كيف نقرأ السنن ونفهمها؟
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
لا يقرأ السنن ويفهمها إلا ذوو العقول الحاضرة، الذين استجابت نفوسهم وفطرتهم لهذا التعليم الإلهي المنزل، يحذرهم ويعلمهم ويزكيهم.. ينقل لهم أخبار الأمم من قبلهم، وأخبار القرون الأولى وأسباب الهلاك والتمكين؛ ولا يرقى مصدر بشري أن ينقل هذا النقل بتفصيله وإجماله وتحقيقه أبدا؛ بل لا يلحق هذا المصدر الظن أو الشك أو التخييل، ولا يعرف أساطير الأولين، ولا يأتيه الهوى، ولا الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إن القرآن مصدر تاريخي محقق بجدارة لا يقبل القدح، ولا يحتمل الظن؛ بل هو من لدن عليم خبير، ولذا كان لزاما على البشرية أن تقرأ هذا المصدر التاريخي للاستفادة والعلم وتدوين الحقائق التاريخية، كما وردت دون زيادة أو نقصان، فلن يُحرم الاستفادة والتزيّد منه علما ودراسة من كان مؤمنا به أو غير مؤمن، لأن التاريخ علم يختص بالبشر جميعهم مؤمنهم وكافرهم، عالمهم وجاهلهم؛ “كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا”، فهو يحكي قصة الخلق من لدن السموات والأرض ثم مرورا بالإنسان الذي جاء متأخرا، فالأولى قد طرق بابها علماء الفلك والفيزياء الفلكية والمهتمون ببداية الخلق (البيج بانج)، والثانية اختصاص علماء (الانثربولوجيا) وهو الذي يبحث في مراحل الإنسان الحياتية والخلقية وانفعاله مع الكون من حوله، وأطواره الحضارية والعلمية.
كما تعرض القرآن لمراحل خلق الإنسان بالتفصيل، الخلق الأوليّ ثم التناسلِ عن طريق الأصلاب والأرحام، وأطوار التكوين الجسدي، وأثبتها في سورعديدة نذكر منها: “المؤمنون، وسورة الحجر، والسجدة”.. وغيرها، ثم أتى على التكوين النفسي في أكثر من موضع مثل سورة “الإنسان والقيامة والشمس وضحاها، وسورة يوسف، والفجر” وغيرها.. كما ذكر أخبار الأنبياء مع أقوامهم بالتفصيل والإجمال، لا ينقض بعضه بعضا، ولا يعارض بعضها بعضا رغم تعدد الموطن وأسلوب السرد والاختصار والتفصيل والإجمال، لم يستطع كائنا أن يقع بعينه أو قلبه على تعارض أو تناقض؛ إنما كان مكملا بعضه بعضا ومؤيدا بعضه بعضا.
وقد ذكر من أسباب إهلاك الأمم على سبيل المثال لا الحصر، التكذيب بالرسالات، والإصرار على الإقامة على الشرك وميراث الآباء الكفري، والجحود والتنكر لنعم الله على خلقه، وصرفها في غير ما أمر ورضي، والسرف والترف، والبغي بغير الحق، وإيذاء أنبياء الله ورسله، وكذا فساد الأخلاق وانتكاس الفطرة البشرية التي فطر الله عليها عباده، من فطرة التوحيد والخلق القويم كما فعل قوم لوط الذين أرادوا إخراج قوم لوط من قريتهم لأنهم أناس يتطهرون، بعد أن جاهروا بالفاحشة وأقاموا عليها، وحاربوا نبي الله الذي جاء يدعوهم إلى التطهر والإقلاع عن فحش القوم والعمل.
وقد عد القرآن هذا العمل من الإجرام والإفساد في الأرض، كما جعل عاقبة تطفيف الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم من دواعي الفساد في الأرض كما كان مع قوم شعيب، حين دعاهم نبيهم إلى إيفاء الكيل والميزان بالقسطاس المستقيم، وعدم بخس الناس أشياءهم، فقال “ولا تعثوا في الأرض مفسدين” .. وأن ما عند الله من العوض في البيع والشراء والكيل الصحيح ما يقنع النفس السوية من الكسب الحلال والأكل الحلال، فضلا أن يسود السلام النفسي والاجتماعي والأخوة الإنسانية بين البشر وبعضهم، وهو الذي منه صلاح الكون والأرض بالتبعية.. فكل خلق فاسد منهي عنه فهو مأمور بضده؛ وكل أمر بالتوحيد هو في مضمونه نهي عما يخالفه من الشرك، ولذلك جاءت الدعوة مع سائر الأنبياء “اعبدوا الله ما لكم من إله غيره”.
غير أن القرآن قد أعقب قصص الهالكين في أكثر من موضع بقوله “فانظر” ، وإن كان في هذا ثمة دلالة فهي أن القصص لم تكن للتسلية أو التفكه، أو اجترار حوادث الماضي، أو التعجب كما جاء هذا التوبيخ في سورة النجم الذي حمل في طياته تهديدا ووعيدا حتى سجد النبي والمؤمنون، وسجد المشركون طوعا أو كرها لشدة وقع الآية عليهم، وخوفهم من نزول العذاب بهم “أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)[النجم]”؛إنما كانت القصص للاعتبار للمعتبرين، والوعيد للمعرضين، والتسرية للمقهورين .. فهو وإن ذكر مواضع إهلاك السابقين وأخبارهم فإنه أراد أن يوعظ أصحاب المنهج القادم في التمكين بأن السنن لا تعرف المحاباة ولا التفرقة؛ إنما هي ماضية على جميع الخلق برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم في التمكين والإهلاك ؛ كما أن فيها إيعاز بالتمسك بالصبر والعض بالنواجذ على المنهج المنزل لأنه هو منطلق التمكين وعدة الاستمرار والانتصار، والملاذ الآمن حين تدلهم النوازل وتكشر عن أنيابها الحوادث.
ذكر القرآن مناط الاعتبار والتعلم في كل موضع ربما قبل ورود القصة ، أو بعد ورودها .. فقال في نجاة لوط وأهله، وهلاك قومه “فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)”[الأعراف]،
وفي قصة موسى مع فرعون ” ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)”[الأعراف]، وقال تهديدا لكفار قريش الذين مضوا على سنن الهالكين المكذبين الظالمين من قبلهم “بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)”[يونس].
وجاء في قصة نوح مع قومه الذين لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فما كان هذا ليغنيهم حتى يؤمنوا، وما كان طول الأمد هذا مانعا لهم من العذاب، بعد أن أقاموا على الكفر زمنا طويلا ولم يجد نبيهم أملا أن يخرج من أصلابهم إلا فاجرا كفارا “فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)”[يونس].. وأما قوم ثمود الذين عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، ثم أرادوا أن يبيتوا لنبيهم ليقتلوه إمعانا في الكفر، واستمراء في الكبر والجحود فكان جزاء مكرهم كما ذكر القرآن “وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)”[النمل].
ثم نعى القرآن على هؤلاء الغابرين الذين ألفوا آباءهم على حال بينة من الضلال والكفر فلم ينزعوا عما علموا ضلاله، ولم يكلفوا عقولهم أن تتوقف حتى تتبين الحق من الباطل والخبيث من الطيب، فهرعوا إلى اتباع الهوى في آثار الآباء وباطلهم، رغم علمهم بما ألم بهم من الإهلاك والإبعاد ، وما حاق بهم من العذاب وقد كان أحرى بهم أن يسعوا في نجاة نفوسهم، وأن يتوقفوا مع دعوة الأنبياء التي جاءتهم فيعلموا صدقها فيؤمنوا “إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)”[الصافات].
تلك من لطائف السنن التي أحاطت بالكافرين والمفسدين من الأمم؛ لكن هناك من السنن الإلهية ما لا يحصيه العدد ولا يحيط به الحصر، وإن كانت هذه أخبار الهالكين فهناك من السنن ما يقع على المذنبين والمقصرين، وأصحاب المنهج الذي تراخوا عن أخذ منهجهم بقوة كما أمروا ، واستمرأوا ترف الحياة وزخرفها فحاق بهم ما حاق بأمثالهم.