وعادت ميريت الثقافية إلى القراء بكتاب ” الشتات اليمني “
فراس حج محمد| فلسطين
في حدود (50) صفحة تعود مجلة ميريت الثقافية بإصدارها الثامن مع العدد الثالث والأربعين (يوليو 2022) من المجلة، وهو كما صنفته على الغلاف الأول “قصص قصيرة”، ويشتمل على خمس “قصص قصيرة نسبياً”، ويحمل عنوان “كتاب الشتات اليمني” للدبلوماسي والكاتب والشاعر اليمني خالد اليماني. ترجمت هذه القصص إلى اللغة الإنجليزية ليصبح الكتاب بمجمله (120) صفحة.
ما يلفت النظر في هذا الإصدار ازدواجية اللغة، رغبة في أن يطلع “العالم الحر” على “مأساة العبيد”/ اليمنيين المشردين منذ اندلاع الحرب في بلادهم. وبهذا يكون الكتاب مختلفا عن كتب مجلة ميريت السابقة، لكنه يعزز انتماء أسرة تحرير المجلة إلى فن القصة القصيرة، فيعمل على نشرها وتعميم نماذج كتابية متعددة منها، متباينة في الأسلوب، متنوعة في الموضوعات، لكتاب عرب وكاتبات عربيات.
تعرض النصوص الخمسة خمسا من صور المأساة للاجئين اليمنيين حول العالم، بلغة بسيطة، دون تأنق في الصنعة الأدبية، ودون أي مظهر من مظاهر الصنعة القصصية، بل إن هذه النصوص تفتقر إلى كثير من مقومات القصة القصيرة، فما هي إلا حكايات لبعض المشردين أو أخبار موسعة عنهم. وكم هو الفارق كبير بين الحكاية والقصة القصيرة، أو ما بين الخبر والقصة القصيرة أيضاً. فهل يشفع للكاتب كونه دبلوماسيا يمنيا كبيرا أن يكون كتابه بمثل هذه الرداءة؟ وهل تشفع المأساة- على تراجيديتها المحزنة جدا- أن يكتب الكاتب مثل هذه الحكايات؟ وهل تضيف هذه المجموعة للأدب اليمني أية إضافات فنية؟
لعل الأدب الفلسطيني هو الأدب الأكثر اهتماماً بسؤال النقاد والمهتمين، أين الفنية فيه، في فترة من فترات حياته الأولى أول النكبة وإلى ما بعدها، فترة الافتتان العربي بالأدب المقاوم، لقد خلف الأدباء الفلسطينيون الكثير من النصوص الرديئة جدا، لا يشفع لها إلا الموضوع الفلسطيني، لإثارة التعاطف الشعبي العربي والضمير الثقافي والإنساني مع القضية الفلسطينية، هذه الإشكالية “النقد- أدبية” هي التي دفعت محمود درويش لكتابة مقاله في فترة مبكرة من حياته الأدبية “أنقذونا من هذا الحب القاسي”، وشدد على ذلك كثيرا في حواراته الأدبية ومن ذلك قوله في حوار مع الكاتب إبراهيم العريس بتاريخ: 19/6/1977: “من الخطأ الاستمرار في تدليل الشعر الفلسطيني، ومن الصواب أن تكون لهذا الشعر أهمية ناتجة من داخله، وليست واردة من مكان”. بل أضاف في حوار آخر مع الشاعر اللبناني شربل داغر بتاريخ: 13/10/1982: “كثير من الأدب الفلسطيني لا قيمة له وهو مفروض على الناس كونه فلسطينياً”. هذه جرأة كبيرة وشجاعة نادرة من شاعر كان وقتذاك ما زال في شبابه الشعريّ، يبحث له عن مكان مرموق بين قامات الشعر العربي في حينه.
لقد وقع الكاتب والدبلوماسي اليمني خالد اليماني بمثل ما وقع فيه كتابنا الفلسطينيون، ولم يتعلم الدرس جيداً. ولكن ما للسياسي الدبلوماسي والتأنق في الصنعة الأدبية، فلا بد من أن تطغى شخصيته غير الأدبية على ما يكتبه من أدب؟ لا بأس، إذاً، ولنترك المعايير الفنية جانباً، ولنذهب إلى الموضوع. فالسياسيون في الأغلب لا يبحثون عن مجدهم في الأدب.
في هذه النصوص يعرض الكاتب- كما قلت- خمس صور من المأساة اليمنية، هذه المأساة التي تشابهت مع المأساة العربية الأصلية؛ مأساة الشعب الفلسطيني، ولم يكد ينقضي أقل من سبعة عقود على هذه المأساة إلا وقد فرخت مآسيَ كبرى، في اليمن، والعراق، وسوريا، وليبيا، وفي لبنان.
إن تكرار المأساة يجعل المأساة أشد ألماً، ويدل على أننا شعوب تعيش اللحظة ولا تستوعب دروس التاريخ الواضحة البليغة، فبدلا من أن يعالج العرب، قضية فلسطين، فيرجعونها إلى الحضن العربي والأمة العربية، ويقضوا قضاء مبرما على المحتل الغاصب وكيانه البشع، رضوا بالاحتلال وسعوا إلى وده بسلام هزيل أولا ثم باتفاقيات التطبيع المخزية، ووقفوا علانية ضد الضحية، وأجبروها مرارا وتكراراً على أن تقبل يد قاتلها على الهواء مباشرة، في مشهد ذل قوميّ لم تعشه أمة من قبل، ولن تعيشه أية أمة أخرى تحترم ذاتها ووجودها وتاريخها وحضارتها، معلنين التخلي عنها وانكشاف ظهرها، حدث هذا في الأردن، مع النظام الأردني الملكي الهاشمي، ومع النظام اللبناني الجمهوري المسيحي الطائفي، ومع النظام السوري العلوي القومجي، وطرد الفلسطيني من الكويت ذات النظام الأميري الأبويّ، ومن العراق الليبرالي، ومن ليبيا القذافي الاشتراكي، ومات في شتات بعد الشتات.
إذاً، ليس غريبا- حسب منطق التاريخ- أن تحدث النكبة اليمنية المعاصرة، والسورية، والعراقية، والليبية، ما دمنا أمّة أمَة كما قال الشاعر، بل إننا مقبلون على ما هو أشد فظاعة مما نرى ونسمع. لأننا لن نرعوي مهما كانت النتائج، وما حدث من كوارث.
على أية حال، في هذه القصص المؤلمة التي يعرضها الكاتب خالد اليماني قصص ذات بعد إنساني موجع، وتدل تلك القصص أن اليمنيين الهاربين من الموت يجدون الموت أمامهم إما لأن الطبيعة عاندتهم في دروب الصقيع الأوروبي، وإما لأنهم وقعوا فرائس سهلة لجماعات التهريب. وتكشف هذه الحالات عن لا إنسانية تلك الدول التي لم ترحب بهؤلاء اللاجئين، بل كان مصير الكثيرين منهم التعذيب والموت والاستغلال والضياع، ووظفت كل ما لديها من تقنيات تكنولوجية من أجل محاصرتهم ومنع تسللهم.
لقد تعمقت المشكلة أكثر منذ كتب غسان كنفاني روايته “رجال في الشمس” أوائل الستينيّات من القرن المنصرم، وتعرض ثلاثة من الفلسطينيين للابتزاز من المهرب أبي الخيزران، أصبح أبو الخيزران الفلسطيني جماعات من المهربين العرب والأجانب والإسلامويين، وأصبحت الصحراء اللاهبة، بحرا عميقاً، أو غابات قاهرة وأنهارا تبتلع كل من يحاول اجتيازها. إن تعقيد حالة التهريب الواقعية وتدويلها بهذا الشكل المفجع ليدل على تعقيد الوضع العربي الذي يلفظ أهله إلى أصقاع أوروبا أو كما جاء في إحدى القصص “الجنة الأوروبية” وأمريكا وكندا، وعجزت “بلاد العرب أوطاني” التي كانت تمتد من اليمن حتى تطوان من أن تداوي الجراح العربية، ليفر الموجوعون إلى أوروبا، هذه هي الهزيمة الحقيقية التي يجب أن يفكر فيها النظام العربي الرسمي الذي أثبت بلا مراء أنه نظام يتمتع بغباء مطلق، وهو تابع، منقاد، إلى حتفه وحتف الشعوب الخاضعة لشهوتيه وجنون مجونه الذي فاق الحد والتصورات. بل ويقدم كل الدعم اللوجستي والتسهيلات للقاتل وللمحتل، سواء أكان صهيونيا أم أمريكيا أم روسياً، بعد أن قدم التسهيلات للمحتل البريطاني والفرنسي، ومنحه كل ما يلزمه للسيطرة على أمة العرب وثرواتها، وإخضاع إنسانها، والعمل على حيونته.
إن تعرض هؤلاء اليمنيون إلى هذا الضياع سببه في العمق، ضياع العرب كأمة، إذ لم يعودوا سوى كتل إسمنتية تحتوي على كائنات استهلاكية مرفهة في دول النفط، بمقابل “كائنات” تموت أو تجوع أو تحارب في البلاد الواقعه على تخوم الموت. عاد العرب قبائل، لا شيء يجمعهم، هذا ما تقوله حالة الشتات اليمني والعراقي والسوري، ومن قبله حالة الشتات الفلسطيني المستمرة حتى الآن.
لا يوجد حكام خانوا شعوبهم كما خان الحكام العرب الشعوب العربية، في طول البلاد وعرضها، إذ لا يوجد كائن رشيد واحد من بينهم يحمي شعبه من الانهيار والهجرة والذل والجوع، لقد خانوا الأمانة أشد الخيانة. هكذا تقول لي قصص خالد اليماني التي بلا شك أوجعتني وجعا شديدا، فالشجى- كما قال الشاعر- يبعث الشجى، ولعلها في الحالة اليمنية أشد وضوحا فالنظام الرسمي العربي شريك بتهجير اليمنيين وقتلهم، فما عرف بقوات التحالف العربية تتحمل النتيجة الأكبر لما يحدث في اليمن، وقد سكت اليمانيّ عن هذا، لأنه منحاز إلى هؤلاء الذين أسقطوا اليمن في هذه البئر العميقة دون أن يكون هناك يد قوية تنتشلهم مما هم فيه، ووجه سهامه ولمزه نحو داعش والحوثي، مع أنهما مجرمان، بلا شك، لكنهما ليسوا الوحيدين في ذلك، فما هم إلا طرف من عدة أطراف استعبدت اليمنيين ودفعتهم إلى هذا المصير المجهول المعبأ بالموت.
هذه هي الحالة العربية في عيون العربي، فهل ترجمتُها إلى اللغة الإنجليزية سيجلب الحظ للضحايا، فترأف هيأة الأمم المتحدة لهؤلاء المشردين الذين يموتون يوميا، كأنها لا تعلم بمصيبتهم لتعرف بالمأساة عن طريق هذه القصص الخمسة، رديئة البناء والصياغة، وكأنهم لا يرون السوريين واليمنيين ومن قبل الفلسطينيين وهم يحاولون عبور الحدود؛ لعلهم يحظون ببلاد يرتاحون فيها؟ في واقع الأمر هذه خطوة فارغة من المضمون الثقافي، فالشعوب الغربية لا تنظر إلينا نظرة رأفة أو احترام، ولا هي مستعدة أن تحتضن اللاجئين، لأن ذلك يعني أن يقاسمهم اللاجئون الجغرافيا والموارد والفضاء، وهي شعوب تربّت على “الوطنية” الضيقة، والاستهلاكية الرأسمالية التي تقول: رغيف الخبز إما لك وإما لي، فلا يتقاسمون شيئا مع أي أحد، ربتهم أنظمتهم الفكرية والثقافية والسياسية على الفردية والذاتية والبراغماتية لا غير، فهم أبعد الخلق عن الإنسانية، وحكامهم وسياسيوهم من جنسهم، وكذلك مثقفوهم وكتّابهم غالباً، فلماذا الترجمة إذاً، إنها نوع من العبث المفضي إلى خطوة في الفراغ. إنها لا تعدو كونها مهارات من مهارات التدريب على قول الشيء مرتين، لأنه لن يقرأ هذه القصص سوانا نحن المهزومين الكسالى المعدمين، فهل سنقرأ نحن أيضا تلك المآسي بلغة الأجانب، وما الفائدة؟ هل سنستعرض أمام أنفسنا قدراتنا اللغوية؟ يا لنا من أغبياء بحق. بل قل: كم قارئاً عربياً سيقرأ هذه القصص الخمس بلغتها العربية؟
حاول الكاتب أو جهة النشر- لا فرق- تعظيم المسألة وهي عظيمة في مأساويتها، بلا شك في ذلك، فقلبي مع الضحايا لأنني واحد منهم، هذه المحاولة، محاولة التعظيم، تتقصد تضخيم شأن الكتاب إبداعيا عندما جعلوا في العنوان كلمة “كتاب”، بما توحي به كلمة الكتاب هنا من إحاطة أو أهمية أو قدسية، أو لعلها تومئ إلى “كتاب حياتي يا عين ما شفت زيه كتاب، الفرح فيه سطرين والباقي كله عذاب”. بالفعل، ففي هذا الكتاب الفرح مؤجل إلى إشعار آخر، فقد تم محو سطرَيِ الفرح الذي تأمّل بهما أو عاشهما الفنان حسن الأسمر يوما ما، ليعم بدلا من ذلك السواد والحزن ويسد الأفق سدا منيعا ممطرا مطر السوء.
متى سيفوق الأدباء مما هم غارقون فيه من وهم؟ ومتى سيصحو النظام العربيّ البليد من بلادته؟ أظنّ أننا ما دمنا ننتج أدبا مثل “كتاب الشتات اليمني” وسياسة كسياسة الدول الكسيحة سنظل نشرب دموع الحسرة والهوان، ولن نجد لنا مواسياً ولا سندا، لأننا نحن الذين خذلنا أنفسنا، وكما قال المثل الشعبي: “اللي من إيدو الله يزيده”. و”قتيل أديه ما بنبكى عليه”. ونحن المشردين جميعا قتلى بأيدينا أولا قبل أن نكون قتلى بيد الاستعمار وأسلحته، ولذلك فمن الطبيعي جدا أن نكون ضحايا الدول الكبرى والصغرى، لأننا بمفهوم الدول، لسنا في العير ولا في النفير، ولا تقيم لنا السياسة الدولية أي وزن وقيمة.