ثقافة المقاومة تنافس لاكتساب العقول
سعيد مضيه | فلسطين
الحالة الفلسطينية موسوقة بالتعقيدات: من جهة يجري التركيز على التحرير من النهر الى البحر، إسرائيل دولة إمبريالية تتجاوز أطماعها فلسطين التاريخية، تقودها حركة صهيونية امبريالية أضمرت منذ البداية تصفية الوجود العربي بفلسطين ولا تقبل التعايش مع سكان البلاد الأصليين، حتى ولا الإقرار بإنسانيتهم. حقا ، فالنظام السياسي في إسرائيل نظام أبارتهايد مكشوف، خاصة بعد إقرار قانون دولة إسرائيل القومية، يقوده حزب فاشي برئاسة فاشي ناشر للكراهية العرقية والتحريض ضد الفلسطينيين، يحظى بمساندة المحافظين الجدد بالولايات المتحدة ويتمتع بدعم شخصي من جانب ترمب الذي وصفه تشومسكي ” أخطر مجرم في تاريخ البشرية”. الصراع مع الصهيونية صراع وجود لا حدود.
حيال الخطر الوجودي نجد في الوسط الفلسطيني من يعول على الكفاح المسلح وحده، وكل شيء يتقرر، في نظره، من فوهة البندقية، وحاليا من رأس الصاروخ. تكونت في القطاع ظروف مكنت فصائل مسلحة من التعايش مع الحصار وتنمية القدرات التسلحية الرادعة لعودة الاحتلال الإسرائيلي دون أن تمنع هطول قذائفه الصاروخية على البيوت وتدمير المدارس والمشافي وورش الإنتاج الزراعي والحرفي، ودون منع جرائم القتل الجماعي . يقتصر سلاح الفصائل على منع إعادة الاحتلال لقطاع غزة، وهذا إنجاز في حد ذاته؛ غير ان الحوارات المكثقة على وسائل الإعلام لممثلي الفصائل المسلحة لا توضح متى وكيف يتم الانتقال الى التحرير الشامل، وإلى متى الثكنة العسكرية بالقطاع المحاصر ستظل تحظى بالالتفاف الشعبي، دون أن ترى الضوء في نهاية النفق.
سلاح غزة لا يردع العملية المتواصلة بالضفة لنهب الأراضي وتوسيع المستعمرات، وهي عمليا ضم منهجي، ناهيك عن هدم البيوت السكنية وورش الزراعة والصناعة بالضفة. في الضفة يتم الانقضاض بسرعة خاطفة على كل نشاط مسلح، وأمكن في الآونة الأخيرة، كما أفادت الصحافة الإسرائيلية ، إحباط عمليات مسلحة ضد الاحتلال. من جهة مقابلة تفتقد الفصائل والسلطة الوطنية خطة للتحرير الشامل، ولا حتى خطة لنجدة المزارعين حول جدار الفصل العنصري. على المنابر الإعلامية تطرح القضية الفلسطينية قضية اضطهاد عنصري واحتلال اقتلاعي؛ ينضوي تحت هذا المفهوم العام محن مئات المزارعين في الضفة والقطاع. مئات المزارعين ورعاة الأغنام في مسافر يطا والأغوار وسكان أحياء سلوان بالقدس ووادي قانا في دير استيا وأراضي جيوس وقلقيلية وعزون العتمة والقرى المحاصرة بالجدار.. حملة مسعورة تنزل عذابات يومية بالمزارعين ولا يستطيع احد تقديم العون ، حتى التنسيق الأمني لم يشملهم مع مزيد الأسى.
يقول ماركس أن “البشرية لا تطرح على نفسها إلا المسائل التي تقدر على حلها، إلا تلك المسألة التي باتت شروط حلها متوفرة”. المجتمعات تطرح القضايا الناضجة للحل، حيث تتوفر داخل المجتمع وسائل الحل.
فهل من المنطق أن نركز على التحرير الشامل، حيث لم تتوفر شروط إنجازه، لنغعل أو نتغافل عن استيطان يبتلع الأراضي بدون اجتراح أسلوب مقاومة ناجعة؟ بموجب قانون قومية الدولة الإسرائيلي، “تعتبر الدولة تطوير استيطان يهودي قيمة قومية، وتعمل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته”.
بعد تقصي تجربة الثورات الوطنية المسلحة الناجحة في كل من فيتنام والجزائر وكوبا نجد قيام تغذية وتغذية ارتجاعية بين الكفاح المسلح وجمهور الشعب؛ الكفاح المسلح استنهض حراكا شعبيا راح يغذيه باضطراد مثلما يتغذى منه. تغذية وتغذية ارتجاعية منحتا الكفاح المسلح طاقة الصمود والاستمرارية في تحد للعنف المضاد، وأكسبتاه دينامية التطور الى قوة غلابة جرفت الاحتلال الأجنبي الى مزبلة التاريخ. ونظرا لطبيعة القيادة تطورت الثورة الوطنية الى ثورة اجتماعية في كل من فيتنام وكوبا؛ بينما دخلت الجزائر متاهة المصالح الأنانية. الكفاح المسلح الفلسطيني هزم في الأردن نظرا لعزلته عن الجمهور الأردني لعوامل لا مجال لذكرها؛ ثم أبعد من لبنان لضعف التواصل مع الجماهير اللبنانية، خاصة في الجنوب.
أما المقاومة في لبنان فقد استقطبت الاحترام الشعبي الواسع نظرا لطرد الاحتلال من لبنان؛ وفي نفس الوقت غطت على أنشطة لصوصية نهبت لبنان وافلسته بالكامل.
وبدلا من مد اليد الى الانتفاضة ضد حكم اللصوص الطائفي وضعت نفسها في الخط الأمامي للدفاع عن نظام اللصوصية!! قلوبنا على تجربة ماجدة تجري المقامرة بها في سياسات الطائفية واللصوصية التي لم ترتدع رغم ما ألحقته بالوطن اللبناني.
وثورات أخرى في إفريقيا واميركا اللاتينية، انفجرت كرد فعل للسيطرة الإمبريالية أو طغيان الأنظمة الديكتاتورية أمكن عزلها عن مجموع الشعب وفقدت القدرة على إنجاز مهامها، انطفأت جذوتها او تواصلت في الأماكن النائية، عاجزة عن التفاعل مع الجماهير المقهورة . شاع في الأوساط الرجعية في أميركا تعبير تجفيف البحر، ردا على شعار الثوريين اننا سمك يعيش في بحر الشعب. وبالفعل اتخذت إجراءات قمعية شرسة في المناطق المرشحة لإيواء الحركات الثورية. وتلعب الثقافة الرجعية أدوارا في تضليل الجماهير الشعبية وإبقائها احتياطيا لها. الثورة تغيير بالعقول والمفاهيم والقيم؛ اما حمل السلاح وحده فلا يشكل ثورة.
الكفاح المسلح، لكي يتواصل حتى إنجاز الهدف التحرري الثوري، مشروط بحراك شعبي متنام ومستدام. وفي المرحلة الراهنة بات الحراك الشعبي المتعاظم بحد ذاته أسلوبا ثوريا للتغيير التحرري، يمكنه إرباك أجهزة السلطة القمعية وتعطيلها .
وسواء صدّق البعض هذا الاحتمال أو رفضوه ، يستحيل إحداث التغيير بجماهير هاجعة مستكينة ومستسلمة .
نخرج بنتيجة خلاصتها أن رفع منسوب الوعي الشعبي من خلال تصعيد الحراك الشعبي بات ضرورة ملحة.
المقاومة الشعبية هي الرافعة الوحيدة المتوفرة بالضفة الغربية والأداة الاجتماعية الوحيدة التي يمكن توفيرها لردع الأبارتهايد الصهيوني الاقتلاعي. المقاومة الشعبية بطبيعتها تستقطب تضامنا شعبيا على الصعيد الدولي، الذي بات له تأثيرات سياسية رادعة وغلابة بالنسبة للقضايا العادلة، سيما وأن بشاعة نظام الأبارتهايد أكدت عدالة قضية الشعب الفلسطيني، قضية إنسانية باتت مدركة على نطاق واسع.
بات من الضروري مأسسة التفاعل المخصب مع الحركة الدولية للتضامن مع العدالة في فلسطين.
أظهر مثال حركة الزنوج داخل الولايات المتحدة أن جريمة قتل جورج فلويد التي راقبها العالم بالصوت والصورة قد أشعلت حراكا شعبيا بمنحى طبقي إلى جانب تضامن دولي عرّف العلم بمحنة السود داخل النظام العنصري الأميركي.
القيادة الوطنية بالضفة تواجه مهام ثقافية بالدرجة الأولى؛ ضمن جدول أعمالها المباشر مهمة توفير شروط الصمود الشعبي من خلال التربية السياسية المتفاعلة مع العون المادي والمساندة للمزارعين المهددين في أرزاقهم ومصادر معيشتهم.
المقاومة العفوية التي يمارسها رعاة الأغنام والمزارعون ينبغي أن تطعم بوعي وطني يدخل هموم المزارعين ومربي الماشية ضمن الهم الوطني العام، ويحيل كل مقاومة لمشاريع الاحتلال جزءًا من مقاومة وطنية شاملة.
ينبغي نقل تفاصيل معاناة ضحايا الأبارتهايد الإسرائيلي الى العالم وإحساس الضحايا انهم موضع تضامن الضمائر الحرة في العالم كله. وفي نفس الوقت ينبغي على الكوادر الحزبية ان تنقل للجماهير أساليب وسبل التصدي لإرهاب الدولة العنصرية.
المقاومة الفلسطينية محاطة في الوقت الراهن بأنظمة أبوية تحدرت من العصر الوسيط. اضطهدت الأنظمة الأبوية شعوبها ومارست أساليب نهب لصوصية ضد المجتمعات المبتلاة؛ وكلما ادلهمت الخطوب يعجل الخطاب الديني بفبركة حديث عن الرسول “يجيء على أمتي…!!”، فيغدو الجور قدرا لا مفر منه. طوال العصر الوسيط بمظالمه التي فتتت المجتمعات وأطفات معالم الحضارة كان الخطاب الديني المخدة التي تخفف وقع الكوارث والنكبات.
ومن جهة أخرى تكررت حالات اغتصاب السلطة من قبل قطاع طرق وخارجين على القانون فيهب الخطاب الديني يزور على لسان الرسول أنه يشفع لأمته ويقيها عذاب النار.
على مدى العصر الوسيط تواصلت نسخة مشوهة وزائفة للإسلام. وفي العصر الحديث تمنع سلطوية النظام الأبوي تجذر العقلية العلمية في الشخصية العربية، فملأت فراغ المعرفة العلمية بالخرافات وبالسحر والشعوذات بها تفسر الظواهر، واحيانا تلوذ بتدين شعبي ذي نزعة جبرية حتمية؛ الدولة ذات النظام الأبوي المحدث بغض النظر عن بناها التشريعية والسياسية وأشكالها، ليست سوى سلطنة قديمة محدثة، جرى تحديث أجهزة القمع ومراقبة الجمهور وفق أرقى مستويات العلوم والتكنولوجيا. الأبوية تهدر المؤسسات والثروات لإشباع نزواتها؛ السيد الأبوي يجحد إنسانية القاعدة الاجتماعية المقهورة، يفقد التعاطف مع المعذبين في الأرض والإحساس بمعاناتهم وآلامهم، ومخاوفهم وحاجاتهم.
ليس سهلا انتزاع المفاهيم المشوهة للدين؛ فالثقافة المسيطرة تخضع عقلية الفرد لقيمها وتضلله على أعمق المستويات.
ومن تجربة أكاديمي متميز ، مثل الدكتور هشام شرابي، يؤكد أن تحرير ذهنه من الأفكار البرجوازية ” سرعان ما اكتشفت ان تحقيق هذه الخطوة ليس امرأ سهلا وإنما هو في غاية الصعوبة. إذ ان التحرر الذهني يتطلب عملية غسل دماغ جذرية وطويلة المدى، وإعادة نظر في جميع ركائز الفكر الموروثة، والمستمدة من الثقافة المهيمنة، وإخضاع هذا الفكر لنقد مستمر”.
ضمن هذه الظروف المحبطة تلقى على عاتق قوى التغيير الاجتماعي مهمة جسيمة تتطلب المثابرة والنفس الطويل، وعليها ان تمد اليد للقوى النظيرة في المحيط العربي، كي يكون النهوض شاملا. كشف وباء كوفيد19 عن ظاهرة إنكار علاقة السببية لدى محاكمة الأمور. وفي قضية تحتمل الموت نجد التسيب والتفلت من القوانين والتوجيهات، ما سبب الإفراط في الخسائر البشرية.
إن اجيال الشباب ممن انهوا المدرسة الثانوية والجامعية لا يقرون بقانون السببية؛ والعملية التعليمية، بذلك، مشكلة وليست الحل.
وهذا يوجب على الأحزاب المضطلعة بالتغيير أن تصر على تعليم نقدي يشيع ثقافة نقدية وإعلاما نقديا. وما زالت أحزاب اليسار تتهرب من حمل الرسالة.
واقعية الماركسيين تتفهم جيدا أنه من الخطأ الفادح الخلط بين الطريقة التي يرى بها الثوريون الأمور وبين مستوى وعي الجماهير.
يتمثل كامل فن بناء الحزب الثوري وترسيخ جذوره بين صفوف الجماهير على وجه الدقة في معرفة كيفية الربط بين البرنامج الماركسي العلمي الكامل وبين وعي الجماهير الذي هو بالضرورة غير مكتمل ومشوش ومتناقض.
لا يجوز للحزب الثوري أن يصدم الجماهير في قناعاتها، وفي نفس الوقت تقتضي رسالته الاجتماعية تنقية الوعي الاجتماعي من كل ما يضعف النشاط السياسي للجماهير الشعبية.
من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي تستهل المهمة بتفكيك العقد النفسية للجماهر والمترسبة عبر قرون متتالية من القهر والهدر.
يتطلب تفكيك عقدها النفسية أولا كي تلتحق بركب المجتمع الصاعد نحو التحرر من قيود التخلف الاجتماعي والسياسي، والانضمام إلى البشرية المتحضرة. لا بد من تغيير يطيح بالأنظمة الأبوية وبكل ما خلفته من إعطاب روحية وعقلية هي منبع الشذوذ والتخلف عن ركب الحضارة، يستبدل باستشراف الديمقراطية الثورية هدفا استراتيجيا.
ذلك هو الهدف الاستراتيجي لا يختلف عليه عاقلان. ولا يختلف أنصار العقلانية في السياسة بصدد دور الحراك الجماهيري في إحداث التغيير، يحطم قيودها ويبدد حيرتها ويطهرها من عقد القهر.
في خضم النشاط العملي للتغيير تجري عملية ترقية الوعي الاجتماعي. والعملية جماعية وليست فردية؛ فقد أثبتت التجربة أن التثقيف الجماعي اشد رسوخا بالنفس وأكثر قابلية لأن يتحول الى فعل تغيير. خلال هذه العملية يتزود حزب التغيير بثقافة فكرية وسياسية تمكنه من تحليل الظواهر المستجدة وتقديم الإجابات الصادقة والشافية على تساؤلات الجمهور فيكتسب ثقته. تتجلى من ثم وحدة النظرية والممارسة.