عتبات الغياب

منال رضوان | كاتبة مصرية

اللوحة: تصميم الفنان محمد رضوان
حلم الصحافة الذي لم يعد على رأس قائمة الأحلام القابعة والراقدة والمتشبثة بإحدى زوايا العين، والتي لم أفلح في تجاوزها أو نسيانها أو التغافل عنها، هذا الحلم هو ما جعلني في سن صغيرة أدخر كل قرش لشراء جريدتي الأهرام والأخبار وعدة إصدرات من مجلات وكتب دورية، وكان العمود اليومي للكاتب الصحفي مصطفى أمين أول ما تلتقطه كاميرا العين، ومنه تعلمت أن أقرأ الجريدة العربية من اليسار إلى اليمين، وعلمت فيما بعد أن أغلب القراء كانوا يفعلون مثل ما أفعل، قرأت الجرائد وقت الأبيض والأسود أو قل وقت الأسود × أسود وكثيرًا ما كنت أنتحي إلى جانب رصيف محطة القطار حتى أستكمل الفكرة، وأتذكر دقائق التأخير التي لن أسلم معها من عتاب أمي، فأهرع إلى البيت الذي أعود إليه كل صباح صيفي بخيال من شارب أسود يداعب ابتسامي ويشي بأنني فعلتها مرة أخرى وتصفحت الجرائد على قارعة الطريق.
في مرحلة دراستي الثانوية رحل مصطفى أمين، وللمرة الأولى أشعر بالفقد ولا أبالغ إن قلت الخذلان؛ فكيف إذن سنستكمل أفكارنا معًا؟!
تذمرت في صمت -كعادتي- وتوقفت بعض الوقت عن شراء الأخبار وكأنني بذلك التصرف الطفولي أبتكر فكرة عقاب على الغياب!
ومع تقدم العمر اعتدت قراءة عدة أعمدة صحفية، وكأن كاتبها هو الصديق الذي يهاتفني برسالة اطمئنان صباحية حتى يتوقف فجأة عن رسائله من دون إرادته، فأطوي الصفحة في حزن ألفته خاصة بعد امتلاء ذاكرة مساحات الفقد في الآونة الأخيرة، ومع ذلك أستمر في شراء رسائل الاطمئنان الصباحية والباقية من عمر ندي، تلك التي اختفت تقريبًا مع رحيل الأستاذ صلاح منتصر صاحب عمود مجرد رأي.
ومع اقترابي إلى المجال الصحفي – بحكم الكتابة- فإن الكثير من أرباب القلم وصناع الكلمة أضحوا من الأصدقاء وسعدت بهم جدًا وأصبحت على علاقة جيدة وقوية مع الكثيرين منهم، هؤلاء الأصدقاء الذين أتمنى لهم دوام العافية واستمرار العطاء في ظل ظروف ليست هي الأفضل على الاطلاق، ولعل ذلك كما بات تعويضًا عن الحلم الفتي أضحى مواساة خفية عن هؤلاء الأساتذة الذين ودعتهم تباعًا ونشأت بيني -كقارىء- وبينهم مساحات من التعود والود والتفاعل والتأثر دونما لقاء، وذلك قبل تعبر أجسادهم عبر عتبات الغياب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى