التقرير الصحفي الأخير لشرين أبو عاقلة
الأسير الفلسطيني حسام زهدي شاهين | سجن نفحة الصحراوي
إن سريالية التفاؤل والأمل الذي خلّفه استشهاد شرين في قلوبنا رغم الألم الشديد الذي إعترانا كجماعة وكأفراد، لهو دليل حيّ على صوابية رسالتها نحو الحرية والوحدة، بمزيد من التحدي والتماسك ومقاومة الإحتلال، فموتها أكد لنا بأن لها حياة في حياة غيرها من أبناء شعبها، حياة يهتف بهاالمكان قبل الإنسان، حيث حُملت على أكتاف جنين، وشَيع جثمانها جرزيم وعيبال، وسارت بها شوارع رام الله بخشوع ووقار نحو ضريح الشهيد ياسر عرفات لتحمل منه رسالة محبة للقدس التي ينتظرها وتنتظره، ونطقت بها اسوار المدينة العتيقة، وانبجست دموع من أشجارها وشوارعها وحجارتها، دموع محبة ذرفتها فلسطين وهي تزف عروسها نحو مرقدها الأخير، وقد شاهدنا أمير القدس فيصل الحسيني، بابتسامته المعهودة ورأسه الشامخ، يمد ذراعيه لإستقبالها إشبيناً ومن خلفه تقف أطياف كل مشيعية، وهم ينسجون لها ثوب عرسها بألوان علم فلسطين.
إن اللغة الصامتة التي تحدثت بها إلينا شرين في تقريرها الصّحفي الأخير، وهي تغطي أحداث جنازتها، كانت أعمق وأبلغ من كل الكلمات المنطوقة، التي تحمل علامات ورموزا، وقد عبر عنها صديقي الفنان الأسير “جمال الهندي” بلوحة مشحونة بالمعاني المكثفة، ولدت بعد تفاعل معجون بالوجع فيما بين عدد من الأسرى، أطلق عليها اسم “الوصية”، وصور فيها شرين مبتسمة بينما تشاهد جنازتها تهدم جدار الفصل العنصري وتحرر القدس، وكأن لسان حالها يوصي شعبها بضرورة هدمه.
جنازتها كانت مهيبة ومدوية، تردد صداها في كل أرجاء الكون، وفهم صرختها البشر، كل البشر، فهموها بإنسانيتهم الموجوعة والمفجوعة، واهتزت قلوبهم مع إهتزاز نعشها في اللحظة التي نهشت فيها عصّي المستعمر الجلاد أطراف ورؤوس حماة جثمانها، فالدولة التي ترتعش خوفاً أمام تابوب وعلم، هي حتماً دولة فاقدة لكل مقومات شرعية وجودها.
جنازة شرين كانت أشبه بمنازلة فيما بين الإرادة والغطرسة، بين مسيرة الأعلام الفلسطينية وبين مسيرة الأعلام الصهيونية، المسيرتان اللتان هزم فيهما الإحتلال هزيمة مجلجلة، فثلاثة آلاف شرطي وجندي مدججين بكل أنواع الأسلحة فشلوا في إلقاء القبض على علم تحمية براءة الطفولة، وقبضة مريم المقدسية، كما وفشلوا في حماية علم الاحتلال بكل ما في جعبتهم من قوة، لأن العلم الذي تحمية القلوب والجوارح يبقى مرفرفاً خفاقاً في السماء مقابل علم القراصنة الذي ينحني خوفاً ورعباً، يسير مذلولاً تحت حراسة البنادق.
فمقتل شرين وجنازتها أثبتا للقاصي والداني مرة أخرى، بأن الإحتلال لايمكن له أن يتخلص من ظلاميته وأحقاده البشعة مالم يتخلص من جوهر وجوده العنصري كاحتلال أولاً وقبل كل شيء آخر، ولو افترضنا مجازاً بأن هذا التخلص قد تم، فإنه سيؤدي إلى نفي شرعية الإحتلال وإلى نسف رواية وجوده القائمتين أصلاً على التزوير والقوة وحدهما، فالهوس والهستيريا اللذان يتلبسان جنوده بمجرد رؤيتهم علم فلسطين يؤكدان هذه الخلاصة، الخلاصة التي تُخطئ كل من يعتقد بإمكانية حدوث صراع أخلاقي داخلي فيما بين الإحتلال بجوهره الإستعماري وبين شرعية وجوده، فالاحتلال والأخلاق خطان متوازيان لايمكن لهما أن يلتقيا بحالة من الأحوال إلا عند خط الصراع والمواجهة المباشرة.
إن أخلاقية الثورة وحق المقاومة المشروعة في الدفاع عن الوطن والنفس تُبقيان باب المواجهة مفتوحاً على مصراعيه مع “شرعية” القوة الإستعمارية، فإذا كان الإحتلال لاينتج سوى الظلم والإضطهاد، ولا يمكن له أن ينتج غير ذلك، كماالذئب الذي لايمكن له أن يلد حملا، فهذا يعني بأن الإحتلال لايُهزم ولايتراجع عن عدوانه وطغيانه إلا بفعل الثورة وضربات المقاومة باعتبارهما النقيض الطبيعي المستند إلى قوة الحق في مواجهة حق القوة.
باختصار، وبعيداً عن الكلام الدبلوماسي، والمجاملات السياسية التي لاتفيد في مثل حالتنا الفلسطينية، تؤكد كل الأحداث التاريخية بأنه من المستحيل أن تكون صهيونيا–بما في ذلك الحد الأدنى من الصهيونية الذي تدعيه بقايا اليسار- دون أن تكون عنصرياً، خاصة عندما تتعلق المسألة بحقوق الشعب الفلسطيني وثوابته، وكل من يهادن الاحتلال أو يطبع معه أو يحاول التعايش معه، ينحاز تلقائياً لجهة الظلم والإضطهاد والعنصرية، ويصطف معها ضد القيم الأخلاقية والإنسانية التي يدعيها العالم ويتبناها في مواثيقه وشرائعه الدولية، فمن يرفض مقاومتنا للإحتلال ويُدينها، عليه أن يتفضل مشكورا، ويدلنا على طريق آخر للخلاص من عذابنا المتواصل على مدار أربعة وسبعين عاما.
وسنصنع له بيتا في قلوبنا وتمثالا في ساحات وميادين كل مدننا وقرانا المهجرة.. فطوبى لأيقونة الإعلام الوطني، وسيدة الكلمة النزيهة والحرة في ذكرى وداعها الأربعين، وسلام على روحها الطاهرة التي تمددت على مساحة فلسطين التاريخية، وأعادت لها هويتها الجامعة التي تقلصت وانحسرت بفعل الآداء السياسي الخاطئ إلى هويات محلية ممزقة.