وحشة العابر.. قراءة في ديوان (لا وقت يبقى) للشاعر عبد الحكم العلامي
د. خالد رطيل
حين نحاول تأمل شعرية عبدالحكم العلامي في ديوانه: (لا وقت يبقى) فلا بد أن نكون واعين بدروبه المتشعبة، ولغته المباغتة، فهو لا يقف عند حدود النص بمعناه الحرفي؛ بل يكتب الشعر ليخلِّف ذاتاً محاورة ومؤنسة وراصدة، تجلِّي مكنون ماوراء النص، وتكشف آفاقاً لتجارب أخرى لا يفطن لها القارئ العابر، تلك الأطوار التي تتعدد ما بين الطفولة البعيدة، والشباب القريب، وحاله الراهنة المشحونة بكل هذه التجارب.
ففي ديوانه (1) يفجؤك العلامي بارتياده مسالك عديدة من أطوار الشعر، ولن تستطيع أن توصِّف ديوانه على نسق واحد؛ بل نزعم أن كل قصيدة فيه لها أفقها وتجربتها، وتعيش أنت معها عالماً آخر بحدوده وأحداثه، ونرى ذلك من خلال تصديره لهذا الديوان بمقطع للشاعر المقدوني: بلاجيه كونسكي:
لا تجهد نفسك لكي تراني
إنني أمضي في سبيلي
وسيصعب عليك أن تفهمني
إنني كالنهر الذي يجري في باطن الأرض
تحت الحجر الجيري الأبيض للأيام
ومنبعي
هو ليلة الطفولة البعيدة!
هل يريد العلامي توجيه قارئه من البداية، وإحالته إلى المفتاح السحري، وهو أن تفتش عن طفولته البعيدة، والتي من السهل أن يضع القارئ يده على إحداثياتها داخل تجربته، وإذا كان من العسير علينا أن نفهمه كما ابتدرنا هو بقول كونسكي، فهل سيكفينا نحن أن نرى تجربته في قراءة عابرة؟!.
الأمر جد شائك، لأنك ستتفاجأ فعلاً – وأنت تتصفح قصائد هذا الديوان – بأن عناصر تجاربه، واستعصاء القبض على خط سيره كله مرهون بأن نستكشف هذه المرحلة البعيدة العصية من طفولته، ففي قصيدة “سيرة” يفتح لنا العلامي كُوة لاستشراف إطار حزنه المستديم، وغيابه عن القرى التي يسكنها، واحتراقه الدائم بلفحة التذكر إذ يقول:
هو ذا
أنا الولد الذي
شاف الفتاة
بذات عصر
وهي تلهو بالسنابل
قالت له:
– قبل انسراب الدمع-
هل تلهو معي؟
فأشار للشجر الخريفي المجاور
ثم رقَّت دمعتان
تقاسما لفح اشتعالهما
وراحا
في الزوال !!.
لا ندري بالضبط هل كانت تلك الفتاة التي شافها ذات عصر، هل هي حبيبة، أم طفولته نفسها؟
تلك الفتاة التي كانت تلهو بالسنابل، في دلالة مقصودة، وإشارة تختزن الأسباب التي يثيرها السؤال عما إذا كان بإمكانه اللهو كما يفعل الأطفال في مثل هذه السن؟
وتلك الدلالة تقودنا إلى اليقين بأننا أمام طفل ذي تجربة عصية، خاصة وأنه يشير للشجر الخريفي المجاور، ويعلم مدلول ذلك تماماً، مما يؤكد عمق وعنفوان هذه التجربة المبكرة، والتي تسوقه إلى تساقط الأوراق، وانصهار تجربته بهذا الكم من الدموع والغيبة المفاجئة.
ونرى اعترافاً منه بعد ذلك لتلك الروح/التجربة التي تحكي لنا في تراجيديا التذكر ما دعاها لهذا الرحيل في مقتبل نشوئها وبدايتها، ففي قصيدة “معراج” نلاحظ هذا الاعتراف:
للروح معراج
به تعلو
على درج شفيف
تستحث هجوعها
وتقوم فور حضورها
تلقي إجابتها
لأول سائل
وتفك موثوق الكلام
هنا لأول مرة تتحدث الروح/التجربة عن أسبابها، ومقاصد غيبتها التي فجأتنا بها:
للروح أن تسعى
إلى قفرين:
جسد خرابْ
ورتاج بابْ
إذن فهذه الروح/التجربة تملّ ذلك الجسد الذي يقيّدها من أن تعلو درجاً آخر حالماً، تستطيع من خلال انفكاكها منه أن تفك قيودها، وترى ما خلف السُتُر والحدود، هي روح تواقة لأن تعرف كل الأسباب، ولا تكتفي بالمشاهدة، فهي دائماً ما تؤمن برؤيتها ويقينها هي، وتقدس استنتاجها لمكنوه الأشياء:
وتعود شاغلة خطاها
بالزحامْ
ولها
-على كل-
عراك دائم
تتلوه وقت نزوحها
ولها قداسة ما ترى
ودائماً ما يقف العلامي راصداً بحركاته غير الإرادية في تكوين الأسباب ليمنحها البرهان والدليل، وقد يرصد فيما هو قادم عليه احتمالات شتى لما يؤول إليه المشهد، والحق أنه كغيره من الشعراء شديد الحساسية من اقتحام الزحام, وتفاعله مع الجمع، كما يقول صلاح عبد الصبور في “حياتي في الشعر”: “إن الفلاسفة والأنبياء والشعراء ينظرون إلى الحياة في وجهها لا في قفاها، وينظرون إليها ككل لا كشزرات متفرقة في أيام وساعات”(2) لذا نجد العلامي في قصيدته “مآل” يلقى على نفسه المقتحمة كثيراً من التنبؤات والتحذيرات التي يستنتجها قبل دخولها معترك الحياة الذي يمثله السوق في القصيدة، مصوراً ضخامة الخسارة من هذا الاقتحام والالتحام بالحياة:
بعد قليل
تدخل هذي السوق
بعد قليل أكثر
تخسر!
لأنك
قد فوَّتَّ
عليك الفرصة
ولأنك – بعد قليل أكثر-
سيكون عليك
بحكم الخبرة
أن تتدبر في بيعتك
سيحسب هذا الوقت عليك
صراع نفسي بين الروح التي تعبر حواجز المشاهدات العابرة، وبين الروح التي تريد الاقتحام بلا حيطة، ويظل هذا الاشتباك قائماً، ولا تفلت الروح المقتحمة من التأنيب:
لأنك لو عالجت خيارك
قبل دخولك هذي السوق
وحسمت الأمر
لكنت رجعت
تؤنب نفسك:
كيف رضختَ
لهذي العجلة ؟!.
ودائماً ما تركن تلك الروح المتوجسة إلى حياة أخرى تخلو من هذا الضجيج وهذا السوق، تنبذ فيها توجسها، وخوفها من ظلام الليل، ويحلو لها هذا السكون:
وأقول للطفل القديم
الآن تقدر
تتقي وهم الأصابع
تسطيع كشف خيانة الأعضاء!!.
وصراع النفس المتوجسة مع الذات المقتحمة، دائماً ما يُحسم الصراع فيه لصالح الذات المتوجسة، الباحثة عن الطمأنينة والأمان، ويحدث هذا الجدل بين الذاتين مكوناً ما يشبه صراعاً يتجدد ويتحور في صورة الواقع، وما تحلم به الذات المتوجسة، الأمر الذي يذكرنا بمسألة الخلاص الروحي عند الصوفية، حيث تتناغم الحوارات الداخلية في نفس المريد، وتتشابك خيوط كثيرة بداخله،يرفض من خلالها كل ما حوله، ويتوجس من كل فعل، ثم ينتج عنها في النهاية مرحلة من الرضا والسكينة، “لذلك نجدها تميل إلى تخطئة الثقافة السائدة، وإلى ربط التغيير الاجتماعي بالمثال المنشود، واعتبار الخلاص مسألة ذاتية”(3)
كذلك نجد هذا الصراع الذاتي في نفس العلامي التي تريد أن تختبر كل شيء قبلالتجربة، وأن تحصل على اليقين قبل الفعل، ففي قصيدة “سبتمبرية” يدور هذا الحوار الذاتي الذي يستجدي الخلاص من واقع الحياة المرير، إلى وقت لا يكشف حدوده أحد غير ذاته:
إني الآن
وأنا في سبتمبر
أحتاج لوقت يخلو منك
أحتاج لوقت آخر
لا ألقاك عليه
حتى أقدر
وأنا أرجم فيك بوار خطاي
أكون بمنأىً
عن تأنيب عيونك
لي!
غير أن هذه الروح لا تستطيع الفكاك من السؤال الذي تلبّسها وهي طفلة، حتى صار السؤال هو أداة المعرفة، ولغة التحاور لديه، فكثيراً ما يستغني بالاستفهام عن الإخبار، ليكشف به مدلولاً آخر هو على بينة منه، وكذلك يضع نفسه سائلاً ومسئولاً، تتقاذفه شتى الخيارات التي تربك ذاته المتوجسة في كل نزال:
أنا لا أفسّر
غير أني
عندما يحلو لقلبي
أن يكلم هاجساً
يخفي عليه مسرة
تعتاده
يخفي هو لغة
السؤال
ويقتفي أثر الذي
قالته هيْ.
ما الذي يدعوه أن يتخلى عن اللغة كأداة للمعرفة، واستشراف الأسباب؟
لعله – منذ رحيله فجأة – تعلّم أن يصغي ليستشرف،وأن يتأمل ليعرف، وأن يتقي حروف اللغة التي أصبحت كسياط تجلد شعوره:
هل كنت ترشف
ما تبقى من سهاد
لتعيد ترتيب الهوى
في كلمة
حاولتها
وقدرت وحدك
تتقي وخزات أحرفها
كأول نوبة للعشق
ترتاد كيمياء الجسد.
وقد تصاب هذه الذات المتوجسة بمرحلة عابرة من اليقين، والإحساس بالتملك والسيطرة، كما يحدث للصوفي الذي ترقّى فأصبح الكون طوع يديه، ويرتضي حاله المضني بعد المكابدات، ويشعر بالتفرد عن سائر المخلوقات:
هل كنت ترقب يا كليم
نهاية مقبولة
لفضيحة الوجد الذي
أسررته
وأتى عليك الوقت
وحدك هكذا
نزراً يسيراً
من كلام العاشقين
فخابت مهجة
وتنافرت لغة
وأوصد طائر
شُبّاكه
وظللت وحدك هكذا
أبداً
جميلاً
كاحتمالات الفرحْ ؟!!.
وفيما يشبه وحدة الوجود ذات المنزع العرفاني الصوفي نجده كذلك حيث تنصهر تلك الذات بالماء والصحراءوالهواء،ليصبح هو طقساً من طقوس الشاردين،ويجد كل هذا البراح جزءاً خصيباً من ذاته،والذي كان عليه أن يكتشف هذا من قبل،غير أن تجربة العلامي تختلف في صياغة هذا التوحد عن فكرة الصوفية،لأنه يرى الكون نسقاً من مكونات الطبيعة الذاتية التي تمتلئ بها ذاته هو وحدها، فيحصل له التفرد بهذه الوحدة تلك التي تكونت عنده من بلاغة الاستفهام المغني عن المعرفة المباشرة،وكلما بَعُد عن السؤال عدِم الوصول إلى هذا الامتزاج الروحي بطبيعة الكون، ولئن كانت الصوفية أدركت” الكون من حيث واحديته”(4) فإن العلامي استطاع أن يدرك هذا الامتزاج من خلال استفهاماته الباحثة، ونظرته المتعمقة، يقول في قصيدة “محنة العليل”:
هل كانت الصحراء
قصداً ؟!
للماء أنت على قدر
والماء حال من طقوس الشاردين
وله الغواية
عندما يجثو على رسغين
منهزمين
ويحاور الصحراء في نياتها
فيثير زوبعة الكلام.
ونستطيع القول إن وجدان الشاعر عبد الحكم العلامي كان يملك قدرة أخرى تختلف عن قدراتنا في استكشاف ما يخفى من الغموض،وإماطة الستُر عن جوانب الكون بنظرة المتوجس المستفهم، ففي حين نجد الصوفي يتخذ الخلوة ليرقى بوجدانه،ويفتش عن ذاته الغائبة،نجد العلامي يستخدم الاستفهام السابر، ويتعرض لطريق الغوامض بغرض اختبارها،وانتزاع الإجابات بعد المكابدات التي يلاقيها، وتلك حالة لا ترتضي ظواهر الأشياء، واستنباط العلة من المعلول،بل يغوص إلى ما وراء العلة ليجد لها علة خفية أخرى،وذلك على حد تعبير عامر النجار.(5)
لعبد الحكم العلامي إذن تصوفه الخاص به وتجربته، وإن كانت تحاكي تجربة الصوفي المكابد إلا أنه يتخذ سبيلاً آخر للكشف، ومرحلة تتعدى الصوفي الذي يرضى بمجرد سكون القلب،وركونه إلى الرضا، فلم ترتض ذاته المتوجٍّسة الوصول إلى ذات عليا تدبر أمره وحسب؛ بل أسهم بشكل فاعل في خلق معاني أخرى لهذا المصطلح الصوفي ليصل في النهاية إلى مصالحة حميمة مع الكون والنفس، وعلاقة متوازنة بين الإنسان والطبيعة، يقول في قصيدة “خُلْف”:
صدقيني يا رفيقة
غير أني راحل
لي هاجسي
وشواغلي
تبقين أنت دونها
أشياء حالي أثقلتني
أفسدت لي موعدي
في أن أظل
أنا
وأنت
كما اتفقنا !!.
وقد استطاع العلامي أن يأخذنا بلغته الرائقة، التي تخوننا في الحكم عليها، بحيث يبدو وكأنه لا يعمل على طريقة الخيال،والحق أنه يقول الشعر هكذا دون تنميق، ولا إيغال في الصور المعدةسلفاً، وكما قيل “إن إنتاج الصورة الشعرية يرجع بشكل عام إلى عمل العقل في عتمة اللاوعي”(6) فنستطيع نحن كذلك أن نصنِّف الصورة الشعرية أو الخيال لعبد الحكم العلامي بأنه بضاعة محلية الصنع، من الألف إلى الياء؛ بل أضاف إلى الصور المعهودة للبلاغة العربية ما يحتاج منا عملاً آخر نعمل عليه.
لذا كانت الصورة الشعرية عنده متولّدة عن تجربة شديدة الاستسرار، ومكابدات لا تشبه حال الصوفي في كل مراحلها، لأنها كانت صناعة روح متوجسة تملك شعوراً حياً، وفكراً ولغة توافقا على ذلك، ويؤدي الاستفهام الباحث بعد ذلك ما تعجز عنه المباشرة.
ثم إنه استطاع أن يمزج بين حال الصوفي وحال الفيلسوف في رؤية مكتملة الجوانب، بما تجده خلال هذا الديوان من البحث المتأمل، والاعتداد بحاله المكابد، مما جعلها حالة شديدة الاستسرار.
يقول في قصيدة: تشابه الأثر”:
تقود هذه الحشود نجمك الخبيئ
فيرتدي سفوره
لينشر الحنين في مضارب الفلاة
ويشعل الثقاب
في الإهاب
وهذه البيارق المهابة المنال
تغالب الرقاد
فتكتفي من نومها
بغفوة المسروق من حضوره
حينما يلح في السؤالْ !!.
فكيف لنا أن نقيم هنا موازنة بين الصوفي العلامي والفيلسوف العلامي؟!
لا نقدر؛ لأنا نجد فيه الصوفي وهو يحمل الإهاب في الفلاة، ويتشح أطماره هائماً في الدروب،ويظل مسروقاً حتى في حضوره،ونجد فيه الفيلسوف كذلك،الذي يلحُّ في السؤال، ولا يكتفي بالمرور على الأشياء، بل يبغي نشر الحنين والود، وصناعة المدينة الفاضلة.
لقد كان ديوان (لا وقت يبقى) سفراً آخر لعبد الحكم العلامي يكمل به رحلته الصوفية الفلسفية التي ولدت عنده منذ أن كان يلهو ذات عصر مع فتاة قروية،ليعلنا رحلة التقصي، وجلب الإجابات.
الإحالات والمراجع والمصادر
(1) ينظر: ديوان “لا وقت يبقى”: عبد الحكم العلامي: دار النسيم للنشر والتوزيع-2021م.
(2) حياتي في الشعر: صلاح عبد الصبور: دار أبي قرط-بيروت-لبنان-1981م- (ص 104).
(3) مقدمة شرح مشكلات الفتوحات المكية لعبد الكريم الجيلي: د/ عاطف جودة نصر-مكتبة الشباب-1988م – (ص 74).
(4) الرمز الشعري عند الصوفية:د/عاطف جودة نصر:دار الأندلس- بيروت – لبنان – ط الثالثة-1983م – (ص 315).
(5) التصوف النفسي: د/ عامر النجار: دار المعارف-القاهرة-ط الأولى-1984م-(ص 370).
(6) الصورة الشعرية: س. د لويس: ترجمة: أحمد نصيف الجنابي ومالك منيري-منشورات وزارة الثقافة والإعلام – العراق-1982م-(ص 43).