إلى حشاشة الروح والقلب

د. عبير خالد يحيى 

ules Adolphe Aimé Louis Breton (French 1827-1906)

عندما أنجبتُكِ.. لم تقع عيني عليكِ حالما استفقتُ، ظننتُ أنني فقدتكِ كما فقدتُ أخويك من قبل، تمنيتُ وقتها أن أمضي إليكم جميعًا، مع غصّة اقتلعت حنجرتي، لأن أمنيتي تلك تعني أن أفارق أخويكِ الآخرَين بيان ومحمد…
عندها سارع والدُكِ لإخباري بأنكِ بخير، لكنكِ تحتاجين للبقاء بعضَ الوقت في الحاضنة، لأنك تعانين من البرد الشديد، طلبتُ منهم أن يأخذوني إليكِ لكنهم تحجّجوا بأنني متعبة وأحتاج أيضًا للراحة..
ما أقساهم! أيّة راحة يمكن أن تتحصّل عليها الأم أكثر من وضع طفلتها على صدرها، على بطنها، على قلبها، أن تشمّ رائحتها، تلامسَ تفاصيلها، تعدّ أصابع يديها، قدميها، تطبعَ على عنقها قبلة، وشمّة تشتنشق فيها رائحة الخلق الأولى.
ما أغلظ قلوبهم!
ناموا، ولم أنم، لم تفلحِ المهدّئات ولا المسكّنات ولا المخدّر القوي الذي أعطوني إيّاه في جعل النوم يتسرّب إلى عيوني التي فاضت بمطر القلب، حاولتُ أن أنهض من السرير وأمضي إليكِ، إلى الدور السفلي حيث انتِ، في غرفة الحضّانات، وأنا أتساءل بحيرة كيف سأعرفكِ ولم أركِ؟! عندها صرخَ قلبي: كيف لن تعرفيها وقد جاورتُها منذ تخلّقتْ؟ قلبي رآكِ وحفظ شكلكِ وكل تفاصيلكِ، بل وكل مساماتك، وأنا التي خانني الإحساس كما خدعني الشك، حاولت أن أبدأ بمغامرتي، لكنني لم أستطع التحرّك، كنتُ مشلولة، جهازي العضلي في سبات تام، بينا جهازي العصبي في قمّة اليقظة! خُيّل إليّ أنني قد دخلتُ في حالة الشلل الليلي التي سبق أن عانيتُ منها…
سهرتُ مع أسماك البحر وخواريف السماء وشخير المرافق، حاولتُ أن أناديه، لكن، كان الوهنُ قد سرق صوتي…!
لا أدري أي ملاك نورانيّ حضر، وحجب عن خاطري وسوساتِ شياطين ظنوني، سألته : هل رأيتَها؟ أومأ بنعم.
قلت له: هل هي مكتملة أم أن غولًا التهم بعضها كما التهمتِ ( الحصبة الألمانية) ولدي البكر؟
أشار إليّ بما يعني أنها مكتملة، سألته: هل هي على موعد مع الموت الذي واعد أخاها الثاني فأخذه بعد وقت قصير من ولادته أم هي مقاوِمة؟ أومأ لي، مع بعض الامتعاض، أنها مقاومة، فطار السؤال : إذًا لماذا هي في الحضّانة؟ لم يجبني الملاك، يبدو أن الملائكة موكول إليها الإيماء، وممنوع عليها الكلام.
حتى الملائكة تآمرت مع القساة على روحي!.
مع تسلّل خيوط الصباح استفاق القساة واستعادوا الحياة، ليجدوني وقد عقدتُ مع الصمت نذرًا، لم تفلح محاولاتهم بجرّي إلى الكلام مع أنهم أعطوني حقّ تسميتكِ يا ابنة رحمي، طالتْ بهم التسلية، ولم أركِ إلا بحلول الساعة الواحدة ظهرًا… وهكذا استقبلتِ الحياة منفصلةً عن أنفاسي ودقّاتِ قلبي لمدة ١٥ ساعة!
حين وقع بصري على وجهكِ، خرّ قلبي ساجدًا،
كان وجهُكِ نسخةً من وجهِ الملاك الذي ساهرَ أرقي ورعبي فترةَ ابتعادكِ.

#دعبيرخالديحيي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى