حكاية متحور ” أوميكرون ” وسيناريو الانقراض الذاتى لجائحة كورونا

د. فيصل رضوان | أستاذ التكنولوجيا الطبية الحيوية الولايات المتحدة الأمريكية

مع ظهور طفرات جديدة وموجات مرضية لفيروس كوفيد-19، تكتظ وسائل الاعلام الرئيسية بشعارات  “لا أحد في أمان حتى نكون جميعًا بأمان” وأن الطريقة الوحيدة لإنهاء جائحة كوفيد-19 هي حصول عدد كافٍ من الناس على لقاح.  هذا حقيقى جدًا.  لكن، ما هية حقيقة الواقع الوبائي الذى يواجه العالم الآن؟  وهل من بارقة أمل للخروج الآمن، ونحن نواجه هذا الكم الهائل من القلق والإثارة؟

من المؤكد ظهور مئات بل وألاف من الطفرات الجديدة المتتالية منذ تفشي العدوى الفيروسية من مدينة واهان الصينية، ووصولًا إلى اركان العالم أواخر عام 2019.  الكثير من هذه المتحورات ربما  تفقد صلاحيتها تماماً لإحداث مرض،  والقليل يكتسب بعض الصفات التى تجعله أكثر قدرة على الإنتشار. لكن المؤكد أن معظم الأعراض الناتجة من الإصابة أصبحت خفيفة ولم تكن بالشراسة التى كانت تسببها العدوى بالجهاز التنفسي من السلالات الاولى للفيروس.

الطفرات والانقراض الذاتى للفيروس

نبدأ بخبر رائع من اليابان حيث أعلن فى نهاية الاسبوع الماضى إنخفاض غير مسبوق فى عدد الإصابات الجديدة بكوفيد-19 إلى عدد 229 مصاب، وهو أقل من واحد بالمائة من عدد حالات بلغ 25,900 فى الأسبوع الثالث لشهر أغسطس الماضى.

ووفقًا لدراسة أجراها بعض العلماء اليابانيين بالمعهد الوطني لعلم الوراثة على جينوم متحور  دلتا ، وجدوا أن إنزيم يسمى (nsp14) ، قد تحور مما أدى إلى إنخفاض قدرة الفيروس على التكاثر والتضاعف، والتي يمكن أن يطلق عليها ظاهرة التفجير الذاتي أو التدمير الذاتي.

هذه النتائج دفعت بعض الباحثين إلى التكهن بأن فيروس كورونا المستجد SARS-CoV-2 قد “يضعف ذاتيًا ” بشكل تدريجى.  حيث تمت ملاحظة أن هذا الفيروس من بين تلك الفيروسات التي يحدث لها طفرات وتتحور بسهولة منذ ظهور الفيروس التقليدى الأولى بالصين أواخر عام 2019.

ولقد حدثت طفرات عديدة فى متحور دلتا مما يصل إلى 40 نوعًا آخر ، القليل جدا منها احتفظ بقدرته على العدوى، ولكن أصبح قليل الضرر. وكما هو الحال مع معظم الفيروسات الأخرى ، كلما زاد تحور فيروس كورونا الجديد ، من المرجح أن تصبح المتغيرات الجديدة أضعف ، ويبدو أن إنزيم (nsp14) يعمل على تسريع هذه الظاهرة.  وقد تم تحديد بعض الطفرات فى إنزيم (nsp 14 ) في غالبية الحالات خلال الموجة الخامسة من العدوى في اليابان ، مما يدعم الفرضية القائلة بأن الفيروس قد يضعف بسبب اختلافات RNA الخاصة به.

وعليه، علل علماء اليابان الانخفاض فى معدل الإصابة هو ضعف سلالة دلتا من الفيروس نتيجة لتدميرها ذاتيًا. بالإضافة إلى ذلك ، فأن الإصابة في اليابان قد نخفضت بسبب ارتفاع معدلات التطعيم والالتزام بتدابير الحماية من العدوى.

حكاية متحور أوميكرون

منذ أوائل يوليو الماضى ونحن نكافح متحور دلتا ، الذى فاق المتحورات السابقة عدة مرات فى قدرته على الإنتشار وسرعان ما أدى إلى إرتفاع حالات الإصابة عالميًا. والآن يسود العالم القلق من متحور أوميكرون حيث أكتشف العلماء بجنوب إفريقيا أنه السبب فى إرتفاع جديد في الحالات ، وسرعان ما إنتقل الى الدول الأخرى ، بما في ذلك اسكتلندا والبرتغال وكندا والمملكة المتحدة.  واليوم، اثناء كتابة هذا المقال—رصدت هولندا أن متحور أوميكرون موجود فى عينات مصابين لديهم،  بأسابيع قبيل إعلان وجود هذا المتحور الجديد فى جنوب إفريقيا!.

هذا الإعلان عن متحور جديد تسبب فى قلق ساد العالم سياسيا واقتصاديًا وإعلاميًا؛  السؤال المهم: هل أوميكرون أسوأ من دلتا؟ وهل التحورات “عمومًا” تؤدى الى أعراض خفيفة أم شديدة؟

 الإجابة (علميًا) ليست سهلة، حيث أنه من السابق لأوانه معرفة ذلك والحكم على أوميكرون، حتى يتم النشر العلمى والتحقيق.  لكن مثله مثل متحور دلتا، يحتمل أن يكون الفيروس قد اكتسب قدرة أكثر على الإنتشار، وسهولة الانتقال بين الاشخاص،  ومن المحتمل أن تقل فعالية اللقاح ضده لتحوره (كما قلت في حالة متغير دلتا أيضًا)، ولكن تظل اللقاحات محتفظة بفائدة وقائية ضد الأعراض الشديدة الى حد كبير.  ويعتقد علماء من جنوب إفريقيا أن الأوميكرون قد يؤدي إلى المزيد من حالات الإصابة مرة أخرى لأشخاص ربما أصيبوا من قبل بمتحورات سابقة.

 ويحتوي أوميكرون على طفرات أكثر فى بروتين الشوكة من متحور دلتا ، ولا يعرف العلماء للآن إذا كانت هذه الطفرات تعطى الفيروس نقاط ضعف أم قوة فى إحداث المرض. ولكن بعض المشاهدات السارة، حتى الآن يرويها لنا الأطباء بجنوب افريقيا، حيث يروا أن المرضى المصابين  بأوميكرون لديهم “حالات خفيفة للغاية من الأعراض ” فى حالة كوفيد-19 المعروفة.  منها مثلًا التعب والصداع التهاب طفيف بالحلق – وليس فقدان حواس الرائحة والتذوق أو السعال المرتبط بالعدوى السابقة المعروفة.

والجدير بالذكر أن السعال وفقدان حاسة الشم هي أيضًا أعراض أقل شيوعًا لكوفيد-19 الناتجة عن متحور دلتا مقارنة بالمتحورات السابقة له . وجميع  الأدلة الحالية تظهر أن الحالات المؤكدة عن الأوميكرون تسببت في أعراض خفيفة ، ومعظم هؤلاء المصابين كانوا أصغر سناً ، وفقًا لإدارة الصحة في جنوب إفريقيا.

دراسة بريطانية، على سبيل المثال ، أثبتت أن هناك تغيير جذرى في الأعراض منذ أن بدأت دلتا في الهيمنة عالميًا .  تتصدر الأعراض الشبيهة بالبرد، بما في ذلك الصداع وسيلان الأنف والتهاب الحلق تتصدر القائمة في تلك الدراسة ، في حين أن الأعراض الأكثر شيوعًا لفيروس كورونا المستجد التقليدي منذ بدايته- كانت أشد شراسة وتشمل فقدان حواس اتذوق والرائحة وضيق التنفس والحمى الشديدة والسعال المستمر – وتراجعت اعراض قاسية منها الفشل التنفسي الحاد والفشل الكلوي تجلط الدم منذ ذلك الحين.

متى تنتهى الجائحة؟

هذه ليس المرة الاولى أو حتى الأخيرة التى يعرض العالم فيها لوباء فيروسى جائح.  حيث لم تختفى الفيروسات ابداً؛  ولكن كيف انتهت الجوائح؟.  لا زال سليل فيروس الأنفلونزا الإسبانية ، H1N1 الحديث ، ينتشر حتى يومنا هذا ، وكما هو الحال إنفلونزا الخنازير H3N2. فلم يكتسب البشر مناعة قطيع تجاههم (وهى المناعة الجماعية التى من خلالها يتوقف العامل الممرض عن الانتشار لأن الكثير من الناس بهم مناعة منه ، نتيجة الاصابة أو التطعيم).  بدلاً من ذلك ، فقد خضعت الفيروسات التي تسببت في هذه الأوبئة إلى تحورات متتالية.  أو ربما تدربت أجهزة المناعة لدى البشر ما يكفيها لدرء أخطر أعراض العدوى.  فبدلاً من التسبب في أعاصير عالمية مدمرة ، أصبحت الفيروسات بمرور الوقت تسبب موجات صغيرة من الأمراض الخفيفة، وتحولت الى عدوى مستوطنة epidemic بدلا من وباء عالمى pandemic شامل. حيث أصبحت الأنفلونزا الوبائية التى قتلت أكثر من 50 مليون إلى أنفلونزا موسمية.

 إذا أستمر  نموذج التحور هذا ، فمن المتوقع أن ينضم فيروس كوفيد 19 إلى قائمة مسببات نزلات البرد ، خاصة في فصل الشتاء ، عندما تكون ظروف انتقاله مناسبة. لكن متى سيحدث ذلك؟  هذا هو السؤال الكبير صعب الإجابة. 

تقول ماريا كيركوف ، الخبيرة في مجال فيروس كورونا في منظمة الصحة العالمية: “اعتقدت أننا سنخرج من هذه المرحلة الحادة بالفعل”.  وتؤكد ان ذلك سوف يتم تدريجيًا إذا اتخذت الدول الخطوات الحازمة التي اتخذتها دول مثل نيوزيلندا وفيتنام ودول أخرى ، سيطرت على انتقال العدوى.

 وتشير أغلب الخبرات المكتسبة من جوائح الانفلونزا الأربعة الأخيرة – إلى أن الفيروسات تتحول من أمراض وبائية الى مستوطنة في غضون عام ونصف أو عامين من ظهورها.  فهل يمكن أن نرى نمطًا مختلفًا لفيروس كوفيد19؟.

أوبئة الأنفلونزا هي أقرب شيء لدينا يمكن المقارنة به. حيث تعرض د. لافين بجامعة إيموري —فى بحث نُشر في مجلة Science تصورًا لنموذج حسابى لكيفية نهاية كوفيد19.  توقعت لافين أنه مع اكتساب البالغين الأكبر سنًا – وهم الأكثر عرضة للدخول إلى المستشفى والوفاة بسبب كوفيد— خبرة ومناعة في التعامل مع الفيروس ، فلن يتسبب في مرض شديد لديهم. حيث  يتحول عدوى كوفيد-19 المستقبلية إلى ما يعادل الزكام.  وبمرور الوقت ، فإن الأشخاص الأكثر إصابة بكوفيد سيكونون أطفالًا صغارًا ، ونادرًا ما تكون العدوى لديهم خطيرة.  ويتفق مارك ليبسيتش، عالم أوبئة الأمراض المعدية بجامعة هارفارد مع هذا هذا السيناريو. بل ويعتبره “الأكثر احتمالًا ” حيث يمكن أن يصبح كوفيد-19 عدوى مستوطنة بدلًا من وباء عالمى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى