السيف والبارود والقصيدة ..!

أحمد الزبيدي | العراق

لا شك في أن الثقافة العربية قد شهدت تحولات فكرية عبر أزمنتها التعاقبية، وشهدت ولادة اتجاهات فكرية ودينية وأدبية.. ومن حقنا أن نتساءل عن مرجعيات التحول، و آليات التطور والتباين، والتمايز الخطابي، والتنوع الفكري.. ومن حقنا – أيضاً – أن نبحث عن البنية المعرفية المنتجة للمتغيرات الثقافية.. ومن الحق – جدا- ألّا نؤمن – كليا- بما ( قعّده ) المؤرخون من سرديات منتظمة تثبّت التحولات بمسامير منهجية لا تسمح لك بفكها، لأنه يخلل ركب ( الحقيقة ) المنظمة وهي تبحر ضد ( التيارات الفكرية المعادية !!) .. وتعالوا لننظر إلى الحقول الزمنية التي أرشف بها المؤرخون النقاد للشعر العربي، سنجد أنهم يعتمدون على ( تحولات السيف ) إطاراً منهجياً يحتضن التحول الثقافي والفكري، ومن ثم الشعري، بوصفه الثقافة الجمالية العليا المتصارعة مع الأسلوب الجمالي العالي ( القرآن الكريم ) ، فالسحر الشعري هو سحر ثقافي مهيمن لا يُعتق من سيف إلا غمده سيف آخر . فلو سألت أي طالب أو مطلوب أو باحث أو دارس أو مدروس عن مراحل التحول الثقافي العربي لسطر لك التحولات ( العصر الجاهلي- العصر الإسلامي- العصر الأموي – العصر العباسي – الفترة المظلمة – العصر الحديث ….) وكل هذه التحولات جاءت نتيجة انتصار سيف على آخر ، بمعنى أن المؤرخين عجزوا عن تأطير التحولات الشعرية، ضمن تحولات ( معرفية ) أو ( ثقافية ) ولذا فإن المؤثرات الثقافية للبنية الفكرية العربية هي مؤثرات آيديولوجية أكثر مما هي مؤثرات معرفية، ولهذا السبب نجد ( التطرف ) الفكري ظاهرة مزمنة صحبت مختلف الاتجاهات الثقافية … مرةً تساءل طه حسين : لمَ شهدت الخلافات الدينية معارك ودماء وقتل ولم نجد هذا الأسلوب بين الشعراء ؟! وهم لا يقلون خلافا واختلافا مع الاختلافات الدينية وفرقها ومللها ونحلها .. فمن أين للمعتزلة سطوتهم المعرفية لولا سطوة السيف ؟ ومنْ الذي سخر من الصوفية أكثر من ( السيف ) ؟! .. الفكر الذي لا سيف يحميه ( يموت ) أو يعيش غربة أبي ذر الغفاري ..

وحين بشرنا الألماني كريستيان شونباين باكتشاف البارود صار القتل – والحمد لله – أسرع من تلك الأيام ، وصارت الثقافة أكثر تحولا ، وأعمق خصاما، صارت كذلك في مجتمعات تعاني من الفقر المعرفي ليهمن بدلها الغنى الآيديولوجي، وعليه فإني أرى أن التحولات الشعرية العربية قد أصبحت تنتظر تغير طعم ( البارود ) ليس لدينا طبقة ثقافية انتلجنسيا تشابه الثورة الطلابية الفرنسية التي قلبت الفكر المعرفي العالمي البنيوي ، ليس لدينا طبقة ثقافية انجلو سيكسونية تتمرد على النقد الاكاديمي السلطوي ومعيار القيمة الجمالية المزيفة وتعلن ( موت الناقد ) وتنتج ( النقد الثقافي).. كل التحولات السياسية العربية هي تحولات ( انقلابية ) بارود ينتصر على بارود..

 ومن ثم فإن البنية الثقافية المحتضة للتحولات الشعرية العراقية هي بنيات آيديولوجية، وليست معرفية خطابية مهيمنة، ولذلك فإن الحلم الحداثي للقصيدة العراقية مازال ( أضغاث أفكار ) ، وإن أردنا التحلي بالموضوعية فهي حداثة تجميلية تمكيجت بها القصيدة بتنويعات أسلوبية، تتخذ من ( المرآة ) الثابتة معياراً لوجهها الجديد، فغياب المرجعيات المعرفية دليل على ضعف الحداثة الشعرية العراقية.. صحيح أن هنالك كثيرا من النماذج الشعرية غادرت الثقافة الجمالية القديمة ولكن مازال بعضها يرتهن إلى الماضي ليكون دليلا على بعد المسافة، الغياب المعرفي الحداثي جعل من المعرفة التقليدية نقطة انطلاق للقصيدة الحديثة، ويا لها من أكذوبة تلك التي تناشد بابن البارود ( محمد سامي البارودي ) أن يكون جدحة الحداثة، فأين فكر الطهطاوي ومحمد عبده والكواكبي أين منهم شعراء عصرهم ؟ ما اخبرنا محمد سامي البارودي أن أحدا أثر فيه أكثر من ( العباسيين ) ولم يتخذ أحمد شوقي ضدا نوعيا اكثر من ( المتنبي ) ولم يغادر الجواهري النجف من دون أن يجرجر ( ثقافة النجف ) معه ! وما كان للسياب أن يتحول من الشيوعية إلى القومية بنبوءات فكرية ، أليس الخصام مع الرفاق هو من جعله يطلق الزواج الشيوعي الدائم وينكح نكاح المتعة القومية ألم تظهر في قصائده صبغة قومية ؟ وحين حل البعث وما ادراك ما البعث : فلم يعتق البارود البعثي الشعر إلا بعد أن ضمن الجلباب الزيتوني للقوافي والأوزان بل من القصائد ما حملت بشطرها الأول نطاقا ومسدساً واصبحت قيمتها بقيمة بارودها الجمالي ( ويمه من اشتم البارود ريحة هيل !!) .. إذا كانت ( الحرّة ) تموت ولا تأكل بثدييها ، فالشاعر ( الإنسان ) ( غير البارودي ) يموت ولا يأكل بقوافيه ..

لا أدري كم مضى من الزمن على قول أبي تمام ( السيف أصدق إنباءً من الكتب ) لكنني أعلم جيداً أنه مازال ( في حده الحد … )

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى