الأسرى والكورونا والنسيان السياسي
الكاتب: عيسى قراقع | فلسطين
لم يعد يكفي دولة الاحتلال الإسرائيلي أنها تزج بالآلاف من أبناء وبنات الشعب الفلسطيني في سجونها ومعسكراتها، وإنما تنقل اإى الأسرى الوباء والأمراض المختلفة ليزداد سُمك جدار السجن وتلافيف عتمته القاسية، تحاصر أرواح الأسرى بين الأمراض الفتاكة ومنظومة القمع الوحشية التي تجري على حياتهم على مدار الساعة.
دولة الاحتلال الإسرائيلي التي زرعت جائحة الكورونا في صفوف الأسرى الفلسطينيين حيث بات الوضع مخيفاً وكارثياً بتفشي المرض وإصابة المئات من الأسرى، هي دولة مريضة وحاملة لكل أمراض الاستعمار القديم والحديث، ضاربة بعرض الحائط كل القوانين الدولية والإنسانية والمواثيق الطبية، لم تستمع الى مطالبات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية ومؤسسات حقوق الانسان والتي حذرت من انتشار فايروس الكورونا داخل السجون وضرورة اتخاذ إجراءات السلامة والوقاية للأسرى والإفراج عن المرضى وكبار السن والأطفال.
إسرائيل كسلطة محتلة تلاحق الأسرى بشكل شمولي لتصفيتهم جسدياً ووطنياً وانسانياً، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي تفتخر بفاشيتها وعنصريتها وعدائها لحقوق الإنسان، شرعت قوانين تعسفية ترفض بموجبها تمويل علاج المعتقلين المرضى ولا تسمح لأطباء محليين أو دوليين بمعاينتهم والاطلاع على ظروفهم الصحية، ولكنها سمحت لجائحة كورونا أن تغزو غرف السجون وينقل سجانوها وضباطها وشرطتها وقضاتها وجنودها هذا المرض إلى أجساد المعتقلين المحشورين في غرف ضيقة ومكتظة لتصبح المأساة جماعية وذات ابعاد شديدة الخطورة.
حكومة إسرائيل هي دولة وسخة وغير نظيفة سياسياً وقانونياً وفكرياً، دولة همجية بربرية سلاحها غير طاهر ونظامها مغمس بدماء وعذابات الفلسطينيين، ديمقراطيتها المزعومة هي ديمقراطية الحديد والنار والتطرف القومي والديني، ديمقراطية المعسكرات والرصاص والكلبشات والأسلاك الشائكة وكراهية الآخرين، أمراضها الاحتلالية أصابت كل من حولها حتى المفاهيم الاخلاقية والقيمية داخل المجتمع الإسرائيلي.
ترفض هذه الدولة الوسخة تقديم اللقاحات والعلاجات واجراءات الوقاية والفحوصات الدورية للأسرى القابعين في السجون، تنتظر أن يستفحل المرض في أجسادهم وأن يحصد أرواح كبار السن والمئات من الأسرى المصابين بالسرطان والامراض المزمنة، لقد نزعت دولة اسرائيل كمامات السلامة عن وجوه الأسرى وخنقت انفاسهم وتركتهم مكشوفين للإصابات والعدوى، السجن بالنسبة لها هو قبر واسع لكل من قاوم الاحتلال البغيض، والأسير الفلسطيني وفق أيديولوجيتها العنصرية يستحق الموت ألف مرة، وعليه ان يتعذب حتى يطويه النسيان.
جائحة كورونا تتوسع وتستوحش في السجون، وعندما تلتقي هذه الجائحة مع سياسة الإهمال الطبي المتعمدة وتفاقم الامراض في أجسام الأسرى وعدم تقديم العلاجات اللازمة لهم من قبل اطباء السجون، وعندما يلتقي كل ذلك مع سياسة النسيان السياسي فإن فجيعة إنسانية موشكة قد تحدث في صفوف الأسرى، بل مجزرة حقيقية هي الأولى في التاريخ الانساني ترتكب بحق أسرى عزل أصبحوا تحت رحمة دولة الاحتلال الاسرائيلي.
لم تكتف دولة الاحتلال بملاحقة الاسرى في اعاناتهم المعيشية والاجتماعية وقيامها بقرصنة أموال الشعب الفلسطيني بسبب رعاية السلطة الوطنية لعوائل الأسرى المنكوبين، فنزعاتها الاحتلالية المريضة تستهدف تجريد الأسرى من مكانتهم القانونية وقيمتهم الإنسانية والوطنية وتجريم مقاومتهم للاحتلال، وتسخير كل الأسباب الكفيلة بتدميرهم سواء بالقمع والمضايقات أو بنشر الهواء الأصفر السام لجائحة كورونا الذي تحول إلى هواء احمر يهدد حياة الأسرى ومصيرهم.
الحرب الجديدة التي تخوضها اسرائيل في السنوات الاخيرة على الاسرى والتي تحظى بإجماع كافة احزابها اليمينية هي الحرب على الأسرى وحقوقهم وشطب وجودهم الرمزي والثقافي والانساني، وهي تعتقد انها استوفت مشروعها الاستعماري العسكري الاحتلالي بإقامة ما يسمى اسرائيل الكبرى، واكملت مشروعها الاستيطاني وقضت على حلم اقامة دولة فلسطينية مستقلة، وبقي عليها الجزء الأهم والاستراتيجي وهو القضاء على الثقافة الوطنية وتحطيم الكرامة الفلسطينية، فالنصر بالنسبة لها لم يكتمل إلا باستسلام الفلسطينيين وتدمير روايتهم وهويتهم الوطنية، ولأن الأسرى يمثلون المعنى الجوهري لكل هذه المفاهيم الجامعة فإنها تشن هذه الحرب للسيطرة عليهم وتفريغهم من كل هذه الدلالات والمعاني.
الحرب الحديثة لدولة اسرائيل على المعتقلين الفلسطينيين لم تعد فقط متمثلة بالاعتقالات الجماعية اليومية ولا بالأحكام الرادعة التي تصدرها محاكمها العسكرية ولا في سياسة المداهمات والاعتداءات داخل السجون وحرمانهم من حقوقهم الأساسية، وإنما بفرض نظام تجزئة الأسرى وتفكيك روابطهم النضالية والاجتماعية وعزلهم في كنتونات داخل السجون، وتحوير اهتماماتهم من اهتمامات وطنية إلى اهتمامات مطلبية ومادية وشخصانية، واستخدام أدوات ووسائل ونظريات التحكم والسيطرة لتفتيت الوحدة الجماعية للمعتقلين.
العدوان الاسرائيلي على الاسرى مستمر وبقوة وبتخطيط رسمي، مستغلة إسرائيل حالة الضعف الوطني الفلسطيني وانغلاق الافق السياسي والتهاء الناس بهمومهم الشخصية والمعيشية وبالقضايا الشكلية والرمزية، نظرية الالهاء التي يمارسها الاحتلال وكما وصفها المفكر نعوم تشومسكي تتمثل بتحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الهامة عبر وابل متواصل من الالهاءات والمعلومات التافهة، وهي استراتيجية استعمارية تقول: اجعل الشعب منشغلاً منشغلاً دون أن يكون له وقتٌ للتفكير بمسائل التحرر الوطني وحق تقرير المصير.
الدولة الاسرائيلية المريضة والمصابة بالغرور والتعالي وصل بها الامر إلى ملاحقة روح الشهيد الاسير، فهي لا تسجن الاجساد الشهيدة فقط بل الارواح الشهيدة، لا تفرج عن جثامين الشهداء وانما تعتقلها في مقابرها السرية او ثلاجاتها الباردة، واكثر من ذلك فانها ترفض الافراج عن اسير في حالة احتضار ليموت بين ذويه كما جرى مع الاسرى الشهداء داود الخطيب وكمال ابو وعر وبسام السايح وسامي ابو دياك وفارس بارود وسعيد الغرابلي وغيرهم.
لم تشهد سجون الاحتلال حالة موت للأسرى بهذه الاعداد المتلاحقة كما حدث في العشر سنوات الاخيرة، فقد قررت اسرائيل ان تصبح السجون هي مدافن ابدية للأسرى، ومازالت مندهشة كيف استطاع الاسير كريم يونس ان يصل الى 39 عاما داخل السجن دون ان يموت، ربما هي مستغربة اكثر كيف يرضى الشعب الفلسطيني وفصائله الوطنية ان يبقى اسرى داخل السجون طوال هذه المدة الزمنية الطويلة، يكتفي بالغناء لهم ورفع صورهم والكتابة عنهم ولكنه لا يقاتل على كل المستويات ليل نهار للإفراج عنهم.
اذا كان البعض متفائلاً ببدء مرحلة سياسية جديدة بعد انتخاب الرئيس الأمريكي بايدن، فالأولى وقبل كل شيء ان يفرج عن الاسرى كخطوة اساسية لأية مفاوضات او تسويات سياسية، ولا ننسى ان هناك جرحاً غائراً في الوجدان الفلسطيني بعد ان رفضت اسرائيل الافراج عن الاسرى القدامى في الدفعة الرابعة، والجرح الاكثر ايلاماً هؤلاء المرضى والمعاقين والمشلولين والمصابين بالأورام الخبيثة يتساقطون واحداً واحدا وسنة وراء سنة، ولا ننسى الاسرى كبار السن كالأسير فؤاد الشوبكي والاسرى الذين اعيد اعتقالهم مرة اخرى يقضي بعضهم 40 عاما خلف القضبان كالأسير نائل البرغوثي، هؤلاء المعذبون لا يقبل اي عاقل في الدنيا ان يظلوا محشورين في تلك الأمكنة خارج الحياة في ظل هذا الضجيج المدوي عن السلام والاستقرار.
قال الشاعر محمود درويش:
في السجن لا تقول انتهى كل شيء، في السجن تقول إبتدأ كل شيء والبداية هي الحرية.