البرد والنفط وحفلة النوح

عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة (أوروك) العراق


كنتُ أظنُ أنَّ إرتفاع درجات الحرارة في صيف العراق إلى نصف درجة الغليان هو الذي يُشعر الإنسان بالضعف، لكنَّ موجة البرد الأخيرة سلبت مني هذا الظن، وألقتني في جبّ التفكير بتعدد حالات الضعف البشري !
يقول دارا حسن المدير السابق لدائرة الأرصاد الجوية والرصد الزلزالي في محافظة السليمانية  في لقاء مع (سكاي نيوز عربية) ( ٢٠٢٢/١/١٦م): (نحنُ أمام شتاء قياسي في برودته وهطولاته سيما الثلجية منها، حيث ولأول مرة يتم تسجيل درجة حرارة ٢٧ تحت الصفر في إقليم كردستان العراق، وهذه الدرجة البالغة التدني هي سابقة في العراق، فهذه الهطولات من الثلج والمطر الهائلة المترافقة مع رياح عاتية وشديدة البرودة لم تكن متوقعةً أبداً).
لقد أظهر البرد القارس هذا الضعف في أجلى صوره، والمفارقة أنَّ هذا حصل مع ارتفاع سعر برميل النفط الذي تجاوز التسعين دولاراً مع هبوط درجات الحرارة إلى الصفر، بل إلى ما دون الصفر.
ارتبط النفط عندي بمدفأة (علاء الدين) والتفافنا ونحنُ أطفال حولها مع حذر من وقوع إبريق الشاي أو الماء، ولم تنجح أفضل المدافىء الحديثة في التعويض عن هذه البهجة الضائعة !
هل لموجات البرد علاقة بارتفاع أسعار النفط؟
ربما !
تذكرتُ الثعلب الصغير أبا الحصين أو الحصيني حين أخبروه أنَّ ماء النهر قد ارتفع فأجابهم : إنْ ارتفع ماء النهر، أو نقص فحاجتي ليست سوى غَرفة ماء !
شيءٌ مؤسفٌ حقاً أن يكون الإنسان ضعيفاً وهشاً عند الجوع والعطش والرغبات البسيطة فضلاً عن الكبيرة ، لكنَّ الأكثر أسفاً أن يظهر الضعف حين يتلذذ المرء بتعذيب الآخرين !
والأكثر فظاعةً  أن يُعطى مالاً على صنع جو مأساوي مدمر !
وإليك الحديث :
حضرتُ مؤخراً مجلس عزاء أحد الأقرباء فاضطررت إلى الاستماع إلى  الرجل النائح المستأجر، و(ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة) كما يقال.
أصر هذا الرجل النائح على تحطيم معنويات الحاضرين، وأمعن في صنع جو كئيب يبغي فيه إظهار مهاراته في استحضار أبشع  صور التمزق، والتلاشي والفناء، فالهدف واضح ليست فيه مواساة لذوي المتوفى، ولا تذكرةً للمستمعين بتقلب أحوال الدنيا، ولا النصح بالعمل الصالح، والاستعداد للآخرة، وإنّما ليثبت هذا الشخص أنَّه جديرٌ بهذه المهنة التي راجت بشكل واسع في السنوات الأخيرة، وأصبحت لها مكاتب وحجوزات !


سألتُ مَنْ كان قاعداً جواري في مجلس العزاء : لماذا يسترسل هذا النائح بطرح الصور المحطمة للأمل، وهو يرى أثر كلامه المؤذي على نفوس ذوي المتوفى، ومنهم مَنْ يُغمى عليه جراء التأثر ؟
فقال : إنَّه يتعمد ذلك لتكون له شهرةٌ عريضةٌ، حتى يُقال :إنَّ فلاناً ماهر في النوح والتفجع !
والمصيبة الأعظم أنَّ مائدة الطعام تمد بعد انتهاء حفلة النوح مباشرةً، فكيف يستسيغ الحاضرون الطعام، وهم ما زالوا في أجواء الفناء والقتامة ؟
وعجبت لتبدل أذواق وأمزجة الناس من تمجيد أبطال المصارعة، وكمال الأجسام، وألعاب القوة إلى تمجيد مثل هؤلاء الأشخاص البارعين في التفجيع والتنكيل بالحياة ؟
لكنَّ فضيلة النائح الوحيدة أنَّه أنسانا الطقس البارد !!
*الصورتان للذكرى مع سقوط الثلج في بغداد قبل سنتين ضحى الثلاثاء (٢٠٢٠/٢/١١م) في مبنى القشلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى