عبير داغر اسبر | مونتريال
في عام قريب نسبياً، ولدت بخلل مناعي، ليس خطيراً لدرجة تسميته بالمرض، لكن بترافقه مع أي عارض غير ملائم كالرشح، كنت أصاب بهجمة على خضاب دمي، فيقلّ تعداده إلى رقم مرعب يصل لانحلال بالدم، أُلقى بعدها بالسرير مع آلام غرائبيتها ملهمة، في الرموش. ومنابت شعر الرأس.
تعايشت مع مناعتي الرهيفة، راهقت كالجميع، غضبت من مدّرستي، من والدي، غضبت من الله، من الموضة التي تركتني ورائها، نقمت على كل ما فيّ، أردت حلاً لتهالك مناعتي، أخبرني الجميع أن لا حل لتلك الآلام سوى بقبولها، حتى تيتا “رحمة” وهي تلاحقني بسطل الدبس، أصرّت أن داء جلبيرت ليس مرضاً، وعوارضه، مجرد حد أدنى طبيعي لخضاب الدم. وعليّ كي لا أحرّضه، أن أوقف السهر، أن أكل المزيد، أن أحصل على أوكسيجين من مناطق مرتفعة، والأهم وعلى الطريقة القبّانية “أن لا أحزن” وهذا ما فشلت به. وبقيت على حواف الدنيا للتعافي.
نتفاجأ بصورتنا عندما يحكي عنّها الآخرون.. مؤخرا سخر مني رجل ذكي إلى درجة اضطرت صديق للدفاع عن أناي الغائبة، ولأني أعلم أن في قاع كل سخرية درجة معينة من الحقيقة، ألححت كي أعرف فحوى النميمة، كي أرى صورتي في عيون النمّام، كي أضحك، أو أغضب حتى، وصلني ما حصل بدقة سفير نوايا حسنة، ثم أدركت بخيبة أن “الدسّة” طالت شكلي.
صورتي الكاريكاتورية كما رسمها الدسّاس لم تكن مضحكة، ولا مؤذية، كانت غبية وساذجة ومتوقعة جداً،من أكثر أشكال النميمة استسهالا فقد أنا أنتظرت الذكاء، و”الأحدهم” الدّساس اكتفى بالحد الأدنى من خدش الحقيقة، الحد الأدنى من السخرية.
عشت في الشام، في مدينة أوحت لقاطنيها أنها مركز الكون، بكتب تاريخها، بعمارتها المأهولة منذ أول الزمان، وبتبجح اعلامي امتص سُكّر المدينة العتيقة، وكذب عنها وبسببها، إعلامياً، تم تناسى حاضر المدينة واكُتفي بالتاريخ، نُسيت عشوائياتها، مجاريرها المفتوحة، بشاعة أبنيتها الحديثة، جامعاتها، جسورها، مشافيها، مراكزها الثقافية التي بنيت بهاجس أمني،فتحولت كتل اسمنت مغبر بلا هوية، سوى خوف من اقتحام ما، مدينة لم تفهم في عمارتها الآنية، معنى الجمع بين الجمال والخدمات، خدّمت البشر على عجل، وأبقت الجمال في حَده الأدنى “الطبيعي”
لكن عندما يغمرك الحب ويأكلك الحنين تتذكر الشام وتحبها، تنسى المتحدثين باسمها، تنسى الغضب قليلاً، تنسى مسلسلات البوجقة وشوارب الشرف معجونة بحفلات الطهور، تحلف أنك تعرفها، تحلف أنها “ليست كذلك” والرؤس المقطوعة على الشاشات الشامتة “ليست كذلك” والأحذية فوق الرؤس، مجرد خيال عابر في تاريخ البلاد، كل ما تراه “ليس كذلك” وتدافع عن ال “ليس كذلك”الذي يجرحك دوما في غربتك،وتحكي عنها ولها: الشام مدينة الليل، والعودة المتأخرةمن كل أمكنتها، من بيوت الأصحاب، من الأزقة، من بار أبو جورج، والطاولة الوحيدة للتعارف الاضطراري، في الشام تسكن الطريق حتى يفاجئك الفجر، فتجوع وتسند السكر العظيم في ساحة باب توما بصحون الفول والفتة مع آذان الفجر في الجامع القريب.لكن بعد أن يطيح بك الحنين، تتمهل قليلا وتسحقك الذاكرة، تتوقف بتّأمل لا ترغب به لكنه لا يفارقك، تلعب الذاكرة لعبتها وتستعيد الصورة بدقة كاميرا احترافية، أنت حر في الشام، لكن فكر أن تصبح حرا أكثر، أن تتجاوز أحلامك قليلاً، فكر أن تتطرف، أن ترغب بالحد الآخر للحرية، جرب أن ترغب بأكثر من حرية السهر، والسكر، وشرب سيكارة حشيش من كريم عابر، فكر أن تُقلق سلطة ما، أو شخصاً ينطق باسم سلطة ما، فكر بحد آخر، وليس حداً أدنى للحرية، ثم ادفع الثمن كما لم يُدفع في التاريخ، ولا زال يُدفع.
اللعنة! مجدداً أفعلها، حلفت أن أنسى البلاد، حلفت أن أكرهها، وأتركها لتكرهني، حلفت أن لا أتحدث عنها، ولا أتوب.
أقرأ مادة صحفية عن واحدة من المفاهيم السورية التامة: ناجح ويعيد
في الثانوية العامة، تستطيع أن تنجح، بعلامات بائسة تنجح، لكنه نجاح لا يخولك أن تفعل بعده شيئاً، حتى لو كان دخولاً لمعهد من رشة المعاهد المبهّرة بالبؤس وعقم التعليم، فتعطيك وزراة التربية وثيقة تثبت أنك :ناجح ويعيد
تعيد حياتك في بلاد اكتفت بالقليل، بالحد الأدنى من كل شيء، في الحياة، في الفن، في الرياضة، في السياسة، الحد الأدنى من الكرامة، من الحب، من الرؤية، من الجمال، وعاشت الحد الأعلى من الرداءة .
لم تعش البلاد حدودها كاملة إلا في الحرب..في الحرب تفجرت حيواتنا بلا حياء، أفصحنا عن عنفنا، طائفيتنا، وكراهية الأصدقاء، انقسمنا على دمائهم وحكاياتهم، تطرفنا ما شاء لنا التطرف، شربنا ولم نرتو، في مقاهي المدن الآخرى، نتشاتم فوق أرصفة تلك المدن الغريبة، حول بلد تركناه كلنا، متعتيين من السكر والصلوات والاكتئاب، مشلولين بالحزن، مكللين بالحياء، وعار الحرية التي لم نُحصّل، مَن عارض منّا ومن والى، من سكت قليلا، ومن خرس دائما، من تكّسب، ومن جاع، ولم يسرق خوفا لا شرفاً، وبعد أن اُنتهكت البلاد بنا، بفشلنا، وانتهكت حدود رغباتنا، أحلامنا وما تمنينا للمدينة، للبلاد ولنا،نتساءل من ظل هناك، من ظل بالشام ليقتتل عليها؟ الحد الأدنى من البشر
في مفوضية اللاجئين، بانتظار كريه قد يصيبك بالجنون، أو برغبة في التدمير، بقلب الانتظار، تفهم سبب بحثهم في حقيبتك عن الآلات الحادة، عن ملقط الشعر، ومرايا الجيب، خوفا على حياتك أو حياتهم، انتظر مجدداً، أتسلى بالأسئلة، من هؤلاء، من هذه المرأة التي تصرخ في وجهي لأني تجاوزت دورها، وأخبرها الرجل الذي منحني دوره: ما في مشكلة، وتزعق المرأة : لأ فيه مشكلة!
لم أبكِ مرة في مكان عام، وافكر أنه ربما أتى الوقت لاختبار ذلك، أخفي روحي، ادفنها بعيداً، في ركام البشر أمامي، في ألوان ثيابهم، في الدموع التي لم يبكوها، في الغضب الذي سينفجر مليئا بالحكايات، في ذكرياتهم عن الموت والدماء، وتحلّل احبتهم في ملح البحر، ولا أبكي!
انظر على الأفلام الدعائية على شاشة أمامي، فيلم للاجئين، صنع “على الماشي” طلس بموسيقى كردية، تتحرك الكاميرا فيه على مجموعة من البشر ينطّون من بيوت فقرها جارح، فتيات بشعر طويل مكشوف، وأخريات بحجاب “يا للغرابة” أطفال بأحذية رياضية، ورجل بعكاز، تجتمع مكونات الشعب السوري حول كرة القدم، يلعبون فوق تلال وأراض موحلة لعبة التوحيد، ويظل الهتاف الشامي العريق في فيلم توعية آخر، يصرخ مطالباً إياك باليقظة “واللي بتمه لسان ما بيضيع”وتدرك أنه لم يضع سوى الذي في فمه لسان.
تصرخ المرأة فيّ مجدداً، وموظف المفوضية يصرخ، والطفل الذي كرهني يصرخ، عالمي كله يصرخ، ولا أبكي، لاجئة فليكن، اللجوء ثمن بخس للحرب، مجرد حد أدنى طبيعي للخسارات، فلم التذمر؟!