رُوُح.. قِصَّة اجتِمَاعِيَّةْ

بقلم: موزة المعمري

مُلَخَّص القِصَّة

تَدُور أَحْدَاث هَذِه القِصَّة الاجْتِمَاعِيَّة حَوْل كَاتِب سِينَمَائِي فِي الثَلاثُون مِن عُمُرِه, بَهِيّ الطَلعَة, أَبيَضْ لَون البَشَرَة التَي تَحْمِل شَارِب بَسِيط مَعَ شَعر رَأس أَسْوَد اللَّون مُسْتَرسِل يَصِل كَتِفَيه, نَظَّارَة طِبَّيَة بَسِيطَة يَرتَدِيها عَلَى عَيْنَيه, رِيَاضِي المَلبَس دَائماً, هَادِئ الطِبَاع والحَدِيث, مُفْعَم الفِكْر.

يَحتَاج هَذا الكَاتِب لِمَكَان خَاص جِداً لِكِتَابَة قِصَتِهِ السِينَمَائَيَّة فَيَخْتَار كُوخ مُنُعَزِل عَنْ النَاس لِيتَفرَّغ تَمَاماً لِلكِتَابَة, هِنَاك يُقَابِلْ “عَمَّار” شَيْخ كَبِير فِي السِّن أَلا وَهُو العَمْ ” جَاسِمْ “, هُوَ رَجُلْ فِي السِّتُون مِن عُمُرِه وَهُوَ صَاحِبْ الكُوخ, طَيِّبْ وَخُدُوم بِرَغْمِ ظُهُورِهِ المُبْهَمْ أَحْيَانَاً فِي بَعْضِ المَشَاهِدْ, مُتَوَسِطْ الطُول, نَحِيل الجَسَد, مَلامِح وَجْهِهِ المُتَجَعِدَة تَكْشِفْ سِّرَ عُمُرِهِ الكَبِير, يَعِيش وَحِيد فِي حَيَاتِهِ الحَزِينَة بِسَبَب مَوُت ابِنِهِ الوَحِيد.

تَظْهَر فَي نَفُسِ المَكَان مُفَاجَأَة لَمْ تَكُن عَلَى بَال “عَمَّار” أَبَداً وَهُوَ ظُهُور “رُوح” لَه, رُوُح فَتَاة جَمِيلَة فِي الثَانِيَةِ وَالعِشْرُونَ مِن عُمُرِهَا, قَلِيلَة الحَدِيث, هَادِئَة, دَائِمَة الظُهُور بِلِباَس وَاحِد أَلا وَهُوَ ثَوْب حَرِيرِي أبْيَض اللَّوْن دُونَ أَيْ تَعْقيِدَات خِيَاطِيَّه تَفْصِيلِيَّة لَه, لا تَرْتَدي الحُلِي مُطْلقاً عَدَا زِينَة بَسِيطَة تَرْتَدِيها عَلَى جَبِينهَا وَهِيَ مَصْنُوعَة مِنَ الفِضَّة.

تُحَاوِل رُوُح تَشْتِيِت عَمَّار مَا بَيْنَ الوَاقِع الذِي يَعِيشُه وَبَيْنَ مَا يَرَاهُ مَعَهَا لِيَكْتَشِفْ بِالنِهَايَة بَأَنَّ رُوُح هِيَ مُجَرَّدْ بَنْت مَن بَنَات أَفُكَارِهْ وَلَيْسَتْ فَتَاة حَقِيقِيَّة.

 يَظْهَر فِي القِصَّةِ أَيْضَاً “مُحَمَّد” وَهُوَ صَدِيق عَمَّار, شَاب بِمِثلِ عُمُرِ عَمَّار وَلَكِنَهُ مَرِح الطِبَاع, يَرتَدِي اللِّبِاس الرِّيَاضِي دَوْماً, كَثِير الحَدِيث, يَحْمِل شَكل جَسَدْ عَادِي, أَسْمَر لَوْن البَشَرَة مَعَ شَارِب بَسِيط فِي ذَقْنِهِ المُمْتَلِئْ قَليلاً مَعَ لِحْيَةٍ بَسِيطَة, شَعْر رَأْس عَادِي أَسْوَد اللَّوْن, يُنْهِي عَمَّار فِي النِهَايَة كِتَابَتِهِ لِلْقِصَّة لتُتَرْجَم تَمْثِيلاً وَفِيلمَاً سِينِمَائِياً نَاجِحَاً حَيْثُ يَحْضُر هُوَ وَصَدِيقُهُ مُحَمَّد العَرْضَ الافتِتَاحِيّ لِلْفِيلم.

شَخْصِيَّات القِصَّةْ

عَمَّار: كَاتِبْ سِينَمَائِي, شَاب فِي الثَلاَثُونَ مِنْ عُمُرِه, بَهِي الطَلْعَة, أَبْيَضْ لَوْن البَشَرَةِ التِي تَحْمِلْ بَسِيط مَعَ شَعْر رَأْس أَسوَد اللَّون مُسْتَرْسِلْ يَصِل كَتِفَيه.

رُوُح: فَتَاة جَمِيلَة جِداً, بَرِيئَةْ مَلاَمِحْ الوَجه الذِي يَحْمِل بَشَرَة بَيْضَاء اللَّوْن مَعَ عَيْنيَن سَوْدَاوَين  وَشَعْر رَأس مُسْتَرسِل مُتَوَسِّط الطُوُل أسْوَد اللَّوْن.

مُحَمَّد: صَدِيق عَمَّار, شَاب أَسْمَر لَوْن البَشَرَة التِي تَحْمِلْ شَارِبْ مَعَ لِحْيَة بَسِيطَة, مَرِحْ الطِبَاع, يَرْتَدِي لِبَاس أنِيقْ كَعَمَّار .

جَاسِمْ: رَجُلْ فِي السِّتُونَ مِنْ عُمُرِه, طَيِّب جِداً وَخَدُوم دَوْمَاً, مُتَوَسِّطْ الطُول وَنَحِيل الجَسَدْ.

فِي تِلْكَ المَنْطِقَةِ الجَبَلِيَّةِ الخَضْرَاء اللَّوْن وفِي ذَاكَ الكُوُخ الخَشَبِي البَسَيطْ المَصَنُوع مِنَ الخَشْب السَمِيك وَالوَحِيد هُوَ فِي تِلْكَ المِنْطَقَةِ الجَبَلِيَّةِ الخَضْرَاء وَالمُتَوَاجِد هُوَ عَلَى ذَاكَ النُتُوء البَارِزْ يَظْهَرْ الشَيْخ الكَبِير فِي السِّنْ “جَاسِمْ” حَيْثُ يُرَتِّبْ سَرِيرَ غُرْفَة بَسِيطَة وَهِيَ تُعَدْ مِنْ مُلْحَقَات الكُوُخ الخَشَبِي, هُوَ يُتَمْتِمْ بِتَمْتَمَات مُبْهَمَة وَغَير مَسْمُوعَةَ وَوَجْهُهُ يَحِمِلْ مَلاَمِحْ جَادَّة وَيَدَيْه تُرَتِبَان بِسُرْعَةٍ كَبيِرَة, يَخْرُج بَعْدَهَا لِيُرَتِّبْ الكَنَبَتَيْن فِي قَاعَةِ الجُلُوسِ الصَغِيرَة ثُمَّ يَنْظُرْ لِكُلِ شَيْء بِالكُوخ وَبَعْدَهَا يَنْظُر لِلنَافِذَةِ الخَشَبِيَّة ثُمَّ يَخْرُجْ مِنَ الكُوُخْ وَيُوصِدْ البَابَ جَيِّداً, يَنْظُرْ حَوْلَه بِنَظَرَات مُرِيبَة وَكَأنَّهُ يَخْشَى شَيْئاً ثُمَّ يُغَادِر لِخَيْمَتِهِ المُتَوَاضِعَةِ المَنْصُوبَة باِلقُربِ مِنَ الكُوخ, يَجْلِسْ الشَيْخ الكَبِير عَلَى المِقْعَد الخَشَبِي بَعْدَمَا يَأخُذْ المِسْبَحَةَ مِنْ عَلَى الطَاوِلَةِ الصَغِيرَةِ وَيَأخُذْ بِالتَسبِيح وَهُوَ يَنْظُر المَكَان بِتَمَعُّنْ بِمَلاَمِحْ وَجْهِهِ الجَادَّة, هُوَ كَمَنْ يَنْتَظِر أَحَدٍ مَا, وَلَكِن مَنْ هُوَ هَذَا الَّذِي يَنْتَظِرُهْ؟.

أَمَّا عَنْ مَنْ يَنْتَظِرُه فَهُوَ يَقُود سَيَّارَتَهُ عَلَى الشَارِعْ وَهُوَ يَأْكُلْ شَطِيرَة كَانَ قَدِ اشْتَرَاهَا مِنْ إحْدَى مَطَاعِم مَاكدُونَالد الشَهِيرَة وَالمُنْتَشِرَة فِي بَلَدِه وَفَجْأَةْ؛ تَسْقُط شَطِيرَة عَمَّار مِنْ يَدِهِ اليُسْرَى التَي تَحْمِلْ عَلَى قَمِيصِهِ الأبْيَض اللَّون لِيَضَعهَا جَانِبَاً مُتَنَاسِياً قِيَادَتِهِ لِلسيَّارَة ثُمَّ فَجْأَة سَمِعَ صَوْت بُوق شَاحِنَة كَبِيرَة كَادَتْ تَصْطَدِمْ بِه لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَ الأمْر بِآخِر لَحْظَة لَكِنَّهُ فَقَدَ السَيْطَرَةَ عَلَى سَيَّارَتِهِ الدَّفْع الرُبَاعِي وَظَلَّتْ تَدُور عَلَى الشَارِعْ إِلَى أَنْ تَوَقَفَتْ أَخِيرَاً

عَمَّار بِفَزَعْ وَهُوَ يَلْهَثْ : الحَمْدُ لله! الحَمْدُ لله! كَادَتَ أَنْ تَصْطَدِمْ بِالسَيَّارَة!

أَكْمَلَ عَمَّار قِيَادَتِه لِلسَيَّارَة بَعْدَ أنْ هَدَأَتْ نَفْسَه وَوَصَلَ لِلْمنْطِقَة وَلكِنَّهُ لاَزَالَ تَائِهاً فَهُوَ لَمْ يَصِلْ لِمَكَانِهْ المَنْشُود بَعْدَ, ظَلَّ يَنْظُر لِلشَارِعْ, لِلافِتَات, لِلْجَبَلْ, وَلكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ أيَّ أَحَدْ فَالمَكَان يَكَاد يَكُون خَاوِي, بَعَدَ مُدَّةٍ وَصَلَ عَمَّار لِمَكَانِهِ المَنْشُود فَأنزَلَ بلور سَيَّارَتِه التِي يَقُودُهَا بِبُطْيء وَهُوَ يَنْظُرْ لِتِلكَ الخَيْمَةِ بِاسْتِغْرَاب ثُمَّ رَأَى الشَيخ الكَبِير جَاسِمْ فَفَزِعَ قَليلاً مِنْ شَكْلِهِ وَهُوَ بِهَيْأَتهِ وَجَلْسَتِه, تَوَقَّفَ بِالسَيَّارَة ثُمَّ ظَلَّ يَنظُرْ الكُوخ, اقْتَرَبَ الشَيخ جَاسِمْ مِنْه, تَرَجَّلَ عَمَّار مِنْ سَيَّارَتِه

الشَيْخ جَاسِم : السَلاَمُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهْ

عَمَّار وَهُوَ يُصَافِحْ بِيَدِهِ يَد الشَيْخ : وَعَلَيْكُم السَلاَم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهْ

ظَلَّ عَمَّار يَنْظُر الكُوخ بِتَمَعُّن تَام

الشَيْخ جَاسِمْ : هَلْ أَعْجَبَكَ الكُوخ؟

عَمَّار : مِنَ الخَارِجْ أَجَلْ, إنَّهُ بَدِيع!

الشَيخ جَاسِمْ : فَلتَتَفَضَّل لِرُؤْيَتِهِ مِنَ الداخِلْ, هَيَّا يَا بُنَيْ

ذَهَبَ الاثْنَان مَعاً لِرُؤْيَةِ الكُوخ مِن الدَاخِل, الشَيخ جَاسِمْ كَانَ مُتَحَمِساً جِدَّاً بِتَحَمُّس صَاحِب المَكَان لِرُؤيَتِه لِزَبُون مَا يَوَد بِالاسْتِئْجَار عِنْدَه شَأنَهُ شَأْنَ أَيّ شَخْص.

نَظَرَ عَمَّار لِلغُرْفَة وَمَا تَحْوِي حَيْثُ أَنهَا لَمْ تَكُنْ تَحْوِي الكَثِير فَقَطْ سَرِير صَغِير, خِزَانَةْ مَلاَبِسْ قَدِيمَة الطِرَاز, سِجّادَة صَغِيرَة تَفْتَرِشْ الغُرْفَة هَذَا بِالإِضَافَة لِلحَمّام الصَغَير المَوْجُود فِيهَا, خَرَجَا بَعْدَهَا لِينْظُرَا لِغُرْفَةِ الجُلُوس الصَغِيرَة وَالتِي لَمْ تَكُن تَحْوِي سِوَى كَنَبَتيَن تَتَوَسَطْهُمَا طَاوِلَة صَغِيرَة هَذَا بِالإِضَافَةِ لِلتلِفزْيُون قَدِيم الطِرَاز وَهُنَاك عِنْدَ النَافِذَةِ الخَشَبِيّة تَكُون طَاوِلَة صَغِيرَة أَيْضَاً يُعَانِقُهَا كُرْسِي بَسِيط الشّكْل خَشَبِي الصُنْع.

عَمَّار كَانَ يَضَع يَدَيْه فِي جَيْبَيْ بَنْطَلُونِهِ الأزْرَق اللَّون ثُمّ التَفَتَ لِلشَيخ جَاسِم وَقَالَ لَهُ:

عَمَّار : سَأَسْتَأجِر الكُوُخ فَقَد أَعْجَبَنِي كَثيِراً

فَرِحَ الشَيْخ جَاسِم لِذَلِكَ وَقَالَ : حَسَنَاً اتَفَقْنَا إِذاً, وَبِالنِسْبَةِ لِلفُطُور وَالغَدَاء وَالعَشَاء فَأنَا سَأُعِدُهُم لَكَ كُلَّ يَوْم لاَ تَقْلَقْ مِنْ هَذَا الأَمْر

عَمَّار : جَيّد جِداً, سَأَذْهَبْ لأُحْضِر أَمْتِعَتِي

جَاسِمْ : سَأُسَاعِدُكَ إِذاً بِحَمْلِ حَاجِيَّاتِكْ

عَمَّار : لَيْسَ لَدَيَّ حَاجِيَّات هِيَ حَقِيبَة سَفَرْ وَحَسْب

خَرَجَا مَعَاً إِلى أَن وَصَلاَ لِلسَيّارَة حَيْثُ أَنْزَلَ عَمَّار الحَقِيبَة فَلاحَظَ بَعْدَهَا بِأَنَّ الشَيْخ جَاسِم يَنْظُر لِقَمِيصِهِ المُتَسِخْ فَابْتَسَمَ وَقاَلَ :

عَمَّار : إِنهَا الشَطِيرَةُ التِي كُنْتُ آكُلهَا فَقَد وَقَعَت عَلَى قَميِصِي مُخَلِفَةً إِيَّاهَا هَذِهِ البُقْعَة

ابْتَسَمَ الشَيخ جَاسِمْ وَقَالَ : لاَ بَأْس لاَ عَلَيْك أَنَا سَأُنَظِفهَا لَكَ يَا بُنَيْ

الشَيخ جَاسِمْ سَعِيد لِوُجُود عَمَّار مَعَه وَلاِسْتِئْجَارِه لِلمَنزِل وَكَذَلِك الأَمْر بِالنِسْبَةِ لِعَمَّار, وَلَكِن .. هَلْ سَتَكُون الأُمُور عَلَى مَا يُرَام يَا تُرَى فِي هَذَا المَكَان؟

اقتَرَبَ عَمَّار مِن المِقْعَد وَجَلَسَ عَلَيْه ثُمَّ فَتَحَ الكُمْبيُوتر المَحْمُول وَبَاشَرَ الكِتَابَة, كَانَ يَكْتُب بِسُرْعَةٍ كَبِيرَة وَكَأنَّهُ كَاَن يَخْشَى مِن أن تَتْرُكَهُ الأفكَار مُبْتَعِدَةً عَنْه, كَتَبَ وَكَتَبَ ثُمَّ أنْهَكَهُ التَعَبْ وَنَامَ عَلَى أزْرَار الكُمبيوتَر السَوْدَاء.

انقَضَي الّليْل بِظُلمَتِه لِيُطِل نُور الصَبَاح حَيثُ خَرَجَ عَمَّار مِنَ الكُوخ وَقَد ارْتَدَى لِبَاسَه الرِيَاضِي وَوَضَعَ الكَامِيرَا التَصوِيرِيَّة حَوْلَ رَقَبَتِه, نَظَرَ لِلمَكَان بِسُرور النَظَر ثُمَّ اسْتَنشَقَ الهَوَاءَ العَلِيل وَبَعْدَهَا أَكْمَلَ سَيْرَه, فِي هَذِهِ الأثنَاء كَانَ الشَيخ الكَبِير فِي السِّن جَاسِم يَنظُره بِنَظَرَات مِلْؤُهَا الشَّر وَهُوَ يَقِفْ فِي خَيمَتِهِ تِلك وَمَا إِنْ ابتَعَدَ عَمَّار حَتَّى قَصَدَ العَمْ جَاسِم الكُوُخ ثُمَّ الغُرفَة وَأَخَذَ بِتَفتِيش كُلِ شَيء فِيهَا, الخِزَانَة وَأَدرَاجِ السَرِير وَكُلِ شَيء وَكَانَ يَبحَث بِارْتِبَاك شَديِد وَتَوَتُّر أَشّد.

أَمَّا عَمَّار فَقَد أَخَذَتهُ قَدَمَاه لِمَكَان بَدِيع جِداً عَلَى ذَاكَ الجَبَل حَيْثُ أخَذَ بِالتِقَاط الصُوَر ثُمَّ شَدَّةُ رُؤْيَة فَتَاة كَانَتْ تَقِفْ هُنَاكَ عَلَى ذَاكَ الجُرْفِ العَالِي, كَانَ شَعْرُهَا الحَرِيرِي تُطَايِرُهُ الرِيَاح وَكَذَلِكَ ثَوْبهَا الأبيَض الحَرِيرِي كَانَ يَتَطَايَرْ أيْضَاً مِنْ فِعْلْ الرِيَاح, اقتَرَبَ عَمَّار مِنهَا وَعَلَى مَلاَمِحِ وَجْهِهِ الوَسِيم تَدُور بِضْعَة أسْئِلَةْ

عَمَّار : يَا فَتَاة!

التَفَتَتْ إِليَه بَعدَمَا أنزَلَت يَدَيْهَا المَفْرُودَتَيْن كَطَائِرٍ يَوَدُ التَحْلِيقَ عَالِياً, نَظَرَهَا بِتَمَعُّن وَلِجَمَالِهَا الأخَّاذ ثُمَّ قَالَ:

عَمَّار : مُدِّي لِي يَدَكِ وَاقتَرِبِي مِنّي حَتَّى لاَ تَسْقُطِي, فَإِنْ سَقَطْتِ فَلاَ نَجَاةَ لَكِ بَعْد

ابْتَسَمَتْ بِابتِسَامَتِهَا العَذبَة وَهِيَ تَنظُره ثُمَّ فَرَدَت يَدَيْهَا وَرَمَتْ بِنَفْسِهَا مِن عَلَى الجُرْف بَينَمَا هُوَ حَاوَلَ الإِمْسَاكَ بِهَا فَلَمْ يَطَالَ مِنْهَا سِوَى شَالِهَا الأبيَض الَّلوْن الذِي كَانَ يُطَوِّق رَقَبَتِهَا الجَمِيلَة, الفَتَاة تَحَوَّلتْ لِطَير يُحَلّق عَالِياً فِي السمَاء, اقتَرَبَ الطير مِن عَمَّار لِيُحَلِّق حَوْلَه ثُمَّ ابْتَعَدَ عَنْه بَيْنَمَا عَمَّار كَانَ يَنْظُر الطَير بِذُهُول تَام مَمْزُوج بِبَعْضِ الخَوْف.

 عَادَ عَمَّار بَعْدَهَا لِكُوخِهِ البَسِيط وَفِي يَدِهِ اليُمْنَى يَحْمِل ذَاكَ الشَال الأبيَضْ الَّلون, كَانَ يَدُور فِي خُلْدِهِ مِائَةُ سُؤَال وَسُؤَال, وَضَعَ الشَالَ عَلَى الكَنَبَة ثُمَّ جَلَسَ وَبَعْدَهَا وَقَفَ لِيَقتَرِبَ مِن الكُمبيُوتَر وَعَلَى الفَوْر أَخَذَ بِالكِتَابَة فَهَذِهِ الفَتَاة ألهَمَتْه مِنْ أَنْ

يَكْتُب شَيْء مَا, أَخَذَ بِالكِتَابَة بِسُرْعَة تَامَّة فهُوَ يَخشَى مِنْ أنْ تَهرُب مِنْه الأفكَار دُونَمَا رَجعَه, يُنهِكَه التَعَبْ فيَهرُب للنَّوم وَهَا هِيَ يَد نَاعِمَة تَقتَرِب مِنه لِتلمِسَ شَعْره النَاعِم, يَسْتفِيق مِن نَومِه عَلَى أثَر سَمَاعِه لِصَوْت تسَاقُط قَطَرَات المَطَر فيَنظُر مِن خِلال النَافِذَة لِيَرَى ذَات الفَتَاة بِذَات الرِدَاء تَدوُر تَحْتَ المَطَر بِسَعَادَة تَامَّة, يَسْتَغرِبْ الأمْر فيُقرِّر الخُروج مِنَ الكُوخ وَيَقتَرِب مِنهَا وَمَا إنْ يُنَادِيَهَا

عَمَّار : أيَتُهَا الفَتَاة الغَرِيبَةْ!

تَنْظُره الفَتَاة بَعْدَمَا تَتَوَقّفْ عَن الدَوَرَان بِبَعضِ الخَوْف ثَمَّ تَهرُب مَنه فَيَسْتَوْقِفهَا

عَمَّار : انتَظِرِي!

تَقِف دُونَمَا الاسْتِدَارَة لَه فَيَقتَرِب هُوَ مِنهَا لِيَقِف أمَامَهَا

عَمَّار : لَقَد وَقَعْتِ مَن عَلَى الجُرف وَأصْبَحْتِ طَيْرَاً يُحَلّقُ فِي السمَاء, مَاذَا تَكُونِين؟ هَلْ أنتِ سَاحِرَة؟

لاَ جَوَابَ مِن رُوُح هِيَ فَقَط تَنظُره بِعَينَيْهَا البَرِيئَتَيْن

عَمَّار : لِمَاذَا تَظْهَرِينَ لِي دَائِماً؟ مَاذَا تُرِيدِينَ مِنّي؟

يَصْمُت قَلِيلاً ثُمّ يَقُول: أَلاَ تَتَحَدَثِين؟

تَقْتَرِب رُوُح مِنه لِتَضَع يَدَهَا الُيْمنَى عَلَى جَبِينِه ثُمَّ عَلَى صَدْرِه

عَمَّار بِاسْتِغرَاب : لَم أفْهَم! مَاذَا تَعْنِي؟

تَأخُذْ رُوح بِيَدِهِ اليُمْنَى لِتَفتَح الكَفّ فَتَرسُم عُرُوق الكَفّ ثُمّ تَنظُره بِابتِسَامَتِهَا العَذْبَة وَتَتْرُكَهُ هَارِبَة مِنْه لِتَختَفِي فِي الظُلُمَاتِ الحَالِكَة, فِي هَذِهِ الأثنَاء وَبَعْدَمَا تَغَيِب رُوُح عَنْ نَاظِرَيْه يَقْصِد الكُوخ بِسُرْعَةِ الخُطَى فِي خَوْف شَدِيد, أَمّا الشَيخ جَاسِم فَهُوَ يَظَل يَنظُر ِللكُوخ بِتَمَعُّن وَهُوَ يَرْفَع “فَنَر” الإِنَارَة القَدِيم الطِرَاز بِجِوَار وَجْهِهِ الأيْمَن ثُم يَنظُر لِتِلكَ الأجَمَةِ التِي اخْتَفَتْ فِيهَا رُوُح.

فِي الكُوخ أخَذَ عَمَّار يُجَفّف شَعرَه بِالمِنشَفَة حَتّى يُزيِل عَنه قَطَرَات المَطَر التِي بَللتْه ثُمّ تَوَقّفَ لِيقتَرِبَ مِنَ النَافِذَة يَبحَثْ عَنْ رُوُح بِعَينَيْه فَلَم يَجِدْهَا فَعَاوَدَ إِغلاَق النَافِذَة فِي حِين الشَيخ جَاسِم كَانَ يَقفْ هُنَاكَ يَنظُر الكُوُخ بِاسْتِغرَاب تَام وَهُوَ يَرفَع فِنَار الإِنَارَة لِمُسْتَوَى بَصَرِه.

وَفِي الّليَل وَبَينَمَا عَمَّار نَائِم وَهُوَ جَالِسْ عَلَى الكُرْسِي مُسْنِدَاً رَأسَهُ لِلوَرَاء اقتَرَبَتْ رُوُح مِنه لِتنظُرَهُ بِعَينَيْهَا البَرِيئَتيَن ثُمّ اقْتَرَبَتْ مَن ألوَاحِ الكُمبيُوتر لِتلمِسهَا بِيَدِهَا اليُمنَى, اقتَرَبَتْ بَعْدَهَا مِن عَمَّار لِتِنفِخَ مِن هَوَاءِ فَمِهَا العَذب عَلَى جَبِينِهِ فَاسْتَفَاقَ هُوَ لِينظُرَ حَولَهُ فَلَم يَرَى أَحَدْ, وَقعَ نَظَرَهُ عَلَى الكُمبيُوتر فَاقتَرَبَ مِنه وَبَاشَرَ بِالكِتَابَة.

مَرَّ الليل عَلَى عَمَّار وَهُوَ عَلَى حَالِهِ تِلك وَلَمْ يَنهَضْ إلاَّ عَلَى صَوْت الأطْبَاق فَالعَمْ جَاسِم كَانَ يَضَع الطَعَام وَالأطبَاق عَلَى الطَاوِلَة

العَمْ جَاسِم : هَلْ أزْعَجتُكَ يَا بُنَيْ؟ لَقَد ظَهَر النَهَار وَلاَزِلْتَ نَائِماً!

عَمَّار : لاَ لَمْ تُزْعِجْنِي يَا عَمْ, أَجَلْ لَقَد تَأخَرْتُ فِي النَوم اليَوم

العَمْ جَاسِمْ : أجَلْ هُوَ كَذلِك

عَمَّار : سَأذْهَبْ لِأَغتَسِلْ ثُمَّ سَأَعُود لِأَتنَاوَلَ الفُطُور

العَمْ جَاسِمْ : وَهُوَ كَذَلِكَ يَا بُنَي

نَظَرَ العَمْ جَاسِمْ بِنَظَرَات غَرِيبَة لِعَمَّار الذِي يَقصِدْ الحَمَّام ثُمَّ أَشَاحَ بِبَصَرِهِ لِلكُمبُيوتَر يَنظُرُه, انتَظرَ العَمْ جَاسِمْ عَمَّار إلَى أنْ انتَهَى ثُمّ اقتَرَب مِنَ الطَاوِلَةِ وَبَاشَرَ بِتَنَاوُلِ الطَعَام بَيْنَمَا العَمْ جَاسِمْ كَانَ يَنظُرَهُ وَفِي خُلدِهِ يَدُور سُؤَال كَانَ يَوَدْ مِنْ أنَ يَعرِفَ جَوَابَهُ مِنْ عَمَّار

العَمْ جَاسِمْ : بُنَي؟

عَمَّار : خَيْرَاً يَا عَمَّاهْ؟

العَمْ جَاسِمْ : مَعَ مَنْ كُنتَ تَتَحَدَّث البَارِحَةَ بِالّليْل؟

عَمَّار : لاَ أَعْلَم, فَتَاة غَريِبَة تَظْهَر لِي دَوْمَاً وَتَكُون مُرْتَدِيَةْ ذَاتَ الرِدَاء

العَمْ جَاسِمْ بِاسْتِغْرَاب : مِنْ أيْنَ تَظْهَرْ لَكْ؟ هَذَا المَكَان خَاوِي وَلاَ أَحَدَ يَأتِي هُنَا!

عَمَّار : لاَ أعْلَمْ, ألَمْ تَرَهَا البَارِحَة؟

العَمْ جَاسِمْ : لاَ, لَقَدْ رَأيْتُكَ أنْتَ فَقَطْ وَأنْتَ تُحَادِثْ نَفْسَكَ تَحْتَ المَطَرْ المُنْهَمِرْ وَلَمْ أكُنْ أسْمَعْ مَا كُنتَ تَقُول فَشِدَّةُ انْهِمَار المَطَرْ مَنَعَتنِي مِن الاسْتِمَاع لِمَا كُنْتَ تَقُول, يَبْدُو أنَّ مَا تَعْمَل عَلَيْه سَيُصَيُبكَ بِالجُنُونِ يَا بُنَي

نَظَرَ العَمْ جَاسِمْ لِلكُمبيُوتَر وَقَال : هَذَا الجِهَاز سَيُصِيبُكَ بِالجُنُون

ظَلَّ عَمَّار يَنظُر الشَيخ جَاسِمْ بِاسْتِغْرَاب فَكَيْفَ لَمْ يَرَى الشَيخ جَاسِمْ رُوُح التِي تَظهَر لَهُ هُوَ!

بَعْدَ انتِهَاءِهِ مِن تَنَاوُلِ الطَعَام قَصَدَ عَمَّار غُرْفَتَهُ وَارتَدَى مَلابِسَهُ الرِيَاضِيَّة وَاسْتَعَدَّ لِلخُرُوج

الشَيخ جَاسِمْ : إِلى أيْنَ يَا بُنَي؟

عَمَّار : سَأذْهَبُ لأحْضَانِ الطَبِيعَةِ قَليلاً

الشَيخ جَاسِم وَهُوَ يَنظُر عَمَّار يَخْرُجْ مِنَ الكُوخ بَينَمَا هُوَ يُنظّف الطَاوِلَة

الشَيخ جَاسِم : أمْرُ هَذَا الفَتَى غَرِيب!

اقتَرَبَ عَمَّار مِنَ الجُرْفِ العَالِي حَيْثُ رَأى رُوُح لأوّلِ مَرّةٍ هُنَاك, أطَلَّ بِبَصَرِهِ لِلأَسفَل ثُمّ تَرَاجَعَ بِسُرعَة فَقَد أخَافَهُ الارتِفَاع وَالُمنْحَدَرْ, ظَلَّ يَبْحَثْ بِبَصَرِهِ عَنْ رُوُح فلَمْ يَجِدْهَا وَلكِنَّهُ أكْمَلَ مَسِيرَةُ وَبَحْثِه.

قَادَتْهُ خُطَاه لِمَكَان آخَر تَحُفَّه الأشجَار مِن ُكلِ مَكَان, بَحَثَ بِبَصَرِهِ فلَمْ يَجِدْهَا ثمَّ سَمِعَ صَوْتهَا الأنثَوِيّ العَذب

الصَّوْت : هَلْ تَبحَث عَنّي؟

اقتَرَبَ عَمَّار مِنَ الشَجَرَةِ الكَبِيرَةِ لِيَدُور حَوْلَهَا فَرَأَى حِينَهَا رُوُح وَهِيَ مُسْتَنِدَة عَلَى الشَجَرَةِ وَفِي يَدِهَا وَرْدَةً بَيْضَاء تُلاَعِبهَا يِمينَاً تَارَةً وَيَسَاراً تَارَةً أُخرَى, نَظَرَتهُ بِعَيْنَيْهَا الجَمِيلَتَيْن ثُمّ اقتَرَبَتْ مِنْهُ لِتَضَعَ الوَرْدَةَ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ الأيْمَن, أَخَذَ الوَرْدَةَ بِانزِعَاج وَرَمَاهَا عَلَى الأَرْض, أدَارَ ظَهَرَهُ لَهَا فَالتَقَطَت رُوُح الوَرْدَة مِنْ عَلَى الأرْض ثُمَّ لَحِقَتهُ بِخُطُوَاتِهَا السَرِيعَة

رُوُح : عَمَّار, عَمَّار!

التَفَتَ لَهَا وَبِتَعَجُّبْ قَالَ : مَا أدْرَاكِ باِسْمِي؟

رُوُح : أعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ عَنْك

أَدَارَ ظَهْرَهُ لَهَا مُكْمِلاً طَرِيقَهُ فَسَبِقَتْهُ بِخُطُوَاتِهَا السَرِيعَةِ لِتَقِفَ أمَامَه, أَخَذَت تَدُور حَوْلَهُ وَهِيَ تَقُول بِبَعْضِ الخُبْثِ الأنثَوِي

رُوُح : لِمَ تَهْرُبْ مِنْ قَدَرِك؟

عَمَّار : فَلتَذهَبِي لِلجَحِيم وَتَدَعِينِي وَشَأنِي!

تَرَكَهَا عَمَّار مُغَادِرَاً بَيْنَمَا هِيَ كَانَت تنْظُره بِابتِسَامَتِهَا, وَعَادَ عَمَّار لِلكُوخ وَمَرَّت الساعَات وَهَا هُوَ الليل قَد أقبَل وَلَكِن لِمَ عَمَّار لَمْ يَنَم بَعد؟ لِمَ جَفَاهُ النَوم فِي لَيلَتِهِ تِلك؟ كَانَ التفكِير بِهَا هُوَ السَبَب وَرَاءَ جَفوَةِ النَوم تِلك, كَانَ يُفكَّر بِهَا كَثيِراً.

نَهَضَ مِنَ اضطِجَاعِهِ مِنْ عَلَى السَرِير لِيَخرُجَ مِنَ الغُرفَة ثُمَّ أخَذَ يَقتَرِب مِن كُمبيُوتَرِهِ المَحْمُول وَفتَحَهُ مُحَاوِلاً مِنْ أنْ يَكتُب شَيئاً فلَمْ تَأتِيهِ الكَلِمَات, حَكَّ جَبِينَهُ قَليلاً ثُمَّ شَعْرَه, وَضَعَ يَدَيه عَلَى رَأسِهِ وَهُوَ يَنظُر الكُمبيُوتَر ثُمَّ أغلَقَهُ فِي ضَجَرٍ تَام, اقتَرَبَ مِنَ النَافِذَةِ الخَشَبِيَّةِ وَفتَحَهَا وَإِذ بِهِ يَرَى الشَيخ جَاسِم وَاقِف هُنَاك يَنظُره بنَظَرَات مُخيفَه فَفَزِعَ عَمَّار مِنه, تَحَرَّك الشَيخ جَاسِم بِخُطُوَاتِهِ لِيَقصِدَ خَيمَتَهُ المُتَوَاضِعَةَ تِلك بَينَمَا عَمَّار أغلَقَ النَافِذَةَ الخَشَبِيَّة فِي خَوف تَام.

قَصَدَ عَمَّار الحَمَّامَ لِيَسْتَحِمْ وَمَا إنْ أَصَبَحَ تَحْتَ مَاءِ الصُنبُورِ المُنهَمِرِ حَتَّى أَغْلَق عَيْنَيْه فَأتَتْ رُوُح فِي ذِهْنِهِ لِيَتَذكَرَهَا عِنْدَمَا كَانَت تَدُور تَحْتَ قَطَرَاتِ المَطَرِ المُنهَمِرَةِ عَلَيْهَا, بَعْدَ أنْ أخَذَ عَمَّار حَمَّامَهُ وَانتَهَى مِن الاسْتِحْمَام خَرَجَ وَهُوَ يُنَشّفْ شَعْرَ رَأسِهِ بِالمِنشَفَةِ فَفُوجِئَ بِرُؤْيَةِ رُوُح تَجلِسْ عَلَى المِقْعَد وَهِيَ تُمَشِّطْ شَعْرَهَا الحَرِيرِي, سَقَطَتِ المِنشَفَةِ مِن يَدِهِ وَهُوَ يَنظُرُهَا فِي فَزَعٍ تَام, اقتَرَبَتْ هِيَ مِنه بَينَمَا هُوَ أخَذَ بَترْدِيدِ سُورَةِ الفَلَق خَوْفاً مِنهَا إِلَى أنْ التَصَقَ بِالجِدَار مُسْتَنِدَاً عَلَيه, جَلَسَ عَلَى أرْضِيَةِ الغُرْفَةِ البَارِدَة

اقتَرَبَتْ رُوُح مِنه لِتَضَعَ يَدَيْهَا اليُمْنَى عَلَى خَدِّهِ الأيْسَر فَفَتَحَ عَينَيه لِيُزِيحَ يَدَهَا عَنْهُ بِغَضَب

عَمَّار وَهُوَ يَقَفْ : ابِتعَدِي عَنِّي! كَيَفَ تَجَرُئِينَ عَلَى دُخُولِ الكُوخ ثُمَّ غُرْفَتِي وَفِي هَكَذَا وَقْت!

رُوُح : وَلَكِني مَوْجُودَةٌ هَنَا حَيْثُ تَتَوَاجَدْ أَنْت, أَنَا لَمْ أَدْخُل مِنْ مَكَان فَأنَا لَسْتُ بِحَاجَةٍ لِلدُخُول, حَيثُ تَتَوَاجَدْ أنْتَ أتَوَاجَدْ أنَا بِكُلِ بَسَاطَة

عَمَّار : كَفَى!

أخَذَ عَمَّار رُوُح بِيَدِهَا اليُمنَى وَبِقَبضَةِ يَدِهِ الرُجُولِيَّةِ أخْرَجَهَا مِنَ الغُرفَةِ وَأغْلَقَ البَابَ ثُمَّ استَنَدَ هُوَ عَلَى البَاب

عَمَّار : لاَبُدَّ وَأنِّي فِي حُلُمٍ مُرَوِّعْ

عَادَ لِيَفتَح بَاب الغُرفَة فَوَجَدَهَا وَاقِفَة

رُوًح : لاَ يُوجَدْ مَكَان آخَرْ أذْهَب إليَه

عَادَ عَمَّار لِيُغلِقَ البَابَ فِي وَجْهِهَا بَيْنَمَا هِيَ قَصَدَتِ الكَنَبَة لِتنْكَمِشْ عَلَيْهَا ثُمَّ غَطَّتْ فِي النَّوم, بَعدَ بُرهَةٍ خَرَجَ عَمَّار مِنْ غُرفَتِهِ فَرَأَى رُوح نَائِمَةً عَلَى الكَنبَة, عَادَ لِغُرفَتِهِ لِيَأخُذَ غِطَاء ثُمَّ غَطَّى رُوُح بِهِ, قَصَدَ بَعدَهَا الكُمبيُوتَر المَحْمُول لِيُبَاشِرَ الكِتَابَة فِيه, اسْتَفَاقَت رُوُح لِتنظُرَهُ بِابتِسَامَتِهَا ثُمَّ عَادَت لِلنَّوم.

مَرَّت سَاعَات الليْل وَهَا هُوَ الصَبَاح قَدْ أقبَلَ لِيَستَفِيق عَمَّار عَلَى صَوْتِ العَمْ جَاسِم

العَمْ جَاسِم : بُنَيْ, بُنَيْ

استَفَاقَ عَمَّار مِن نَوْمِهِ وَهُوَ يَشْعُرْ بِوَجَعْ فِي رَقَبَتِهِ

العَمْ جَاسِم : هَلْ أنتَ بِخَيْر؟

عَمَّار : أجَلْ أنَا ..

يَقَعْ نَظَرَهُ عَلَى الغِطَاء المَوْجُود عَلَى الكَنَبَةِ فَيَقِفْ فِي تَوَتُّرٍ مِنْه فَفِي هَذِهِ الأثنَاء كَانَ عَمَّار يَظُن بَأنَّ رُوُح قَدْ تَكُون فِي الغُرفَةِ أو فِي الحَمَّام, هَرَعَ بِسُرْعَةٍ لِلغُرْفَة فَلَمْ يَجِدْهَا, قَصَدَ الحَمَّام وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْهَا أيْضَاً, خَرَجَ مِنَ الغُرفَةِ وَإِذْ بِهِ يَرَى العَمْ جَاسِمْ يَأخُذ الغِطَاء مِنْ عَلَى الكَنَبَةِ لِيُرَتِبَهْ

العَمْ جَاسِم : هَلْ كُنْتَ نَائِمَاً هُنَا البَارِحَة؟

عَمَّار بِارْتِبَاك : لاَ, أجَلْ, أجَلْ كُنْتُ نَائِمَاً هُنَا

مَرَّت السَاعَات وَهَا هُوَ عَمَّار قَدِ استَحَم ثُم تنَاوَل فَطُورَه وَبَعدَهَا جَلَسَ عَلَى الكَنَبَة يَشْرَب كُوب الشَاي بَينَمَا يَنظُر لِلعَم جَاسِم وَهُوَ يُنظّفْ الغُبَارَ عَنْ ذَاكَ التِلفِزيُون القَدِيم, نَطَقَ عَمَّار ثُمَّ قَالَ لِلعَمْ جَاسِمْ:

عَمَّار : عَمْ جَاسِمْ

العَمْ جَاسِمْ : مَا هُنَالِكَ يَا بُنَيْ؟

عَمَّار : لِمَ لَيْسَ لَدَيْكَ مَنزِلْ كَبَاقِي النَّاس؟

تَوَقّفَ العَمْ جَاسِم عَنِ التَنظِيف لِيَلتَفِتَ لِعَمَّار يَنظُرَه : وَمَنْ قَالَ لَكَ بِأنّهُ لاَ يُوجَد لَدَي مَنزِلْ؟

عَمَّار : لاَ أعلَم, أرَاكَ تَقْطُن هُنَا فِي تِلكَ الخَيمَة

ارتَسَمَ الحُزن عَلَى وَجْهِ العَمْ جَاسِمْ وَطَأطَأ الرَّأْسَ فِي الأرض فَعَادَ عَمَّار لِيَقُوَل لَهُ:

عَمَّار : هَلاَّ قَصَصْتَ لِي قِصَتَكَ يَا عَمَّاه؟

العَمْ جَاسِم : وَفِيمَ سَتُفِيدُكَ قِصَتِي؟

جَلَسَ العَمْ جَاسِم عَلَى الكَنَبَةِ المُقَابِلَةِ لِلكَنَبَةِ التِي يَجلِسْ عَليْهَا عَمَّار وَبَدَأ بِسَرْدِ قِصَّتِه

العَمْ جَاسِمْ : كَانَتْ لَدَيَّ عَائِلَة, وَكَانَ لَدَيَّ مَنزِلْ مَلِيء بِالبَهْجَةِ وَالسَعَادَة, وَلَكِن وَفِي يَوْمٍ من الأيَّام لاَ أعْلَمْ مَا الذِّي حَدَثْ, ابنِي ذُو العِشرُونَ عَامَاً تَغَيَّرَتْ أحْوَالُهُ رَأساً عَلَى عَقِبْ, كَانَ ذَكِيَّا وَحَيَوِيَّا وَلَكِن انقَلَبَ كُلُ شَيْء وَتَغَيَّر كُلُ شَيْء, أصْبَحَ عَصَبِيَّاً وَلَا يُطِيقُ التَحَدُّثَ مَعَ أيِّ أحَدْ, ذَاتَ يَوْمٍ طَلَبَ مِنِّي مِنْ أنْ أشْتَرِي لَهُ قِطعَةَ الأَرْضِ هَذِهِ فَأبَيْت لأَنْ لاَ أحَدَ يَقطُنْ هُنَا أَوْ يَأتِي حَتَّى إلاَّ لِلزِيَارَاتِ النَادِرَةِ لِغَرَضِ السِيَاحَةِ أوِ التَصْوِير, وَلَكِن وَمَعَ إِصْرَارِهِ الغَرِيب وَافقت وَاشتَرَيتُ لَهُ قِطعَة الأرضِ هَذِهِ التِي تَرَاهَا ثُم بَنَى هُوَ هَذَا الكُوخ, بِطَبيعَةِ الحَال لَم تُوَافِق الحُكومَة عَلَى ذَلك فِي بَادِئ الأمر وَلكِنه فَعَل المُستَحيلَ لِيَأخُذَ المُوَافقَةَ مِنهُم وَحَدَثَ كُلَّ مَا تَرَاهُ عَينَاكَ الآن, وَمَا إِنَ بَنَى الكُوخَ إلاَّ وَهَجَرَ المَنزِلَ وَبَاتَ يَعيش هُنَا فِي هَذِهِ العُزلَةَ الغَرِيبَة

عَمَّار : وَابْنُك, مَاذَا حَدَثَ لَهْ؟

العَمْ جَاسِم : تَوَفَّي, سَقَطَ مِنْ عَلَى الجُرْفِ العَالِي

عَمَّار : أمْرٌ غَرِيب! هَلْ مَا حَدَثَ مَعَهُ بِمَحْضِ الصُدْفَةِ يَا تُرَى أَمْ ..

العَمْ جَاسِم : لاَ أعْلَمْ يَا بُنَيْ, وَلكِني أَعْتَقِد بِأنهَا مُجَرَّد أقدَار فَابنِي لاَ أعْدَاءَ لَهْ

عَمَّار : وَزَوْجَتُك؟

العَمْ جَاسِمْ : تُوُفِيَتْ هِيَ الأُخْرَى بَعْدَ ابنِنَا حُزْنَاً وَكَمَدَاً عَلَيْه, أَمَّا أنَا فَغَادَرْتُ حَيَاتِي السَابِقَةَ وَأتَيتُ أعِيش هَا هُنَا, أحَيَانَاً وَعِندَمَا أجِدُ مُستَأجِرَاً لِلكُوخ أمْكُثُ أنَا فِي الخَيمَة, وَعِندَمَا لاَ يَأتِي أحَد أمْكَثُ أنَا فِي الكُوخ, هَذِهِ هِيَ حَيَاتِي بِكُلِ بَسَاطَة, أحيَانَاً أشعُر بِأنَّ طَيفَهُ يَأتِي لِزِيَارَتِي

وَقَفَ العَم جَاسِم مِنْ جَلسَتِهِ لِيَعَودَ يَمْسَحِ الغُبَارَ مِنْ عَلَى الطَاوِلَةِ وَغَيرهَا بَينَمَا عَمَّار كَانَ يَنظُرَهُ بِحزنٍ شَدِيد.

قَصَدَ عَمَّار المَشْيَ عَلَى ذَاكَ العُشْبِ الأخضَر لِيُسَرِّي عَن نَفْسِهِ قلِيلاً, هُوَ يُفَكّر بِعِدةِ أشيَاءَ تَشْغَل بَالَهُ الآن ثُم شَدهُ رُؤيَة رُوح وَهِيَ تَدخُل فِي بِركَةِ مَاء كَانَت عَمِيقَة بَعْضَ الشَّيء, كَانَت تَدْخُل شَيْئاً فَشَيْئاً

عَمَّار : قَد تَغْرَقِينَ أيتُهَا المَجْنُونَة!

اقَتَرَبَ عَمَّار فَاخْتَفَتْ رُوُح فٍي بِرْكَةِ المَاء تَمَامَاً, حَاوَلَ هُوَ الدُخُولَ فِي بِرْكَةِ المَاء وَلكِنّه تَرَاجَعَ فَهُوَ يَخشَى الغَرَقَ وَيَخْشَى الدُخُولَ فِي مَكَانٍ عَمِيقٍ كَهَذَا, وَبَيْنَ حَالَةِ تَرَقّب وَانِتظَار تَرَكَ عَمَّار المَكَان مُغَادِرَاً ثُم تَوَقف لِيَسْتَدِير فَيَعُود لِلبِركَة, ظلَّ يَنظُر البِركَةَ بِتَمَعُّن ثُم حَاوَلَ الدُخُولَ فَظهَرَتْ رُوُح مِن بِركَةِ المَاء وَهِيَ تَنظُره, مَرَّت مِنْ حَولِه وَهِيَ تَنظُره بَينَمَا هُوَ كَانَ يَنظُرهَا بِاستِغرَاب تَام

عَمَّار : قَد ظَنَنت ..

رُوُح تَلتَفِت لَه : بِأنِّي مِتْ!

عَمَّار : أُقسِمْ بَأنَّكِ سَاحِرَة!

رُوُح : حَسَنَاً, كَمَا تَشَاء

عَمَّار : لَقَد, أيْنَ عَائِلَتك؟

رُوُح : لَيْسَ لَدَي

تَمشِي رُوُح فَيمْشِي عَمَّار خَلفَهَا

عَمَّار : لاَ يُوجَدْ أحَدْ لَيْسَ لَدَيْهِ عَائِلَة

رُوُح : حَسَناً لَدَي

عَمَّار : إذَاً أيْنَ هُمْ؟ أيْنَ يَقطُنُون؟

رُوُح تَلتَفِتْ لَه : فِي كُلِ مَكَان, هُنَا وَفِي كُلِ مَكَان فِي العَالَم, فِي كُلِ تَنَاغُمَات الحَيَاة وَبِكُلِ لَوْنٍ وَبِكُلِ ..

عَمَّار مُقَاطِعَاً لِحَدِيثِهَا يَقُول بِسُخرِيَة : حَقاً!

يَترُكهَا وَعَلَى شَفتَيه تَرتَسِم ابتِسَامَةَ سُخرِيَة بَينَمَا هِيَ تَقُول:

رُوُح: عَمَّار, عَائِلَتِي مَوْجُودُونَ مَعَكْ

يَتَوَقفْ عَمَّار لِيَستَدِير يَنظُرهَا بِاستِغرَاب : مَاذَا؟!

رُوُح تَقتَرِب مِنْه : فِي يَوْمٍ مِنَ الأيَّام سَتُدرِكُ ذَلكَ بِنَفسِك

عَمَّار : اسْمَعِيني جَيدَاً, أنَا لَمْ أعُد رَاغِبَاً بِرُؤيَةِ وَجهِكِ هَا هُنَا مُطلَقَاً فَابقِي بَعِيدَةً عَني قدْرَ الإِمْكَان

تَترُكَهُ رُوُح وَهِيَ تَنظُرَهُ نَظْرَةَ استِعْلاَء, مَرَّ الوَقْت عَلَى عَمَّار بِشَكْلٍ غَرِيب وَهَا هُوَ يَعُود لِلْكُوخ مَرةً أخْرَى لِيَجلِسَ عَلَى الكَنَبَة فَيَظَلْ يَنظُر لِلسقف ثُم يَقتَرِبْ مِنَ الطَاوِلَةِ لِيَجْلِس عَلَى المِقعَد الخَشَبِي وَيَفتَح الكُمبيوتَر لِيُبَاشِرَ إِكْمَالَهُ لِلنص, يَمُرْ الوَقْت عَلَيه لِيُنهِكَهُ التَعَبْ فَيَقصِدْ غُرفَتَهُ لِينَام عَلَى السَرِير, بَعدَ بُرْهَةٍ وَبَعدَ أنْ يَغُطَّ عَمَّار فِي نَوْمِهِ العَمِيق يَقتَرِبْ العَمْ جَاسِمْ مِنه لِيَنظُرَه وَهُوَ يَرْفَع الفَنَار عَالِيَاً نَحْوَ رَأسِه ثُمَّ يَنظُرْ لِبَاب الغُرفَة بِنَظرَات مِلْؤُهَا الشَّرْ, يَعُود بِخُطُوَاتِهِ لِلوَرَاء لِيَخرُجَ مِنَ الغُرفَة, تَقتَرِبْ رُوُح مِنْ عَمَّار لِتغَطِيه بِالغِطَاء ثُم تَنظُر لِبَابِ الغُرفَةِ بِوَجْه جَاد المَلاَمِحْ.

أطَل الصَبَاح بِنُورِه لِيقْصِدَ عَمَّار ذَاكَ الجُرف العَالِي يَلتَقِطْ بَعْضَ الصُّور بِتِلكَ الكَامِيرَا التِي تَحْمِلْ يَدَيْه, هُوَ يُوَثقْ رِحْلَتَهُ البَرِيّة لِهَذَا المَكَان البَدِيع عَبْرَ التِقَاطِهِ لِعِدَّةِ صُوَر لِلطَبِيعَةِ الغَنَّاء التِي تَحُفّه مِنْ كُلِ جَانِبْ, يَقصِد ذَاكَ الشَلال البَدِيع المَنظَر لِيلتَقِط لَهُ بَعضَ الصُوَر ثُمَّ يَلتَفِتْ وَرَاءَهُ لِيَرَى رُوُح الجَمِيلَة وَاقِفَة هُنَاك تَنظُرَه بِابتِسَامَتِهَا العَذبَة, يَبتَسِم ثُم يَأخُذ بِالِتقَاط بَعْض الصُوَر لَهَا وَكُلهُ سَعَادَة

رُوُح : ألَمْ تَكتَفِ مِنَ التِقَاطِ الصُوَرِ لِي بَعْد؟

عَمَّار : بَلَى اكتَفَيْت, هَلاَّ مَشَيْنَا مَعَاً؟

تُومِئْ رُوُح بِرَأسِهَا بِالإيجَاب لَه وَكُلهَا سَعَادَة وَهِيَ تَنظُرَه, يَمْشِيَا مَعَاً ثُم يَجْلِسَا عَلَى ذَاكَ العُشْب الأخْضَر لِتُدَاعِب يَدَهَا اليُمْنَى ذَاكَ العُشْب بَينَمَا هُوَ يَنظُرْهَا بِابتِسَامَةٍ ثُمَّ يَقُول:

عَمَّار : أَيْنَ تَقْطُنِين؟

تُشِير بِيَدِهَا عَلَى رَأسِهَا : هُنَا

عَمَّار : فِي رَأسِكْ؟

رُوُح : لاَ, فِي فِكْرِكَ أنْت

يَضْحَكْ عَمَّار ثُم يَسْمَعْ صَوْت هَاتِفِهِ النَقَّال فَيُجِيب بَيْنَمَا رُوُح تَقِف لِتَدُور وَهِيَ مُسْتَمْتِعَة بِلَفْحِ الهَوَاء عَلَى وَجْهِهَا وَشَعْرِهَا وَهِيَ مُغمَضَةِ العَينَين

عَمَّار : أهْلاً مُحَمد, أجَل أنَا فِي أتَم السَعَادَةِ هُنَا, أجَل بِكُلِ تَأكِيد أرْغَب بَأن تَتَوَاجَد هَا هُنَا مَعِي, بِكُل تَأكِيد سَأنتَظِرُكَ يَا صَدِيقي الوَفِيْ

يُغلِقْ جِهَازَهُ النَقَّال ثُمَّ يَظَلْ يَنظُرْ رُوُح وَيَقُول بَعْدَهَا: هَلْ يُوجَدَ أحَد فِي حَيَاتِكْ؟

رُوُح : أجَلْ, أنْتَ

عَمَّار : مُعَجَبَةٌ بِي؟

رُوُح : بِكَ وَبِفِكْرِك, بِكُلِ شَيْءٍ فِيك

عَمَّار يَقِفْ لِيَقتَرِب مِنهَا وَيُوقِفهَا عَنِ الدَوَرَان ثُم يَقُول : وَلَكِنِّي لاَ أرْغَب بِالإعْجَاب, أنَا أرِيدُ حُبَّاً جَارِفاً

انتَهَى مِشْوَارُ عَمَّار بَعْدَ أنْ اسْتَأذَنتْهُ رُوُح وَغَادَرَتْ ثُم عَادَ هُوَ لِلْكُوخ, أمَّا فِي الليْل فَقَد كَانَ العَمْ جَاسِمْ يَمشِي وَهُوَ يَسْتَنِدْ عَلَى عَصَاهُ الخَشَبِيَّةِ تِلك, يَدُهُ اليُسْرَى تَحْمِلْ ذَاكَ الفَنَار لِيُنِيرَ لَهُ طَرِيقَهُ المُعْتِم, يَتَوَقَفْ فَجْأَة لِيَلتَفِتَ بِسْرعَة يَنظُر خَلفَه, عَينَيْه تَحْمِل نَظَرَات جَادَّةِ المَلاَمِحْ قَرِيبَة إلَى الشَّر, يَعُود لِيُكْمِل طَرِيقَهُ فِي تِلكَ العَتْمَة.

مَضَى يَوْمَيْن وَهَا هُوَ مُحَمَد صَدِيق عَمَّار قَدْ أتَى لِزِيَارَتِه, يَنزِلْ مِنْ سَيَّارَتِه فَيُقَابِلَهُ العَمْ جَاسِمْ

مُحَمَد : لاَ بُدَّ وَأنكَ العَمْ جَاسِمْ

العَمْ جَاسِمْ : أجَل أنَا هُوَ يَا بُنَيْ

مُحَمَد : أيْنَ عَمَّار إذاً؟

العَمْ جَاسِمْ : إنَّهُ فِي الكُوخ يَا بُنَيْ, أنْتَ مُحَمَد ألَيْسَ كَذَلِكْ؟

مُحَمد : أجَلْ أنَا هُوَ أيهَا الرَجُل الطَيبْ

يَنظُر مُحَمد لِلكُوخ ثُم يَقُول : جُنُون الكُتَّاب وَمَا يَفعَل بِهِمْ

قَصَدَ مُحَمد الكُوخ وَدَخَلَه وِإذْ بِهِ يَرَى عَمَّار نَائِمْ عَلَى الكَنَبَة, أخَذَ بِالاقْتِرَاب مِنْه لِيُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ العَمِيق

مُحَمَد : عَمَّار, عَمَّار

عَمَّار بِصَوْتٍ هَادِئْ : رُوُح

مُحَمَد : رُوُح! مَنْ رُوُح هَذِه؟! عَمَّار اسْتَفِقْ أنَا مُحَمَد

يَنْهَض عَمَّار مِنْ نَومِهِ فَيَرَى مُحَمَد, يَجْلِسْ مُحَمَد عَلَى الكَنَبَة

مُحَمَد بِاسْتِغْرَاب : مَنْ رُوُح هَذِه؟

عَمَّار يَبتَسِم : لاَ أحَد

مُحَمَد : هَيَّا أخْبِرنِي مَنْ تَكُون؟

عَمَّار : إِنهَا فَتَاة, فتَاة غَرِيبَة جِدَّاً

مُحَمد : مَوْجُودَة هُنَا؟

عَمَّار : لاَ, هِيَ تَأتِي فَجْأة ثُم تَختَفِي

مُحَمَد : تَأتِي فَجَأة ثُم تَخْتَفِي! هَلْ هِيَ جِنِيَّه!

عَمَّار : لاَ, سَأرِيكَ إِيَّاهَا

اقتَرَبَ عَمَّار مِنَ الطَاوِلَة لِيَخرُجَ مِن دُرْجِهَا الكَامِيرَا فَاقتَرَبَ مِنْ صَدِيقِهِ لِيَجْلِسَ بِجِوَارِه, أخَذَ عَمَّار بِالبَحْثِ فِي الكَامِيرَا عَنْ صُوَر رُوُح فَاسْتَغْرَبَ الأمْر لأَنْ لاَ يُوجَدْ أيْ صُورَة لهَا فِي الكَامِيرَا بِرُغَمِ التِقَاط عَمَّار لَهَا عِدَّة صُوَر, الصُوَر المُوْجُودَة فَقَط هِيَ تِلكَ التِي التَقَطَهَا لِلطَبِيعَة

مُحَمَد : مَا الأمْر لاَ أجِدْ أي صُوَر, إنهَا الطَبِيعَةُ فَقَط, لاَ أرَى أيَّ شَيْءٍ آخَر

عَمَّار : لاَ أعَلْم, لَقَدْ التَقَطتُ لَهَا العَدِيد مِنَ الصُوَر, أيْنَ اختَفَتْ؟

مُحَمَد : عَلّكَ رَأيْتَ جِنِيَّة مَا

لَمْ يُصَدِّقْ عَمَّار الأمر الذِي حَدَث وَلِذَلِكَ حَمَلَ جَمِيع حَاجِيَّاتِه فِي الحَقِيبَةِ وَغَادَرَ الكُوخ وَسَطَ اسْتِغْرَاب كُلْ مِنْ صَدِيقِه وَالعَمْ جَاسِمْ, تَحَركَ عَمَّار بِالسَيارَة بَينَمَا تَبِعَهُ مُحَمَد بِسَيارَتِه فِي حِين وَقَفَ العَمْ جَاسِمْ يَنظُرْهُمَا وَالاسْتِغْرَاب بَادٍ عَلَى مَلاَمِحِ وَجْهِهِ الجَاد المَلاَمِحْ

العَمْ جَاسِمْ : مَا الأمْر؟ مَا الذي حَدَثْ؟

قَصَدَ الاثنَانِ مَعَاً إحْدَى الفَنَادِقْ لِيَبيتَا لَيْلَتَهُمَا فِيه وَلَكِن عَمَّار ظَلَّ يُفَكِر فِي أْمْرِ رُوُح الذِي لَمْ يَنكَشِفْ لَهُ بَعْد, وَلِذَلِكَ قَرر العَوْدَةَ لِذَاتِ المَكَان فَعّلَهُ يَرَاهَا لِيتَضِحَ لَهُ مَا هُوَ مُبْهَمٌ عَلَيْه, الوَقتْ لَيْلاً وَمُحَمَد نَائِم وَلَكِن عَمَّار خَرَجَ مِنَ الفُندُقْ وَقَصَدَ بِسَيَارَتِهِ ذَاكَ المَكَان وَذَاكَ الجُرْف العَالِي, اقتَرَبَ مِن الجُرْف وَفِي يَدِهِ اليُمنَى يَحْمِلْ مِصْبَاح يَدَوِي يُنِير لَهُ طَرِيقَهُ المُظلِمْ, تَقدَمَت رُوُح مِنْ خَلفِهِ فَالتَفَتَ لِيَرَاهَا بِسُرْعَةِ الالتِفَات

عَمَّار : منْ تَكُونِين؟ لِمَاذَا تَظْهَرِينَ فِي بَعْضِ المَوَاقِف وَالبَعْضَ الآخَر تَخْتَفِين؟

رُوُح : كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ مِنْ أنْ تَعرِفَ ذَلِكَ بِنَفسِك

عَمَّار : أخبِرِينِي فَأنَا لاَ أعْرِفْ

رُوُح : عِندَمَا أَظهَرُ لَكَ تَأتِيكَ الأفكَار بِسُهُولَةِ الكِتَابَة, وَعِندَمَا أغِيب عَنْكَ تَغيِب عَنْكَ الأفكَار أيْضَاً, مَا تَفسِيرُ ذَلِكَ بِرَأيِكْ؟

عَمَّار : مَا أنْتِ؟ هَلْ أنْتِ طَيْفٌ أَمْ جِنِيَّةٌ أَمْ سَاحِرَةْ!

رُوُح : بِنْتٌ مِنْ بَنَاتِ أَفْكَارِكْ

عَمَّار : لاَ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ الجُنُون وَلاَ شَكْ

رُوُح : إنْ كُنْتَ تَوَد مِنْ أنْ تَتَأكَّد فَاذْهَب فَوْرَاً لِلسَيَّارَة وَأنزِلْ كُمْبُيوتَرِكَ المَحْمُول وَابْدَأ بِالكِتَابَة وَحِينَهَا سَتُدْرِكْ بَأنّي عَلَى حَقْ, سَتَأتِيكَ الأفكَار وَسَتُبَاشِر الكِتَابَة وَسَتُنْهِي نَصَّكَ السِينَمَائِي, أعِدُكَ بِذَلِكْ

قَصَدَ عَمَّار سَيارَتَهُ بِسُرعَةٍ وَصَعَدَهَا وَتَحَرَّكَ نَحْوَ الكُوُخ, تَوَقَّفَ هُنَاك وَتَرَجَّلَ مَنَ السَيارَة ثُم أنزَلَ الكُمبيُوتَر المَحْمُول مَعَهْ وَدَخَلَ الكُوُخ فِي سُرْعَتِهِ حَيْثُ وَضَعَ الكُمْبيُوتَر عَلَى الطَاوِلَة ثُم سَحَبَ ذَاكَ المِقْعَد وَجَلَسَ عَلَيه ثُم بَاشَرَ الكِتَابَة َحَتّى أنْهَكَهُ التَعَب فنَام, اسْتَيقَظَ فِي الصَبَاح عَلَى أثَر فِعل أشِعَةِ الشَمْس عَلَى خَدِّه الأيْمَن, نَظَرَ لِلكُمبًيوتَر ثُم رَأَى كَلِمَة “النِهَايَة” هَا هُوَ عَمَّار قَدْ أنْهَى النَصْ السِينَمَائِي

أَخِيرَاً, رُوُح كَانَ مَعَهَا حَقْ لأنَهَا كَانَتْ مُجَرَّدْ فِكْرَةْ مِنْ بَنَات أفْكَارِهْ وَكَانَتْ هِيَ الفِكْرَةَ الرَكِيزَة التِي بَنَى عَلْيهَا نَصَّهُ السِينَمَائِي بِأسِّرِهْ, ضَحِكَ عَمَّار قَليِلاً ثُمَّ ضَحِكَ بِقُوَّة وَكَأنَّهُ كَانَ يَضْحَكْ ضَحِكْ هِسْتيِرِي.

تَوَالَتْ الأيَّام وَتُرْجِمَتْ القِصَّة تَمثِيلاً وَهَا قَدْ بَانَتْ مَعَالِمْ القِصَّة كَفيِلم سِينَمَائِي, وَهَا هُوَ عَمَّار مَعَ صَدِيقِهِ مُحَمَّد قَدْ حَضَرَا لِمُشَاهَدَة حَفْل افتِتَاح الفِيلم وَمُشَاهَدَتِه لأَوَّلِ مَرَّة, كَانَ الحُضُور كَبِيراً وَلكِنَّ عَمَّار شَدَّةُ رُؤْيَة فَتاَة جَمِيلَة جِداً كَانَت بَيْن الحُضُور, هِيَ كَانَتْ كَتِلكَ الفَتَاة التِي رَآهَا, كَانَتْ تُشْبِهْ رُوُح كَثيِراً بَلْ رُبَمَا تَكَاد تَكُون هِيَ, دَخَلَ الجَمِيع دَار السِينَمَا وَبَدَءُوا بُمُشَاهَدَةِ الفِيلمْ.

النِهَايَةْ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى