ذكريات صغيرة عن انتفاضة 1987 بمخيم الشابورة في رفح
خالد جمعة | فلسطين
إثر قيام شاحنة “إسرائيلية” بدهس عمال فلسطينيين على معبر بيت حانون، ومقتل أربعة منهم، بدأت الانتفاضة الفلسطينية انطلاقا من مخيم جباليا، حين هاجم الناس بشكل عفوي مركز الجيش الواقع وسط المخيم أثناء تشييع الشهداء الأربعة.
بدأت التحليلات والتوقعات، وأتذكر أن أحد “القياديين” قال بعد أسبوع: إذا استمرت التظاهرات لمدة شهر بهذا الزخم فستنسحب إسرائيل من غزة…
مخيم الشابورة كان مخيماً عنيفاً جداً في مواجهة الاحتلال، ربما لأن سكانه لا يملكون ما يخسرونه، وامتدت الانتفاضة ست سنوات وليس شهراً كما توقع القائد الكبير، مررنا خلالها بما لا يمكن أن نصدق بعده أننا ما زلنا أحياء نتنفس الهواء.
مع استيعاب إسرائيل لمفاجأة الانتفاضة، بدأت ترد ردوداً محسوبة في البداية، إلا أن استمرار الانتفاضة وتصاعدها جعل الرد الإسرائيلي يتجه نحو العنف كما يتضح من سياسة “تكسير العظام” التي اتبعها “رجل السلام” إسحاق رابين، وبدأ العالم ينقل الصور البشعة عن ممارسات الجيش الإسرائيلي، وبدأ التعاطف الدولي مع انتفاضة الحجر ضد قوة إسرائيل الهائلة يأخذ شكلاً إجرائياً، فسمعنا لأول مرة إدانات على ألسنة وزراء خارجية ورؤساء وزراء يتهمون إسرائيل بالعنف في مواجهة أطفال بالحجارة.
عطوة أبو سمهدانة كان أول شهيد سقط في مخيم رفح، أصيب في فخذه إصابة غير خطيرة، واعتقله الجنود، ليعود بعد ساعات جثة بعد أن تركوه ينزف دون تقديم العلاج له، ويخرج في جنازته خمس وثلاثون ألفاً، مما يعني نصف سكان مدينة رفح في تلك الفترة.
بدأت وتيرة الانتفاضة بالانخفاض خلال شهرين رغم تأسيس القيادة الوطنية الموحدة وانطلاق حركة حماس التي كان اسمها “حمس” في البداية حسب الشعارات الموقعة على الجدران، لكن إسرائيل لم تكن تعي أنها باغتيالها خليل الوزير في تونس سوف تشعل الانتفاضة من جديد ويسقط خمس وثلاثون شهيداً في يومين احتجاجاً على اغتيال أبي جهاد.
تبرز في الانتفاضة أخلاقيات لم نعرفها كثيراً من قبل، تعاون التنظيمات، وقوف الناس بجوار بعضهم البعض، التعاون المجتمعي، الاهتمام بالجرحى والمصابين… الخ، كان كل ولد في المخيم إبن لكل نساء المخيم دون استثناء، وشاركت المرأة بدور فاعل حيث كانت توزع البيانات، وتحرس الشوارع للمجموعات العاملة على الأرض، وتنقل المعلومات بين من لا يستطيعون الالتقاء لأسباب أمنية، هذا عدا عن دورها التعبوي والاقتصادي الذي لولاه لما استطاع المخيم الاستمرار في الحياة طوال فترة الانتفاضة.
في السنة الأولى وحدها، ومن الثلاثمئة وخمس وستين يوماً، تعرض مخيم الشابورة إلى منع التجول في مئتين وتسع وتسعين يوماً، وأذكر مرة أن سيارة عسكرية كانت تعلن رفع حظر التجول عن المخيم بعد 4 أيام من الحظر، ويقول مكبر الصوت: أول حجر سيلقى على الدورية سيتم إعادة منع التجول، وبالفعل تم إعادة منع التجول بعد أربع دقائق من إعلان رفعه.
استشهد في رفح مئة واثنان وثلاثون رجلاً وامرأةً وطفلاً، وما زلت أحتفظ بالورقة التي كنت أسجل فيها أسماءهم، وأما عن الجرحى فحدث ولا حرج، فقد بلغ عدد الجرحى المسجل في عيادة الأونروا في رفح بعد نهاية السنة الثانية من الانتفاضة 48 ألف جريح، طبعا العدد يتضمن من أصيبوا بالغاز أو الضرب أو الرصاص المطاطي أو أصيبوا أكثر من مرة مثل صبحي أبو ضاحي على سبيل المثال الذي أصيب ست مرات على ما أذكر…
العلم الفلسطيني كان له مذاق خاص، يخرج الشبان في أشد ليالي الشتاء برداً ليعلقوه على فرع شجرة كينا أو على مئذنة جامع، بعض الأعلام بقيت لشهور لأن لا أحد تمكن من إنزالها حتى الجيش نفسه، كأن تكون معلقة على سلك الضغط العالي أو على فرع عالٍ من شجرة لكنه رفيع لا يمكنه حمل وزن بشري، وما زلت لا أعرف كيف كان الشبان يعلقونه هناك، كانوا محط إعجاب الجميع.
حوادث كثيرة جرت في السنوات الست، بعضها يضحكني حين أتذكره، لكن أغلبها مأساوي، كأن ترى صديقك يقتل أمام عينيك ولا تستطيع الاقتراب، كأن يستشهد صديق آخر وأنت في السجن لا تتمكن من وداعه أو المشاركة في جنازته.
من الحوادث المضحكة التي جرت في مخيم الشابورة، أن جندياً لحق بولد في العاشرة في أحد شوارع المخيم، وخرج وهو يمسكه من ياقة قميصه، كان الولد يبكي وكان الجندي مزهواً بانتصاره العظيم، وقبل أن يصل الجندي بالولد إلى السيارة العسكرية، انتبه الجندي أن الولد كان قد حل أزرار القميص، وترك القميص في يد الجندي وانسل منه مثل قرد، وأخذ بقية الجنود يضحكون بشكل هستيري.
ومن القصص أيضا، ذلك المناضل من بيت حانون، جاؤوا به إلى معسكر أنصار 2 في غزة، وكنا وقتها في مردوان التحقيق، وقام المحقق بضرب هذا الحانوني على وجهه وقال: احكي يا حمار، فرد الشاب: أنا حمار؟ الحمار الذي يحكي معك، وفعلا قضى 18 يوما في التحقيق لا يردد غير هذه الجملة، فما استطاع المحقق أن يفعل شيئا إلا أن يرسله إلى بيته.
في سنتيها الأخيرتين، بدأت الانتفاضة تشكل عبئاً على الناس، بعدما تشكلت ظاهرة المطاردين، ولم يكن كل المطاردين يستحقون المطاردة، بدأنا نسمع عن جبايات من التجار، وإعدامات لمن يقال أنهم عملاء دون التحقيق في الأمر، بل ودون وضع معيار لمن يستحق الإعدام، فمعيار الجبهة الشعبية مختلف عن معيار فتح عن معيار حماس…
لذلك بدأت الانتفاضة تفقد ألقها بعد أن دخل السلاح الناري في نشاطاتها، وبدأ كل تنظيم يعمل لصالح ذاته، ففقدت شعبيتها ومفهومها السلمي، فخفت بالتالي التعاطف الدولي معها، وفي النهاية أثمرت عن مفاوضات لم يعلم عنها أحد شيئا، لنجد أوسلو وقد أصبح واقعاً على الأرض، وأذكر أن شهيدين سقطا في نفس اليوم الذي كان من المفترض أن تأتي فيه أول دفعة من منظمة التحرير عبر معبر رفح، وقد كانت رفح تعج بالصحفيين يومها، الثالث عشر من أيلول 1993.
رفح مدينة غريبة، لم يستطع أحد الإحاطة بأسرارها، هي مدينة الأرقام العجيبة المتناقضة، أكبر عدد من الأسرى، أكبر عدد من تجار الحشيش، أكبر عدد من الشهداء والجرحى، أكبر عدد من المهربين، أكبر عدد من المبدعين، وأرقام كثيرة من هذا النوع، لكنها ظلت تحافظ على علاقاتها الوطنية تحت كل تلك الظروف، وظلت هذه العلاقات الوحدوية قائمة حتى موعد الانتخابات التشريعية في عام 2006 حيث أخذت الأمور منحى آخر.
سنوات مليئة بالدم والاعتقالات وقنابل الغاز والرصاص المطاطي والبلاستيكي والمعدني، وراجمة الحجارة الإسرائيلية التي كانت تكسر أسقف البيوت التي من قرميد وأسبست، المطاردات اليومية على طريقة الكر والفر، دخان الكاوتشوك، الأعلام، الشعارات على الحيطان، الأغاني، النداءات، المسيرات، لكنها كانت سنوات مليئة بالأمل، بالانتظار، أن يأتي كل هذا الجهد، كل هذا الموت، بحل مشرف للشعب الفلسطيني.
إن ذكريات الانتفاضة تملأ كتباً، لكن الزمن بعد أن يمضي، تصبح هذه الذكريات مصفاة من التفاصيل، وتصبح القصة الأهم هي القصة ذات النتيجة الأهم، لذلك تندمج القصص المتشابهة، ويختفي اليومي ويبقى على السطح فقط تلك القصص العظيمة التي عايشناها والتي أعطتنا القدرة على الإحساس بأننا شعب يمكنه فعل المعجزات بمجرد حجر.
أما ما لا يمكن للتفاصيل أن تأخذه، ما لا يمكن أن ننساه طالما بقينا على قيد الحياة، فهم أولئك الشهداء الذين جعلوا كل ما نفعله ناقصاً أمام تقديمهم لحياتهم في سبيل قضية نبيلة وكبرى، هي قضية وطن بأكمله، ولهذا يبقى الشهداء قصصاً مستقلة، لا يمكن نسيانها، ولا يمكن لأعتى آلة حربية في الكون أن تمحوها من ذاكرةٍ صنعوها هم بالأساس من مجدهم الذي لن يغيب.