يوميات كورنيش الإسكندرية.. صلاة الغائب على الكورنيش (١٤)

يكتبها: محمود عبد المقصود نائب رئيس تحرير الأهرام

فى النصف الاول من ثمانينيات القرن الماضى كانت لى قصة رومانسية ضمن عشرات من القصص التى كنت ومازلت أعيشها بخيالى دون أن يكون لها أى شاهد فى الواقع  فأنا دوما عاشق للجمال وكل قصص حبى هذه تولد مبتسرة وتموت مجهضة فكلها تبدأ وتنتهى بداخلى دون أن تشعر محبوبتى ببركان عواطفى !!
وفى واحدة من تلك الملاحم كانت محبوبتى غايه فى الرقة والروعه والأنوثه والجمال.. اقتحم حبها قلبى دون أى ترتيب ودون أن أدرى عندما اكتشفت  أن شيئا ما ينقصنى بمجرد أن مغادرتها لمجلسى.. وسرعان ما كبر حبها عندى حتى أتانى قلبى يحدثنى يوما  بضرورة الاعتراف لها.. إلا أن عقيدتى ومنظومتى الأخلاقيه والوازع الدينى الفطرى المتراكم  بداخلى كانوا  يمنعوننى دوما من الإقدام على هذا  من منطلق أنه ليس لى الحق فى أى امرأه إلا بشرع ربى!!
ومضيت أكتم عشقها فى قلبى عجزا.. حتى أننى ظننت يوما أن ما أصابنى بعدها من أعراض مرضية كان بسبب حزنى على فقدها!!  وتحاملت على نفسى حتى طرأت على جسدى متغييرات  صحيه لم أشعر بها من قبل..  الأمر الذى جعل أمى تلح  على أبى أن يصحبنى لطبيبه الخاص ..
كانت عيادته بمنطقة الإبراهيمية.. وبالفعل ذهبت مع أبى وأثناء انتظرنا للكشف انتابتنى هواجس عبيطة تقول لى إن الطبيب سيفضح أمرك أمام والدك وأنه سيتمكن بسماعته الطبية  أن يعرف حكاياتك العاطفيه وإن دقات قلبك ستفشى حتما سرك!!
ودخلنا غرفة الكشف وراح الطبيب يفحص ويطيل الفحص ويطلب سماع ظهرى وراح يسألنى أسئلة كثيرة ويسأل والدى عن طفولتى وبعدها اتجه لمكتبه وسمعت همس والدى معه والهلع يمتزج نبرات صوته.. وارتديت ملابسى ولحقت بهما لأسمع صوت الطبيب قائلا: كل اللي عندى احتمالات تحسمها الفحوصات ومد يده على دفتر الروشتات الصغيرة الموجودة بأقصى مكتبه وراح يكتب حروف مختصرة وغامضة لفحوصات طبية تحسم له شكوكه التى راودته .. واستلمها أبى منه  بينما أنا أتابع المشهد  وكأنى  لست  الطرف الرئيسى فيه..
وخرجنا من العيادة ويد أبى تلتفنى من وسطى وعيناه تلمعان وكأنه يريد أن يمسك بى بجواره  من مجهول  يتربص بى  ليتخطفنى منه ..وحل الصمت بيننا فى الطريق  وعلى غير عادته نسى لأول مرة أن  يعزمنى  على عصير المانجو الذى اعتاد عليه معى كلما خرجت معه وعدنا لمنزلنا ووجه أبى يكاد  يفضحة ..
والغريب أن أمى  استقبلتنا بثبات ويبدو أنها قرأت الموقف بسرعة بديهتها فلم تتحدث فى أى شئ واصطنعت لنفسها عملا بالمطبخ .. بينما أخبرنى والدى بأننا سنذهب فى الصباح  لإجراء الفحوصات المطلوبة وبالفعل أتممناها وذهب والدى لاستلامها فى اليوم التالى ومن مركز الأشعة طلبنى  على هاتف منزلنا للحاق به  بعيادة الطبيب ..
كان اليوم فى منتصف يناير و كانت السماء تأتى من أعماقها والرياح تعوى بشوارع مدينتنا الخاليه من البشر فالمحلات أغلقت أبوابها والأشجار تميل على جانبيها استسلاما للريح العاتية واللافتات تتساقط فى نهر الطريق وظننت أننى لن أجد الطبيب بعيادته إلا أن أمى  أخبرتنى أنه يسكن فى الطابق العلوى للعيادة والتى بمجرد أن طرقت بابها وجدت أبى فى انتظارى ليتكرر المشهد الدراماتيكى ثانية فى غرفة الكشف إلا أن خيالى الواسع لم يسعنى وقتها لتخيل المجهول الذى يرتبه لى القدر ..
فالطبيب فحص الأشعه بدقة متناهيه وبحلق بعينيه فى تفاصيلها  ثم  طلب سماع صدرى  ثانية.. بعدها عاد مصطنعا لابتسامة زائفة وقال لى البس هدومك .. وبينما هو يدير ظهره لسرير الكشف قال لوالدى ابنك حوده قلبه كبير قوى.. وراح يشرح له  أن صمامين بالقلب فى حالة ضيق أحداهما شديد والأخر محتمل وقد أدى ذلك لتضخم بعضله القلب والعلاج الوحيد بل والحتمى جراحة قلب مفتوح  لتغيير الأورطى على الأقل .. هنا ضم  أبى شفتيه  واغمض عيناه  وهما اشد تعبير له عند الشدائد الامر الذى جعلنى اتلهف على ابى وأغشي عليه من  الحزن علي وهذا ما دفعنى لمجادلة  الطبيب بجهالة مقصودة.. يا دكتور انا كويس خالص وعمرى كله ما اشتكيت بل أنا منذ نعومة أظافرى وأنا  ألعب الكرة فى كل شوارع الإسكندرية وعندما اشتد عودى التحقت للعب مع ناشئي النادى الأوليمبى بعد اجتيازى  لاختبارات عنيفة ولعبت لعده أشهر ولم يمنعنى من الاستمرار معهم غير شوية تعب بالمفاصل واتعالجت منه ..
وهنا قاطعنى الطبيب
وقال أنت متعالجتش كويس وده السبب للمرحلة إللي أنت فيها دلوقتى !!
فنهض والدي وشكر الطبيب وهو يلملم الأشعة والفحوصات وقبض على يدي قبضة شديدة لم أستوعب معناها حتى الآن وعلى باب العيادة بادرته و قلت له إننى بحاجة للذهاب إلى البحر فنظر لي منزعجا ومندهشا وكأنه يقول لى أنت اتجننت، ولكنه استسلم لرغبتى، وقال  زي ما تحب
.. وخرجت مهرولا فى الشوارع الخالية .. لا أعرف أأبكى أم أصرخ  أم ماذا أفعل .. وحملتنى قدماى لكورنيش مدينتنا الساحرة.. ولم أندهش كثيرا عندما وجدت أهلها  يصطفُّون عليه يتملقون تفاصيل بحره الغامض.. لم أدرِ حينها هل قدم أهلها إلى هنا  ليقدموا طقوس المطر وتراتيل الشتاء أم إنهم يتأهبون لصلاة الغائب ليشيعوا رفيقا لهم فى العشق والحب والخير والجمال!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى