العنوان كعلامة لسانية في رواية (لا رياح ولا مطر) للأديب محمود يعقوب
أ.د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
إن العنوان في الحقيقة مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي,واسم فارغ, وهذا يعني أنه علامة ضمن علامات أوسع هي التي تشكل قوام العمل الفني بعده نظاما, ونسقا يقتضي أن يعالج معالجة منهجية أساسها أن دلالة أية علامة مرتبطة ارتباطا بنائيا لاتراكميا بدلالات أخرى, ومن ثم فإنه قد يجسد المدخل النظري إلى العالم الذي يسميه، ولكنه لايخلقه إذ إن العلاقة بين الطرفين قد لاتكون مباشرة كما هو الشأن في الآثار الفنية التي يحيل فيها العنوان على النص, والنص على العنوان وفي هذا الحال فإن العنوان يتحول من كونه علامة لسانية أو مجموعة علامات لسانية تشير إلى المحتوى العام للنص إلى كونه لعبة فنية وحوارية بين التحدد واللاتحدد، بين المرجعية المحددة وبين الدلالات المتعددة وذلك في حركة دائبة بين نصين متفاعلين في زمن القراءة, أن النقد الروائي العربي لم يول العنوان أهمية تذكر، بل ظل يمر عليه مر الكرام, لكن الآن بدأ الاهتمام بعتبات النص وصار يندرج ضمن سياق نظري, وتحليلي عام يعتني بإبراز ما للعتبات من وظيفة في فهم خصوصية النص, وتحديد جانب أساسي من مقاصده الدلالية، وهو اهتمام أضحى في الوقت الراهن مصدرا لصياغة أسئلة دقيقة تعيد الاعتبار لهذه المحافل النصية المتنوعة الأنساق وقوفا عندما يميزها ,ويعين طرائق اشتغالها, ومن أهم الدراسات العربية التي انصبت على دراسة العنوان تعريفا وتأريخا ,وتحليلا, وتصنيفا نذكر ما أنجزه الباحثون المغاربة الذين كانوا سباقين إلى تعريف القارئ العربي بكيفية الاشتغال على العنوان تنظيرا وتطبيقا، وهو علامة لسانية وسيميولوجية غالبا ماتكون في بداية النص، لها وظيفة تعيينية ومدلولية، ووظيفة تأشيرية أثناء تلقي النص ,والتلذذ به تقبلا وتفاعلا, وهو الذي يوجه قراءة الرواية ( لا رياح ولا مطر)للروائي ( محمود يعقوب )، ويغتني بدوره بمعان جديدة بمقدار ما تتوضح دلالاتها فهي المفتاح الذي به تحل ألغاز الأحداث ,وإيقاع نسقها الدرامي, وتوترها السردي، علاوة على مدى أهميته في استخلاص البنية الدلالية للنص، وتحديد تيمات الخطاب الروائي، وإضاءة النصوص بها, وانه كما كتب كلود دوشيه عنصر من النص الكلي الذي يستبقه ويستذكره في آن، بما أنه حاضر في البدء، وخلال السرد الذي يدشنه، يعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة.
وقد جسد ذلك القاص (محمود يعقوب) في روايته (لا رياح ولا مطر)، إذ يحلل عنوان يقع ضمن مايعرف بالسهل الممتنع إذا ما قراناه قراءة سطحية عابرة تكتفي بالنظر إليه نظرة جانبية, على أن النظرة المحايثة العميقة ربما تكشف لنا عما دفنه فيه مبدعه من أشارات, وعلامات دالة, وانطلاقا من كل هذا قد يكون بالإمكان تتبع عمل العنوان في النص والشروع في نمذجة تصنيفية, الرؤية، فيتجاوز العنوان مجازيا مع دلالات الفضاء النصي للغلاف وتنصهر الصورة العنوانية اللغوية في الصورة المكانية لونا ورمزا, وللعناوين في الرواية وفقا لعلاقاتها بالشرح الروائي,و العنوانية قد تندرج ضمن علاقات بلاغية قائمة على المشابهة ,أو المجاورة, لعنوان الرواية وفقا لعلاقاتها بالذات عن طريق الاختزال إلى الحد الأقصى, فإما الرواية تعبر عن عنوانها تشبعه, وتفك رموزه, وتمحوه.
وإما أنها تعيد إدماجه في جماع النص ,وتبلبل السنن الدعائي عن طريق التشديد على الوظيفة الكامنة للعنوان، محولة المعلومة, والعلامة إلى قيمة والخبر إلى إيحاء, يلتصق به العمل الروائي قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع,وتيمته العامة، وتجمع شذراته في بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أوالترميز, وهذه الصورة العنوانية قد تكون فضائية يتقاطع فيها المرجع مع المجاز، وقيامه بدور المركز في الحركة القصصية, وتحديد مصائر من يسكنه جعله يقوم بدور البطولة الفعلية في الرواية,ويفرض نفسه على عنوانها ,ويبلور رؤية الروائي (محمد يعقوب) لعالمه, ومن هنا فهو صيغة مطلقة لعنوان الرواية ,وكليتها الفنية والمجازية, إنه لايتم إلا بجمع الصور المشتتة,وتجميعها من جديد في بؤرة لموضوعات عامة تصف العمل الأدبي, وتحديد مصائر من يسكنه جعله يقوم بدور البطولة الفعلية في الرواية, ويفرض نفسه على عنوانها, ويبلور رؤية الروائي لعالمه فنراه يقول: أكثر من طلعاته, وجولاته إلى أركان السجن الأخرى تيسر له أن يفرض حضور شخصه الوقور إثناء مجالسة رجال من أصحاب العقل والكياسة وكان حقيقة محل تقدير واحترام أينما حل به المقام ,إن الروائي محمود يعقوب-وهو يقدم على فعل الكتابة-إنما يعبر عن موقفه من العالم,وينطلق من رؤى يسعى من خلالها إلى محاورة ذلك العالم, معبرا بذلك عن حلمه في إنشاء عالم مغاير يجسد رؤيته ورؤياه, ويتجسد- قبل كل شيء- في كلماته,وعندما تتعدد أنماط كتاباته, ونصوصه وتتنوع فان تلك الرؤى ووجهات النظر تتوزعها تلك النصوص, والكتابات بوصفها عالما متكاملا من الأفكار, والأحلام، وعن طريق تلك الأفكار, والرؤى, الساعية إلى معرفة ذلك العالم لابد لها من إن تقوم بعملية مداخلة بين تلك النصوص الروائية القصيرة جدا, لتكون – في النتيجة- فضاءات/ مواطن التقاطع هي التي تشكل العالم الروائي, وغيرالروائي للروائي, والفضاءات التي تتقاطع من خلالها نصوص الكاتب لاتقتصر فقط على الموضوعات والأفكار, والرؤى التي تعبر عن هاجسه, وموقفه من العالم-وان كانت أبرزها- بل تتعداها إلى اللغة, والشخصيات, وإنشاء الصورة, وبناء النص.
أيضا, يلجا الروائي محمود يعقوب في كثير من الأحيان إلى الطبقات الفقيرة في نصوصه القصصية والروائية, لأنه يؤمن أن الأدب هو صوت الفقراء, وهو المرآة التي تعكس همومهم, وأفراحهم, ومآسيهم, وطموحاتهم أما الأدب الذي لا يروى بصوت الفقراء فهو إما أدب دعائي,أو أدب البرج العاجي, الذي يترفع عن الخوض في مآسي الفقراء, وتعني مدينة الناصرية له: المهد, والحلم, ففيها ولد, وفيها تصاعدت أحلامه, بتغير حياة شخصياته القصصية والروائية, وتدور أحداث اغلب قصصه في أجوائها, ولم تبتعد جغرافيتها ما عدا بعض قصصه التي تدور أحداثها في بغداد, ونستطيع القول إن محمود يعقوب لجأ إلى تدعيم نصوصه القصصية والروائية, بتراثنا الثر,محافظا على تراثنا ألشفاهي من الاندثار,أو النسيان, فهو يعتمد على الثالوث القصصي الطبقات الفقيرة / المدينة/ التراث, لأنه عندما ينتج نصا واحدا جنينا مهما تعددت نصوصه, وأن هذا النص الواحد ليس هو النص الأول الذي يكتبه,وإنما هو خلاصة النصوص التي كتبها,انه كامن في أعماق ذهنه,وتتوالد عنه النصوص عندما يراد لها أن تولد, وليس النص الأول نفسه إلا منبثقا عن ذلك الجنين القابع هناك داخل الذهن, ولذلك كان لابد من معرفة هذا النص الذي كتبه محمود يعقوب المتشكل من مجموعة نصوصه الإبداعية, من خلال استكشاف المحاور التي تمفصلت هي ذاتها,ثم تمفصلت من حولها, ومن خلالها نصوص القاص/الروائي, وكذلك تأطير الشخصية التي جسدت رؤاه, واللغة التي عبرت بها تلك الشخصية عن تلك الرؤى, من خلال البناء النصي الذي احتوى كل ذلك وصيره عالما متكاملا أساسه الكلمة,نقول إننا من خلال استنطاق النصوص القصصية والروائية نجدها تعبر عن أسلوب جديد في كتابة القصة,والرواية عنده على الساحة الأدبية, ويعد جنسا سرديا معاصرا .