تحليق عابر لطيور الذاكرة.. أصوات لم يخنقها القيد (7)
د. سامي الكيلاني
الاعتناء بالنتاجات الثقافيةللمعتقلين واجب وطني إنساني لأنها تعكس تراث الحركة الأسيرة في نضالها الدؤوب لانتزاع حقوقهم من إدارات السجون، هذه النتاجات التي تتوزع بين الأعمال الإبداعية في الألوان الأدبية المختلفة والأعمال السياسية والفكرية.وقد تم نشر الكثير من هذه الأعمال بمبادرات متعددة، كان من بينهاتجربة لجان العمل الثقافي الديمقراطي، التي كنت أمينها العام في الثمانينيات من القرن الماضي، يومها اخترنا عنوان “أصوات لم يخنقها القيد” لمبادرتنا وأصدرنا المجموعةالأولىمنها أملين أن نستمر في ذلك في سلسلة أعمال متتابعة،ولكن العمل الثاني منها لم يرَ النور، رغم أنه كان جاهزاً في مواده.وقد احتوى تلك المجموعة قصصاً قصيرة وقصائد ورسائل. كان يومها العمل في الثقافة أخطر في نظر الاحتلال من العمل في الممنوعات والمخدرات في نظر حكومة شريفة، بلا تشبيه. كانت قائمة الكتب الممنوعة التي تصدر عن الرقيب العسكري الاحتلالي تطول كل يوم ويدخل عليها كتب جديدة من إصدارات فلسطينية أو خارجية، بحيث يمكن محاكمة من يضبط بحوزته كتاب مدرج على هذه القائمة، وقد تم تقديمي للمحكمة العسكرية بسبب إصدار مجموعتي الشعرية الأولى “وعد جديد لعز الدين القسام” وبسبب امتلاكي نسخاً منها بصفتها عملاً مدرجاً على قائمة الكتب الممنوعة، وكانت مجموعتي القصصية الأولى التي صدرت قبلها بعنوان “أخضر يا زعتر” قد لاقت المصير نفسه على قائمة الكتب الممنوعة وتسببت في التحقيق معي أكثر من مرة حولها.
نسبة كبيرة من محتويات هاتين المجموعتين كتبت في السجن وخرجت بفضل الكتابة على قصاصات ورقية يمكن “تهريبها” خارج السجن. للقصاصات في حياة المعتقل وفي حياة المناضلين خارجه موقع خاص في النفس. كانت القصاصات تحمل التعميم الأسبوعي في الغرف الاعتقالية، صغيرة الحجم حتى يسهل تناقلها تهريباً بين الأقسام بمساعدة مع عمال المطبخ أو المغسلة، وبين غرفة وأخرى خلال فترة التنزه “الفورة” في القسم الواحد. كانت القصاصة تتحرك عارية في النقل قصير المدى، وكانت تتحول إلى “كبسولة”أي تضغط وتغلف بالبلاستيك للنقل بعيد المدى استعداداً لبلعها إن تطلب الأمر ثم استخراجها حين يصل حاملها بر الأمان. القصاصة المأخوذة من الورقة الموجودة في علب السجائر كانت جيدة لأنها حجماً وشكلاً كافية للتعميم الأسبوعي على الرفاق في السجن مكتوباً بخط صغير لمناقشة قضايا في الحياة اليومية أو بعض المستجدات التنظيمية أو السياسية السريعة. كم أحن إلى الصدق المختزن في العبارة الختامية لتلك التعميمات، وكم كنا نأخذها جدياً ونعتبرها جزءاً من فعل عظيم نقوم به، عبارة “هذا ما هناك، مع خالص تحياتنا الرفاقية” متبوعة بالتاريخ.
كانت الكتابة فعلاً يثبت أننا نتحدى وننتصر في الحفاظ على الروح الحرة في داخلنا في مواجهة كل الإجراءات التي تستهدفها،ومعها أنواع الفعل الثقافي الأخرى من البرامج الثقافية والندوات والأمسيات مثل مسابقات سين جيم، أو الاحتفالات بالمناسبات الوطنية.كان همّ الواحد فينا الحفاظ على النص “الطازج” في مواجهة التفتيش المفاجئ، فضياع ما تكتب صعب جداً على النفس،فالسطر الذي تكتبه ويصادر السجان نسخته الأولى يورثك حزناً من نوع خاص، يبدأ بنكد وحيرة، ثم تبدأ بمحاولة استرجاع السطر الذي ضاع فتجد أن كل المحاولات غير قادرة على إعادة الأصالة في الخلق الأول.
أتذكر من الأعمال التي ضاعت قصة الضرير الهندي الذي أنقذ طفلاً غرق في بئر في إحدى القرى الهندية، ففتحت له هذه البطولة باب الحظوظ. ترجمتها من مجلة “ريدرز دايجست” وأضفت إليها تعليقاً أيديولوجياً، وبعد أن تترجمها بتصرف،وذكرت ذلك طبعاً، لأزيل عنها الفكرة الرأسمالية التي توهم الفقراء بوجود الفرصة المتساوية وما عليهم إلاّ أن يجتهدوا. ضاعت القصة المترجمة إلى جانب مواد أخرى في دفتر تمت مصادرته أثناء انتقالي من سجن نابلس المركزي إلى سجن جنين لحضور إحدى جلسات محاكمتي في المحكمة العسكرية في جنين. وفي الدفتر ذاته ضاعت القصة الأولى التي كتبتها بعد الاعتقال وكانت بعنوان “الإفراج”، ربما تفاؤلاً أو حلماً بإفراج قريب في حينه، إفراج أقرب من السنوات الثلاث التي قضيتها خلف القضبان حينه. قصة فيها خبرة الأيام الأولى في غرف السجن بعد زنازين التحقيق، وفيها صورة العدد الذي كان يسمى في سجن نابلس المركزي، ربما دون غيره من السجون، “تمام” فمزجت فيها بين “تمام” العدد الذي يعني أن الأمور تمام ولم يهرب أحد من المعتقلين وبين تمام الفتاة الريفية التي تبيع الحليب في المدينة. صودر الدفتر الذي حوى النسخة الأولى والوحيدة من القصة ولم أعد إلى كتابتها أو كتابة قصة شبيهة لها.
أما ترجمة كتاب “دولة اليهود” لثيودور هرتسل الذي ترجمته عن طبعة إنجليزية حصلنا عليها في السجن، ونجحت في إخراج الترجمة في دفتر، فقد ضاع بطريقة أخرى مؤلمة. أعطيته تطوعاً لأحد معارض أعمال المعتقلين الذي نظم في جامعة النجاح الوطنية من قبل مجلس الطلبة ليعرض مع نماذج من كتابات المعتقلين وإنتاجهم الفني، انتهى المعرض واختفى الدفتر بعد ذلك رغم الجهود والاستفسارات من المعنيين والمسؤولين عن المعرض. كان مكتوباً بخط يد أحد الزملاء الذي تبرع بنسخ نسخة إضافية عن النسخة الأولى. تلك الدفاتر كانت تعني الكثير بثمنها المعنوي، أو بالأحرى ما دفع من جوع في إضرابات سابقة ليكون امتلاكها حقاً طبيعياً، إضافة إلى ثمنها المادي، فقد كانت تشترى من “كانتين” السجن لتشاركنا في المبلغ المحدود الذي يسمح للأهل بإيداعه لنشتري بعض مستلزماتنا من الشاي والقهوة والحاجات البسيطة الأخرى، الدفتر مهم كدفتر وأكثر أهمية حين يكون أداة للبوح بمكنونات الصدور وأداة لاحتواء المواد التثقيفية الوطنية والفكرية التي تستعمل في الجلسات. تلك الدفاتر التي كان يتم تجليدها (كل 3 أو 4 منها) في مجلد واحد، ويتم بطرق إبداعية وبالمواد المتوفرة.
مجلدي المكون من أربعة دفاتر والذي حافظت عليه مجلداً مرتباً نظيفاً، واعتبرته المجموعة الكاملة لما كتبت في السجن، ضاع هو الآخر، لكن لحسن الحظ أن الكثير من الأعمال التي احتواها كانت قد خرجت ونشرت، ولكن أعمالاً أخرى تحمل خصوصية السجن ولا تصلح للنشر المباشر، ولكنها مهمة للتوثيق للباحثين وللذكرى بالنسبة لي، فقد ضاعت مع الدفتر. لتجليد الدفاتر والكتب في السجن قصة يطول الحديث عنها حيث كانت فناً إبداعياً يدوياً متميزاً يجسّد مبدأ الحاجة أم الاختراع تجسيداً رائعاً، وقد أبدعتُ في هذه الفنون خاصة في الخياطة ما قبل التجليد وفي صناعة مواد اللصق من موادها الخام، تجربة تستحق التوثيق بالتفصيل. خرجت مواد السجون بما فيها الدفاتر الشخصية ومحتويات المكتبة وأصبح جزء منها في مكتبة بلدية نابلس العامة والجزء الآخر في متحف الحركة الأسيرة في جامعة القدس، ولكن دفتري هذا لم أعثر عليه في أي من سجلات المكانين. كم هو غال ذلك الدفتر، نجا من مصادرات السجانين وصمد كل تلك السنوات، وذكره لي بعض من عاشوا في سجن نابلس المركزي قبل رحيل الاحتلال عن المكان، ثم اختفى فجأة. الدفتر الذي حوى قصصاً قصيرة وأشعاراً ومقالات وترجمات اختفى. اختفى كما اختفت المواد التي كان يصادرها السجانون ومن أهمها المجلات الشهرية التي كانت تصدر مكتوبة بخط اليد بنسخ بعدد أقسام السجن. كان يقال إنها تذهب للمخابرات وللمتدربين من ضباطها ليعرفوا ماذا يفكر المعتقلون، عمل مخطط من منظور التخطيط المجرد، ولكنه ساذج في علم الحرية الإنسانية، إننا نفكر في حريتنا الكبرى، ونكسر الحواجز المادية التي تقيد حريتنا اليومية الصغرى. نتجول في عالم الفكر والمعرفة ونرى بلداناً وأناساً وتجارب لا تقوى الحواجز على حجبها. هكذا قلت للذي استدعاني ل”يدردش” معي من أولئكالذين كانوا يأتون للحديث مع السجناء بصفة طلبة جامعات، والمعتقلون يعتقدون أنهم ضباط مخابرات متدربون، وقرروا مقاطعتهم. استدعاني أحدهم وسألني عن رأيي السياسي. أجبته بهدوء: “نحن الآن غير متساوين للحديث عن الآراء، أنا سجين من أجل رأيي وأنت طليق ولا يهمني من تكون، فلا منطق في الحوار ونحن بهاتين الصفتين”. سألنيإن كنت خائفاً من تبعة ما سأقول، وطمأننيبأني حر في قول ما أيد ولن أتضرر. كنت حازماً في الرد عليه “تاريخ إفراجي هو يوم كذا انتظرني على باب السجن وسأخبرك برأيي حتى لو كان ثمن ذلك عودتي للسجن”. حاول المراوغة “على الأقل أنت تخرج من غرفة ضيقة إلى هذه الغرفة الواسعة المكيفة، لحظة استراحة من الغرفة الضيقة اعتبرها”. أجبته “أنا لست في غرفة ضيقة، أنا أجوب العالم يومياً من خلال قراءاتي”. راوغ مرة أخرى “أنا طالب جامعي يريد تدريب لغته العربية فلماذا لا تساعدني، أنت أستاذ جامعي”. أجبته بالحزم ذاته “هناك طريقة أسهل عليك، اذهب للتسوق من محلات القدس الشرقية وسيتحدث معك التجار وتتدرب معهم بشكل أفضل مني”. تركني وطلب من السجان إعادتي إلى غرفتي الضيقة الأوسع من عالمه. كانت النتيجة أن تعمم الموقف وتوقفت زيارات هؤلاء “الطلبة المتدربين”. عالم دفتريكان أوسع من عالم الحرية المصطنع فبثثت له ما في نفسي.
وضاعت قصيدة الحب الجميلة التي كتبتها في معتقل أنصار 3 الصحراوي، كتبتها بلغة بين الدارجة والفصحى بعد أن وصلتني صور الأسرة في أول رسالة بعد انقطاع طويل في معتقل معزول عن العالم بدرجة كبيرة. أتذكر مطلع القصيدة الذي لم يضع مع ضياع الأصل “يا وردة قعدت بين وردات الدار، وقالت للورد طفّي”، وفي نهايات القصيدة مقطع يبدأ ب “سألني رفيق البرش” ما معناه من أين تأتي بهذه الرومانسية هنا في هذا السجن الصحراوي، فتجيبه القصيدة بمقطع يبدأ ب” هذا قلب يا رفيق بحب الجمال، بحب الحياة”، ضاعت القصيدة ولم يضع صداها في النفس ولا طعمها المتميز، بالنسبة لي، من الذاكرة. ضاعت بعد أن نسختها في وجهزتها في كبسولة وحملها أحد الرفاق يوم إفراجه.