التوحد… رحلة البحث عن البروتين المفقود

د. أيمن يوسف | اختصاصي الأمراض العصبية والصحة النفسية والتأهيل

اختصاصي متلازمة الفيبروميالجيا وال “إم إي”

لم تحظ متلازمة عصبية أو اضطراب نمو سلوكي نفس- اجتماعي باهتمام وجدل وأبحاث متوالية كالتي حظي بها اضطراب طيف التوحد في الثلاث عقود الماضية نظرا لارتفاع أعداد المواليد والأطفال المصابين، ونظرا للجدلية العلمية الكبيرة التي يفرزها سلوك المتوحد من أجل فهم وتفسير سلوكيات وردود أفعال من لا يستطيع التعبير عن معاناته واختلافه، وربما يعد اضطراب طيف التوحد من أعقد الاضطرابات على مستوى التكوين العصبي لخلايا الدماغ واختلالها حيث تتدخل عوامل عديدة لا عنصر واحد في الإصابة ما يوسع قائمة الأعراض وعناصر التعامل والتعافي منها، وإن ظل البعد الجيني والاستعداد الوراثي أحد أبرز العوامل المسببة لاضطراب طيف التوحد إلا أن العوامل البيئية والغذائية وأنواع التطعيمات وعناصر التسمم الكيميائي المختلفة أصبحوا جميعا من ضمن العوامل المرضية التي ينظر إليها كافة المتخصصون بعين الاعتبار.

ربما فرضية اضطراب التمثيل البروتيني والعذائي أخذت تتصاعد بعد أن أثبتت نسبة كبيرة من الأبحاث العلمية غياب عناصر لأحماض أمينية وبروتينات في أدمغة المصابين وبنسبة أكبر في  الذكور، نظرا لارتباط البعد الجيني بكروموسوم x ما يوفر فرصا أكبر للإصابة بالتوحد لدى المواليد الذكور، كما إنه لارتباط النشاط الجيني وسلوكه في عمليات تكوين البروتينات في المشبك العصبي أو إزالته الأثر المباشر في تحديد مسار النمو العصبي السليم أو المرضي في أدمغة المواليد، وهو ما يحدد أيضا نمط السلوك الاجتماعي والتعامل الحسي مع عناصر الببئة من صوت وضوء وشكل التفاعل لدى الطفل مع المثيرات الحسية والنفسية، وقد ذهب علماء جامعة تورنتو الكندية أحد أبرز الجامعات في ترتيب العشرين جامعة الأهم في العالم- إلى أن ثلث حالات التوحد يمكن تفسيرها بنقص بروتين واحد المسمى nSR100 (يعرف أيضا باسم SRRM4)، وهو البروتين الأهم لنمو الدماغ الطبيعي في المراحل الأولى، والذي به تتحدد أنماط السلوك الاجتماعي وتفاعلات الدماغ مع البيئة والمحيطين وقدرات التعلم والقدرة على المشي أو النطق والكلام والتعبير وما إلى غير ذلك.

يعمل بروتين nSR100 كمنظم رئيسي لعملية التضفير البديلة، وهي العملية التي تولد تنوعا ملحوظا في البروتينات والتي تعتبر اللبنات الأساسية للخلايا، فمن المعروف أن البروتينات يتم ترميزها في تسلسل الحمض النووي للجينات، أما التعليمات المفيدة يتم تفكيكها وفصلها بواسطة DNA غير مشفر، وأثناء التضفير البديل يتم تقسيم الفواصل غير المشفرة ويتم تجميع مقاطع ترميز البروتينات معا لإنشاء قالب بروتين نهائي، والترتيب الذي يتم فيه تجميع تعليمات الترميز معا يمكنه أن يتغير بحيث يمكن لجين واحد أن يطرح مجموعة متنوعة من البروتينات، وبهذه الطريقة يمكن للخلايا أن توسع صندوق أدوات البروتين الخاص بها لتتجاوز إلى حد كبير عدد الجينات، وبهذا النط المتشعب والمتتالي لتناسخ البروتينات من خلال عمل الجين تتشكل القوة الدافعة لتشكيل دماغ متكامل ومعقد قادر على أداء وظائف متنوعة ومتناغمة من أجل البقاء والاستمرار والتفاعل الاجتماعي والحسي والنفسي.

يفتقد المتوحد دقة وميكانزيم هذا التفاعل، ويفتقد بالأساس ويتضاءل بروتين nSR100 في أدمغة الكثير من مصابي التوحد كما اشار فريق معمل بلينكو بتورنتو الكندية حيث ان عدم اشتقاق البروتينات من هذا البروتين بشكل صحيح ومتتالي يمكنه أن يراكم بروتينات غير صحيحة في خلايا الدماغ ما يؤدي إلى أخطاء في توصيلات الدماغ، وسلوك التوحد الذي نلحظه، كما أن انخفاض مستويات nSR100 يعد مسئولا على زيادة نشاط الخلايا العصبية وهو نمط شائع في خلايا العديد من أنماط التوحد حيث إن برنامج الربط البديل والذي يتحكمه به nSR100 سيتعطل بالنتيجة، ما يعد بذلك منبعا جديدا لسلوك التوحد، وهذا الاكتشاف يقودنا في المستقبل القريب أو من خلال السلوكيات اليومية والملحقات الغذائية إلى تنظيم وزيادة هذا البروتين ومشتقاته، ويساعد العلماء والمتخصصين إلى التحول نحو ال nSR100 لتحديد المحاور التنظيمية له عبر التدخل الدوائي دون التركيز على الطفرات الفردية المرتبطة بالتوحد، وهو ما يفتح مجالا لعلاج عام وتعافي متواصل لمجموعات مصابة دون الانتظار لخصوصيات تفرزها طفرات خاصة تفرزها حالات بعينها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى