لسنا مجرد أشجار للتدفئة
د. خضر محجز | فلسطين
في فترة الانفلات الأمني بعد تشكيل أول حكومة حمساوية وقبيل الانقلاب
بغيتَ، فلم تقع إلا صريعاً
كذاك البغي يصرع كل باغي
حكمة قديمة منذ زمن الجاهلية الأولى: فقد أدرك حتى العربي المتخلف بأن عاقبة البغي وشيكة وعنيفة ونهائية.
حكمة قديمة نحفظها ونرددها، ثم نكتشف أن أحزابنا السياسية، في القرن الواحد والعشرين، لا تفهم مضمونها ولا تحترم محتواها، في إشارة واضحة إلى أنها ـ رغم كل شعاراتها الكاذبة ـ أشد تخلفاً من العربي الذي يأكل الجرابيع في الصحراء.
ثم جاء الإسلام، وقرر ـ من ضمن ما قرر ـ تطبيق حد الحرابة على الأفراد، والمجموعات المسلحة، التي تروّع الناس، حتى لو كان هذا الترويع باسم الله والدين. ولقد علمنا كيف حاكم التاريخ الإسلاميُ الخوارجَ، الذين ينزلون أحكام الكفار المحاربين على المسلمين الآمنين، ويعاملونهم معاملتهم؛ إلى درجة أنه لما وقع أحد العلماء بين أيديهم وسألوه عن دينه قال: مشرك مستجير. فقالوا: إنه لحقٌ علينا أن نجيرك ونسمعك كلام الله ثم نبلغك مأمنك. في إشارة إلى قوله تعالى: “وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأجِرْه، حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه”. ولو قال لهم أنه مسلم لقتلوه.
واليوم ترى فتياناً يقرأون النصوص الدينية، ثم يا ليتهم يخالفونها، بدلاً من هذا التحريف المهول الذي يمارسونه بحقها. فأنت إذا لم تكن منهم اتُهمت بالعلمانية. ثم إذا كنت علمانياً حقاً فقد اتُهمت بالكفر.. ويا عيني عليك إذا كنت كافراً من هذا الطراز!.. فأنت حينئذ أعلم بما يترصدك.
والسؤال الذي لا بد من طرحه في هذا السياق هو: هل العلماني كافر؟. وهل من ليس عضواً في جماعة تدعو إلى تطبيق الإسلام، بطريقة الجماعات الإسلامية كافر، أو ضعيف الدين؟. إنني أستطيع أن أطرح أسماء عشرات من مشايخ الإسلام، الذين لا تنطبق عليهم هذه المواصفات، ليس أولهم الشيخ محمد الغزالي وليس آخرهم الشيخ سعيد حوى، رحمهما الله.. إذاً، لا شك أن الجواب هو بالقطع: (لا).
والآن دعونا نطرح الأسئلة التالية:
1ـ إذا كانت العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، فمن قال بأن ذلك كفر بواح مخرج من الملة؟.
2ـ وحتى لو كانت العلمانية كفراً ـ وهي ليست كذلك بالقطع ـ فهل يجوز اعتبار كل علماني كافراً، بذاته وبنفسه، وتباح ملاحقته في البيت والشارع والعمل؟.
3ـ وما هذه الجماعات المتعددة، وهل كلها معا هي من تجب علينا طاعته؟. إننا إذن لمواطنون تعساء لحكام كثر ومختلفين!. أم أن هناك طريقة محددة للتدين يمكن فرضها بقوة السلاح، وبإرهاب الدوريات الليلية؟!.
4ـ وهذه الأزياء، التي يرتديها الكثير من هؤلاء، هل هي الزي الإسلامي النازل من السماء، حتى نلبسها ولا نعصي الله، كما نفعل يومياً بشرب الدخان ومشاهدة التلفاز وسماع فيروز؟!. وهل جاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بملابس من السماء، تختلف عن ملابس مجتمعه المكيّ القرشيّ؟. إن ابن قيم الجوزية ـ وهو من هو في تشدده ـ يقرر في (زاد المعاد) عكس ذلك تماماً. فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن باكستانياً أو هندياً أو أفغانياً، لكي نقلد كل أنواع ألبسة هذه البلدان، ونمشي بها في الشوارع، كأن هذا الدين نزل في جنوب شرق آسيا، لا في جزيرة العرب. وحتى ملابس السعودية اليوم ليست بالقطع هي ملابس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هي ملابس الدعاة الوهابيين، الذين يكفّرون كل الاستشهاديين هنا، ويعتبرون استشهادهم انتحاراً. فهل قررنا أن نتحول إلى وهابيين؟. لا مانع لديّ من ذلك لكم، مع العلم أن الوهابيين لا يجيزون الخروج على الحاكم، تحت أي ظرف!!.
عموماً، ليس هذا هو بيت القصيد، وإن كان مجرد مقدمة لافتة لما ينبغي الحديث فيه الآن، وعلى وجه السرعة: وهو هذه المجموعات المسلحة التي تجوب الشوارع، خارج كل قانون، ومن وراء كل سلطة، فارضةً على الناس خوفاً لم يعرفوه من اليهود أعداء الله: فعلى الأقل كان اليهودي يعتقلك، أما الآن فبإمكان ملثم ما أن يغتالك، ثم يصدر حزبه بياناً بالشجب. وحتى إذا تم التعرف بعد ذلك على المعتدي، فسوف يعتبرون عمله فردياً، ثم يحمونه من كل ملاحقة قانونية أو عشائرية!.. أي والله!.. هكذا يحدث في كل التنظيمات المسلحة الوطنية والدينية. وآخر التقليعات هي حرق سيارات المواطنين الآمنين، دون تكليف أنفسهم مشقة التعليل!.. ولا جرم، فأنت عزيزي المواطن مجرد مادة إعلامية لجمع التبرعات، تمهيداً لتوزيعها على الأعوان، قبل صلاة الفجر. ولا أدري كيف يستحل أحد توزيع أموال الوقف، لغير ما أُوقف له، أو لعينة انتقائية من حزب معين لا تتوفر فيها شروط الواقف؟. ولقد سمعنا جميعاً العلامة القرضاوي يحدد هذه الشروط التي بموجبها دفع المتبرعون أموالهم. ولم يكن منها شيء ينص على أن تذهب إلى غير المحتاجين من حزب محدد.. لقد جاءت هذه التبرعات لك أخي المواطن وباسمك، ثم اقتصر توزيعها على المؤيدين، في الظلام!. أتدري لم؟ لأنك مجرد شجرة في غابة يحتمي بها هؤلاء، ثم يستغلون أشجارها للتدفئة، وهل تملك الأشجار لنفسها نفعاً؟!.ثم لا مانع بعدُ من أن يرفع أحدهم إصبعيه بعلامة النصر، أو يذهب إلى المسجد ليدرك صلاة الصبح في جماعة!.
هكذا يحدث. وهكذا حدث. وهكذا سوف يستمر الأمر بالحدوث، طالما أن السلطة ضعيفة، أو لا ترغب في تطبيق القانون. لقد كنت واحداً من عباد الله الذين انتخبوا محمود عباس، بعد أن صدقت كل ما قاله عن الشفافية وسيادة القانون. لكنني الآن أشعر بندم شديد على هذه الثقة المستعجلة، حيث يبدو لي أن الرجل ضعيف، ولا يستطيع تنفيذ ما وعد به. فلمن نلجأ يا عباد الله؟.
لقد أيدت دائماً المقاومة، وتعاطفت مع سلاح المقاومة، واعتبرت كل الدعوات لسحب سلاح المجاهدين خطئاً فظيعاً وتنازلاً مجانياً للعدو الصهيوني. أما الآن، وقد رحل العدو الصهيوني من غزة، أفلا يحق لي أن أطالب بأن لا أرى هذا السلاح!. إنني لا أطالب بسحب سلاح المجاهدين، لأنه الضمانة لصد دبابات الاحتلال، وقتل الخمسينات والمئات منهم خصوصاً في جباليا. لكنني أطالب بأن يتم إخفاؤه، ريثما يعود الاحتلال مرة أخرى، فنخرجه به بسرعة. أما الآن فيجب عدم اعتبار أبناء التنظيمات الأخرى، أو المواطنين الصالحين وغير الصالحين، هم اليهود. لأن أخشى ما أخشاه أن يكون هذا السلاح لهؤلاء فعلاً لا لليهود، وإلا لماذا يتم الاعتداء على المواطنين بسلاح المقاومة؟!. وهل تبرع المتبرعون بالأموال، لكي تُشترى بها أسلحة يستقوي بها الفتيان عليهم؟!.
قبل أيام حرقوا سيارة مواطن صالح في (جباليا الصمود). ثم لما أدرك صاحبُها الملثمَ المرابط، وقبض عليه وانتزع منه (بندقية الثوار الطاهرة)، وكشف لثامه عن وجهه، وعرفه، أصدر تنظيمه الميمون (قراره الشجاع): بأن هذا (الشبل) لا أسد له، لأنه قام بما قام به بصورة فردية. ولا دخل للتنظيم بما فعله. ثم طالبوا بالبندقية!!!. أي والله!!!. طالبوا بالبندقية، وتفاوضوا على استرجاعها، مع العلم بأن مفاوضيهم كانوا يحملون البنادق، زيادة في الإقناع!!.
كان المهلب بن أبي صفرة ـ حين يواجه بجيشه جيش الخوارج ـ يتوقف طويلاً. فقال له ابنه ذات مرة: يا أبي لم لا تبادرهم بالقتال؟. فقال: يا بني، إنني أنتظر أن يبدأونا بالعدوان، فيبغوا علينا، فينصرنا الله عليهم.
“قل يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم”
وأخيراً: يا محمود عباس.. لقد انتخبناك.. وأنت مجبر على تطبيق القانون.. قم بعملك ولا تعمل لنا معروفا.