قراءة في الملف الشعري النِّسْويّ
د. أحمد جمعة | مصر
لأن قصيدة النثر هي المعنى الحقيقي لهذا القول: “خير الكلام ما قل ودل”، فلا داعي لمقدمات طويلة تنحرف بنا عن لب الأمر..
الكاتبة المبدعة (زكية المرموق) هي حالة خاصة وقليلة الوجود وفي القليل دائما الخيرية، تكتب القصيدة بطريقة احترافية تخصها وحدها، وحين يقع نص ما أمام عينيك دون قراءة اسم كاتبه، في نهاية النص يخبرك قلبك الغارق في دقات دهشته أنه لا بد وأن يكون ل (زكية) هي حقا تبني عروش نصوصها على نار الدهشة، والغريب أن هذه النار المتأججة في نصوصها تثلج قلبك، وتسحب عقلك الذي عبثت به النصوص غير المتقنة التي تعج بها المواقع المتصفة بالثقافية، تسحبه لساحة مغايرة يطلع فيها على عوالم غير مطروقة، ترشدك لجنون الفكرة التي تتقافز في دمك، تنقي دمك من ذباب النصوص الركيكة، فحقا لا يمكنني أمام نصوصها أبدا أن أقول النهاية ونحن في خضم الحبكة.
تأخذنا المبدعة (نسرين حسن) دائما في فسحة نتطلع إليها نحن الكبار الذين دهستنا الحياة، نتطلع إليها بعين طفل طامح للجمال، مثل شجرة أو عشب ضاقت به الأرض نشاطر بحروفها الصبح أنفاسه، فتشرق في الروح شمس مغايرة، شمس ساطعة في صميمنا للمجاز، وكيف بها وهي تجعلك تستلذ الحزن المرتدي ثيابا مزركشة، الحزن الجميل الذي كقطعة حلوى تذوب في فمك وتسعدك، أرأيت حزنا يثير الفرح في النفس؟! بمثل هذه البراءة التي ينساب بها الماء من أعلى التلة فرحا، تكتب (نسرين) وتدفعنا بحب إلى سيل عرم من الدهشة التي تشق في الروح الصلدة أنهارا غير مألوفة من الجمال، وبمثل هذه الرقة في كفٍ خرج للدنيا اليوم تنسج حرير أفكارها في عقولنا المتلهفة للذوبان.
ثم إن شهادتي مجروحة في النقية (هناء الغنيمي) أعرفها مذ لم تكن تكتب، مذ كانت أصابعها غضة تطمح لكتابة نص ينهش قلب قارئه، إنها تلك الوديعة التي تربي في دمها قطيع ذئاب ترعى على حملان قلبها الطيب، وهذا ما أجده دوما في نصوصها التي تربت في حقول اللغة يوما بعد يوم حتى علت أغصانها المثقلة بالقطوف الدانية، هي حقا تكتب بتلك الصلابة التي يتداعى من خلفها قلبها الرقيق كفراشة بريئة تسعى للنور، غير أنها تحترق، هذا النور الحارق هو نصوصها التي تحرقها، بيد أنها تفعل ذلك بحب جارف مثل شمعة ترشد الآخرين للسعادة.. فهي ليس خلفها إلا الحب الوافر المستشف من حروفها وليس أمامها إلا الشعر المدجج بالدهشة.
وفي حضرة ربة الشعر والقصيدة المفعمة بالرقة (لولا رينولدز) لا يسعك أن تقرأ نصوصها إلا بعقل اكتمل استواؤه حتى لا تقع في فتنتها جاعلا النص شماعة، بهشاشة بسكوتة تغمست بالشيكولا تكتب نصوصها التي تتمثل لك دائما كراقصة باليه تربط يدك بيد الموسيقى وتتعاليان معها نحو نغمة هي وحدها أرادتها، وفجأة حين تتوقف ترى الجميع ينظهر إليك وأنت فاتحا فمك، تتلفت حولك وتحاول جاهدا أن تخفي تلك الدهشة، نعم، هي صاحبة الحرف الواضح الساطع، الذي ربما تخدعك نفسك حين تهيئ لك بأنه في إمكانك كتابة مثله، لكنه سهل في ظاهره صعب جدا في باطنه، هي تلك التي تمسك ريشة السهل الممتنع وتأخذك دائما إلى لوحاتها التي تخرج منها دائما عطشانا، نعم، تأخذك إلى البحر وتردك عطشانا، هكذا نصوصها عصافير صغيرة تنام برقة على ركبتك، لكنك دائما تتعلم منها حرية الغناء، حرية التحليق خارج أقفاص المألوف.
تمضي بك الحياة في سكك غير مرغوبة، فتلجأ للقراءة باحثا عن شيء يعبر عما في خلجات نفسك، عن حرف يصفك ويأخذك نحو صورتك العارية في مرآة الحقيقة، لن تجد أفضل من هذه ال (ناريمان حسن) التي تغزل من اليومي بحرفية معلم فلسفة يجلس على مقهى يراقب المارة وينسج لهم من همومهم ملابس على قدرهم بالضبط، بيد أن محبرتها تفوح منها رائحة الدماء الزكية، تكتب عن الحرب وكأن لا غيرها رأى الحرب، وكأن لا غيرها عاش الحب بين دوي الرصاص ودهس المجنزرات وعويل الشهداء، ثم في الليل تنسج لك خيوط أحلامك، تأخذك في سلاسة إلى أحلامك الدفينة التي لم يطلع عليها إلا هي، ثم في الصباح تجد نفسك مخضبا برائحتها، أقصد رائحة حروفها، ثم في الصباح مثل جندي تم شحنه بالشهادة حتى تفجر الدم من رقبته تجد نفسك تستشهد ثانية وللمرة المئة في ميدان حروفها. إن (ناريمان حسن) تلك الشابة التي ربما تحكم عليها من مظهرها بأنها لم تختبر الحياة بعد، حين تقرأ نصوصها، ستوقن بأنك من لم تختبر الحياة تلك، ولا يسعك إلا أن تجلس أمامها وهي مثل شيخ للطريقة تلقنك الشعر.