسطينية والعربية، وترجمته، وهو ينسجم مع ما هو موضوعي منشور بكثرة من باحثين في لغات مختلفة.
ولعل من الفعل الاستراتيجي للندوة الجادة، هو ربط ذلك الاتجاه بموضعة المعرفة التاريخية في سياق تحرر المعرفة، الذي كان سائدا في أجوائها، حيث سيتأسس جيل ينظر الى تاريخه بنظرة علمية ناقدة ونقدية، يعرف ما الذي حدث هنا فعلا، وما حصل من اشتباك معرفي، فلا يتقوقع في زمن معين، بل ينشد عرقة المكان، وعدم الوقوع في فخ الانفعال.
إن الفهم الموضوعي للدراسات التوراتية يقود الى تقوية نضالنا ضد الاستخدام غير الأخلاقي وغير العلمي الذي قامت وتقوم به الدراسات الصهيونية، والتي وجدت ناقدين لها ليس من يهود العالم، بل وحتى من اليهود في إسرائيل.
مرة أخرى نجد أنفسنا مؤكدين على الأهمية القصوى لرؤية تاريخنا الممتد آلاف السنين، والذي يمثل التاريخي الإسلامي جزءا منها، حتى لا يستمر إقصاؤنا عن مراحل منتقاة منها، فهنا نزلت الرسالات السماوية على أهل هذه البلاد، وهم الذي اعتنقوها، ومنهم من ظل على اعتقاده القديم، ولم يكن ذلك ليثير فتنة أو صراعا، فهم من ثقافة واحدة قديمة وعريقة ومتجددة.
يقودنا المكان الى الكتب وتعيدنا الكتب الى المكان؛ ذاك أن العقلانية تقتضي العلم والمعرفة، والتأكد منها، والأهم عدم توظيفها قسريا، لتشريع الاعتداء والاحتلال.
الآن ثمة أمر واقع؛ فلم تحسم الأمور هنا، رغم أن الاحتلال أحكم قبضته على البلاد بقوة السلاح، فما زالت فلسطين أرضا وشعبا أمر واقعا، ولعل المشتبكين بهذا كله، ينحازون إلى جانب الشعب الأصلاني لتقوية بقائه، واحترام كرامته والبحث عن ممكنات العيش من منظور أخلاقي، خاصة بعد ما صار يتبين كل يوم، من علم ومعرفة، يصعب تجازوها.
“نحن الرواية والرواة” شعار فكري حقيقي؛ فنحن هي بما نحن فيه من شعب قديم وجديد وحيّ، تمازج مع شعوب قريبة قدمت هنا وعاشت، وعمرت البلاد، ونحن الرواة إن امتلكنا روايتنا الموضوعية غير المتوترة، والتي تستحق أن تسود حتى ولو كان الميزان العسكري مختلا.
هنا في اريحا، بلد العشرة آلاف عام، أسير هنا في تاريخ ممتد، فأينما تمتد العيون والخطوات نقرأ وجودنا الراسخ، مكررا صعودي لتل أريحا الأثري، فأطمئن لتاريخينا ووجودنا ومستقبلنا، الذي ستصعب للآلة الحربية القضاء عليه.
نحن، بلغتنا الحقيقية، قادرون لمخاطبة الكل، بمن فيهم الغزاة الجدد، بأننا هنا قديما، ونزلت الرسالات هنا، فنحن من كان جمهورها، وظل مضمونها الإنساني فينا، وهنا في هذه التعددية الدينية المنسجمة مع تعددية المناخ والنبات، نعيش كما عشنا تعددية ثقافية كأنبل ما تكون التعددية التي لا تقصي أحدا.
لمؤتمر أريحا الثاني في ربيع 2022 الذي تلا مؤتمر عمان في أواخر عام 2021، نحن إزاء تيار لمؤرخين فلسطينيين (وعرب) جدد، أكثر إصرارا معرفيا على القراءة الحقيقية لسرديتنا على الأرض، لتقديمها أولا لنا، وللآخرين، وأيضا للاستفادة من منجزات الدراسات التاريخية الجادة، والتي تصب في الانحياز للحقائق، وشعبنا أهم هذه الحقائق.
والأمل أن نشهد تعاونا مع منتديات أخرى، وباحثين ومؤرخين آخرين، فنحن بحاجة لهذا الفعل الأخلاقي والعلمي معا والوطني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى