الكاتبة التونسية سميرة بنصر و محمد المحسن (وجهًا لوجه)
القصيدة عندي تدوين لحياة البشر،للألم وللخذلان، وللفرح المقبور منذ أزمنة بعيدة، ورثاء لحب مغتال..” قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الكتّاب الحقيقيين يشتغلون بشكل دائم، في رؤوسهم وفي نصوصهم، على آليات الكتابة التي يقيمون فيها كتأملات وتقطيعات خاصة للعالم. وهم بذلك الصنيع، يرقبون الحياة والوجود من نقطة دقيقة بمثابة فتحة بابهم المكتظ بالأسئلة والإشتغال الدؤوب.
سميرة بنصر واحدة من هؤلاء، تشتغل بحرقة في الكتابة الإبداعية بمختلف تجلياتها (شعر، نثر، قصة قصيرة..إلخ) لتأسيس نفس وخيار جمالي، له تسويده وتقطيعه ونظره الخاص ليس للحياة فحسب، بل للنص الإبداعي نفسه الذي يغدو مرتعشا في يدها وزئبقي وشفيف المرايا إلى حد الكسر في الرّوح.
هذه المبدعة التونسية (سميرة بنصر) تؤسس لمشهد أدبي متميز، عبر استمرارية وصيرورة ذات قيمة انتمائية فذة،حيث تبيح لقلمها، لرؤاها ورؤياه،متعة التحليق في الآقاصي لتأثيث عوالم بعيدة، باحثة من خلاله عن ممرات دلالية وصورية ومديات بلاغية روحية لكونها الشعري والقصصي اللامحدود،وخالقة عبر توظيفاتها متعة دلالية، ولذة تصويرية حركية، لتمارس فعلتها الكينونية الإبداعية، حالمة بولادة جديدة في رحم النص الإبداعي.
وأنا أضع يدي على بعض منجزاتها الإبداعية..أحسست، بعد تمحيص ونظر، أنّ المبدعة التي أنجبتها ولاية بنزرت ذات زمن أوغل ليله في الدياجير، تكتب وفق استراتيجية في الكتابة الإبداعية.
ولذا وجب- في تقديري- لفت النظر بدقة لكل الآليات والتقنيات المستعملة وفق وعي جمالي ونقدي ملازم. وإذا حصل، سيتم تقليب صفحات نصوصها الشعرية خاصة،تلك النصوص- الخصبة -، مثلما نقلب المواجع الرائية، لأنّ الألم في الكتابة،له بكل تأكيد، ينابيعه الخلاقة التي تغني نهر الإبداع الإنساني بالإضافات العميقة والجميلة.
وهذا يعني أنّ نجاح المبدعة التونسية سميرة بنصر في جل منجزاتها القصصية أو الشعرية متمثّلة في عدم سقوطها في الإرهاق اللغوي، فهي تملك لغته وتعرف كيف تتلاعب بها ومعها،وتبدو رؤية الشاعرة واضحة، واعية تماما لطروحاتها ككاتبة بالدرجة الأولى، وكفنانة تعشق الرسم بالكلمات في الثانية، ففي نصوصها تحاول الإنفلات من عقال ذاتها والإنفصال عنها لصالح المحيط، والعبور من الخاص باتجاه العام والإنساني.
حين سألتها عن آفاق وتجليات الكتابة الإبداعية في- زمن فقدنا فيه الطريق إلى الحكمة؟
إكتفت بالقول: ”الكتابة الإبداعية لا تنطلق إلا من دوافع خاصة، أو هذا ما أفترضه دائما، لكني لا أسأل نفسي في كل مرة وأبحث فيها عن دوافع الكتابة لدي، فالكتابة – في تقديري- شكل تعبيري مثل الرسم والموسيقى والنحت وغير ذلك، وتحتاج إلى وعي كبير بالذات، وإلى قدرات أخرى بطبيعة الحال، ثم تكون هي نفسها أداة تعبيرية عن ذلك الوعي وسبيلا لتطويره. كما قد يكون أيُّ نتاج للكتابة بحثا عن ذات يُفترض أنها موجودة على نحو ما. والقصيدة – مثلا – عندي تدوين لحياة البشر، للألم وللخذلان، وللفرح المقبور منذ أزمنة بعيدة، ورثاء لحب مغتال.
وبسؤال مغاير سألتها: ”لقد تمرسنا في صناعة الأمل، ولولاه لقضينا حزنا و كمدا”، كان قد أخذنا لنفس السياق الكاتب الروسي ”دوستويفسكي” منذ أكثر من مائة عام ليؤكد أنه ”أن تعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة”، لماذا هذا الإجماع على قدرة الأمل في مجابهة واقع لطالما تساءلنا عن جنسيته ضمن حدود أحلامنا؟
فأجابتني محدثتي سميرة بنصر:”يبدو أنّه علينا أن نخلقَ معادلاً موضوعياً لأزماتنا،الأمل يشكّل هذا المعادل الموضوعي.هذا من جانب،من جانب آخر فإنّ الأمل يحمل في طياته بذور الأمل التي ستنبت يوماً ما في حقول الألم، وشيئا فشيئاً ستتمدد تلك النباتات وهي تطرد أمامها الأشواك حتى تنظّف الأرض منها،وتحولها من أرض يباب إلى أرض مفعمة بعطر الأزهار.”أن تعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة”،سنرى أنّه أطلق مقولته تلك بينما كانت بلاده تعيش أصعب ظروفها،وبعد ذلك بسنوات شهدت روسيا “الثورة البلشفية”عام 1917، تلك الثورة التي غيّرت وجه روسيا والعالم لعدة عقود”.
ثم ختمت حديثي معها بالسؤال التالي:”في عالم الكتابة،إذا ما تطرّقنا لرأي الروائية الأمريكية”بيرل باك” بأن “”سرّ الاستمتاع بالعمل يتلخّص في كلمة واحدة،الإجادة”،أين نجد – المبدعة- سميرة بنصر- بين الاستمتاع و الإجادة؟
وكانت إجابتها:”من الصعب عليّ أن أصدر أحكاماً على ما أكتب، وبالتالي تصبح الإجابة على هذا السؤال خالية من الحيادية. بالنسبة لي أنا لا أتعامل مع الكتابة كشكل من أشكال الترف والتسلية،وإنما أتعامل معها بمنتهى الجدية، احتراما للكلمة، واحتراما للقارئ الكريم.
وفي المقابل لا بدّ وأن يرصدَ الكاتب ردود الأفعال على كتاباته علّ ذلك يساعده في ضبط اتجاه بوصلته.صحيح أنّ من حقِّ القارئ أن يحقّق قدراً من الاستمتاع أثناء قراءته، ولكنني لا أصرف جهداً في هذه المسألة، بل أصرف هذا الجهد في تطوير أدواتي الفنية، لتوصيل الرسالة التي أسعى إلى توصيلها للقارئ، مع التأكيد على ضرورة توفر الشروط الفنية بأعلى درجاتها الممكنة في النص. في هذا الصدد، أستذكر رأيا كتبته أنت في تعليقك على إحدى قصائدي مفاده أن “سميرة بنصر شاعرة وقاصة وكذا كاتبة ألمعية تمارس إكراهاتها على نصه. “
وإذ أسجّل إعجابي الكبير-بالإبداعات الشعرية والنثرية..- للكاتبة التونسية سميرة بنصرالتي تطمح دوما عبر كتاباتها الإبداعية إلى التطوّر والتجاوز، فإنّي أؤكّد على أنّ النص الإبداعي لن يخترق الحدود إلا بقوته الذاتية، كما أنّ حضور القارئ، بل حلوله، في الماهية الإبداعية الملغزة،هو وضع طبيعي يعكس انفتاح المبدع كإنسان على أخيه الإنسان، ويعكس انفتاح الكتابة الإبداعية الجديدة على العالم الحسي المشترك،والوقائع والعلاقات المتبادلة، وأيضًا على الأحلام والهواجس والافتراضات والفضاء التخيّلي غير المقتصر على فئة نخبوية من البشر دون سواها
ولنا عودة إلى المشهد الإبداعي للكاتبة الفذة – سميرة بنصر- عبر مقاربات مستفيضة.