دراسة نقديّة لرواية “وداعا حمورابي” للرّوائيّة مسعودة بوبكر

 النّاقدة ابتسام الخيري | تونس

إنّ الرّواية بما هي نصّ أدبيّ سرديّ هي أوسع من القصّة إذ يمكن اعتبارها قصصا متعدّدة ومتشابكة في نصّ واحد و مضامينها متنوّعة… وهي من أصعب الفنون الأدبيّة نظرا لغياب الضّوابط الشّكليّة الّتي تسهّل على الكاتب مهمّته، فهي لا تكتب نظما بل مقسّمة إلى فصول ومشاهد… و لئن تعدّدت الرّواية من اجتماعيّة أو نفسيّة أو فلسفيّة أو عاطفيّة…الخ. فإنّها تسجّل حضورها اليوم رغم التّطوّر التكنولوجي في العالم و ظهور أشكال أدبيّة.
“تعتبر الرّواية الفنّ الأدبي الأكثر أهميّة في التّاريخ الحديث فقد استأثرت بمكانة رفيعة، لأنّها عبّرت بقوّة عن السّياقات الثّقافيّة التّي احتضنتها.” (1) و هي المرتع الّذي عنّ للكاتب طرح ما يشغله و ما يحيط به باعتباره جزء من الكلّ.. على هذا المنطلق نتناول بالتّحليل رواية “وداعا حمورابي” للرّوائيّة التّونسيّة مسعودة بوبكر دراسة ذرائعيّة مستقطعة باعتبارها نظريّة علميّة،

في البدء: من هي مسعودة بوبكر؟
-هي عضو في جمعيّة الصّحفيين التّونسيين و نادي القصّة أبو القاسم الشّابي و نادي الطّاهر الحدّاد.
-تكتب الشّهر و القصّة القصيرة و الرّواية و المقالة و قصص الأطفال.
-عضو في اتّحاد الكتّاب العرب
-شاركت في لجان تحكيم أدبيّة عدّة مرّات: مسابقة الكومار، مسابقة الكريديف.
-نشرت في عدّة صحف و مجلّات محليّة و عربيّة.
من مؤلّفاتها الرّوائيّة: ليلة الغياب (1997) طرشقانة (1999) وداعا حمورابي (2002) جمّان وهنبر (2006) الألف و النّون (2009)>

1-المدخل البصري:
لقد أطلّت علينا رواية “وداعا حمو رابي” للأديبة و الشّاعرة مسعودة بو بكر الصّادرة عن دار سراس بحجم متوسّط في 165صفحة سنة 2002.
-عتبة العنوان: “وداعا حمو رابي” ورد جملة فعليّة تقريريّة تؤكّد توديع حمو رابي و هو سادس ملوك السّلالة البابليّة الأولى و أوّل ملوك الإمبراطوريّة البابليّة دام سلطانه قرابة 42 عاما قبل الميلاد، الجدير بالذّكر أنّه كان قانون حمو رابي من أوائل القوانين الّتي تركّز بشكل أكبر على العقوبة الجسديّة لمرتكبها… “وداعا” من ودّع يودّع توديعا شيّعه عند سفره و يقال تركه و خلّاه فما تريد الكاتبة توديعه؟
العنوان يثير الفضول و يدفع القارئ لفكّ معناه و قد يحيله إلى عصر ولّى و راح…
– عتبة الغلاف: يظهر كأنّه كتب بدماء و معاناة حيث جاء بلون أحمر و ما يرمز إليه هذا اللّون من دمويّة وانفعالات و عادة الحياة بصخبها… تحت العنوان نلحظ مسلكا إلى بغداد فلا تنفكّ الروائيّة تطرح أسئلة تحيّرها بل عساها تحيّر المجتمع بأسره مهما اختلفت انتماءاته و مستوياته الثّقافيّة و العلميّة فتقول: ” علامَ الحرب من الأساس؟ علامَ الحقد؟
-الحبكة العامّة للرّواية: منذ تصفّحنا للرّواية يتراءى لنا الإطار الّذي عمدت الأديبة تحديده فكانت المعطيات التّالية واضحة و هي:
-المكان: الرّاجين

-الزّمان: ذيل موسم شتاء

-الحدث: اجتياح… هجوم، غزو ثمّ تضيف لنا المكان: جزء مهيب من البيت العربي الكبير، الفاعل جيش عربي، المفعول به: جيش عربي. الأسباب: كثر الحديث…؟
كأنّنا نقف أمام مسرحيّة ركحها الرّاجين و هي بلدة صغيرة أين تتجسّد أحداث الرّواية فنعيش مع كلّ فرد من أفرادها همّه و مشاغله على حدا دون أن تغيب القضيّة الأمّ كما لا يغيب السّؤال:
-قصفوا ملجأ مدينتناᵎ
-أحرقوا الأطفال و النّساء و الشّيوخᵎ
-أ هوَ مخطّط إبادة؟ (2)
إذن ثلاثة مشاهد ترسم: مسيرة، ثورة و محاولة دفاع.
-الصّراع الدّرامي: نلحظ من خلال تلمّسنا للرّواية طرح مسألتين كلاهما نابع من الآخر: الهمّ الكبير عندما تصوّر الروائيّة حرب الخليج، و الهمّ الصّغير و هو الّذي يعيشه كلّ مجتمع بل كلّ تجمّع سكني مهما تغيّر مكانه الجغرافي.
بهذا المنهاج يمكن القول أنّ الرّواية تحمل دلالات تاريخيّة منبعثة من ذاتيّة الرّوائيّة حين تدغدغ إنسانيّتها إذ فصول الرّواية تواكب الحدث (حرب الخليج) و ما صاحبه من فاجعات و ذلك باعتبارها الحدث المجلجل الّذي اهتزّ له عنفوان التّاريخ و تحرّك له عرشه و تساءلت عن إمكانيّة الأمل رغم الحروب و المعارك،
-العقدة و الانفراج: امتزاج العجز العربي بالحلم و الرّغبة في التّغيير، ينبثق الهمّ الصّغير من الهمّ الكبير، والشّعور بالعجز و الخوف يبرز هنا و هناك في مختلف فصول الرّواية، على أرض الدّمار و في بلدة “الرّاجين” تظلّ الرّغبة جامحة للتعبير “تنهي المؤلّفة روايتها بعبارة “أريد أن أستمرّ”.
هكذا رسمت لنا “مسعودة بو بكر” مشاهد مختلفة متنوّعة: أنّاة مجتمع ضيّق تمتدّ إلى المجتمع العربي بأكمله فنجد اهتزاز و زلزال داخل الرّوح البشريّة لا يمكن إصلاحه في غمضة عين… كما اهتمّت الرّواية بتطلّعات الشّخصيّات (آمالها) مبرزة أمانيها و آلامها و إحجامها و إقدامها و انقباضها و انبساطها… فصور الرّواية كلّها مؤلمة إلّا أنّ الصّورة بقيت محفورة في الذّاكرة: صورة ريم بنت الرّايس كأنّ المرأة الوحيدة من تدفع ثمن علمها و ثقافتها للإسهام في المجتمع؟؟
و رغم الأمل المطلّ في آخر الرّواية إلّا أنّ الأسئلة الموغلة في الألم لا تتوقّف: “فوحدها النّار قادرة على التّطهير”(3).
مهما قيل من أنّ ” مسعودة كتبت مودّعة قيم الحضارة و الحقّ في عالم يدّعي التّحضّر” (4) يحقّ لنا القول بأنّها أسئلة تسربلت تائهة بحثا عن حلّ سلميّ و هي روح حالمة بوطن ملؤه الأمان و السّلام و هي ذات شاعرة مرهفة الحسّ بثّت لنا خلجات نفسها و ألمها جرّاء حرب الخليج الّتي هزّت كلّ مواطن عربي فقالت: “ليس أبشع من أن يسلب المرء طمأنينة العيش حتّى في رتابته المملّة، حتّى في أحوج الحالات.”
الشّخصيّات: من أهمّ مقوّمات الحَكْيِ وجود الشّخصيّات و تتراوح أهميّتها وفق دورها في النّصّ( السّرد).
أ-الشّخصيّات الهامّة: لا ريب أنّ كلّ شخصيّة في هذه الرّواية لها مجال دلالي خاصّ لكنّنا سنحاول تصنيفها إلى الهامّة نظرا لكونها مصدر القضيّة و مدعاة التّغيير و تجاوزها، ثمّ سندرس الشّخصيّات الثانويّة في منحى ثان.
°الأصدقاء: و هم:
1-منوّر الشّامخ: مدير مدرسة ابتدائيّة أحبّ في الخفاء “ريم” لكنّه كتم حبّه حفاظا على صديقه “حامد”. أراد بيع الهنشير كحلّ لانجاز مشروع الجريدة إيمانا منه بقيمة الكلمة لتثبيت السّيادة (5)
2-سامي الظّاهر: درس الحقوق لم يواصل تعلّمه فتخرّج معلّما، هو شاعر في بلدة “الرّاجين”.
3-المنذر: زوج “صبرا” له طفلان، ثار على الوضع المتأزّم “حرب الخليج” أحسّ بالعجز يخنقه فابتعد عن حياته العاديّة كأب و زوج.
4-حامد الهلالي: تخرّج من شعبة العلوم الاقتصاديّة، سافر لتحسين ظروفه و بناء مستقبله، أحبّ ريم وأحبّته لكنّه فضّل مستقبله، تزوّج ثمّ أنجب طفلا ممّا انجرّ عنه غضب والدته عليه: “انهارت يوم بلغها نبأ زواجه “ولدي يعرّس في الغربة… لا نُحرك و لا نزغرط… ولدي يولد و يخلّف … لا نحمّل لا نقمّط.” (6).
إذن نفره أهله، صديقه منوّر أقربهم إليه، كان مميّزا عن أصدقائه:
“يدرك منوّر أنّ ما يميّز حامد عنهم جميعا احتفاؤه الصّارخ بالحياة و حريّته في إطلاق مشاعره، لا يخشى في ذلك لوما”. (7) لكنّه مرض و عاد إلى بلده مهزوما.
5-فؤاد زيدان: هو صديق الفنّان، رسّام فقد عقله كردّ فعل ضدّ الحرب… دخل المصحّة للمداواة، أحاط به جلّ أصدقائه فقد القدرة على الكلام ثمّ غمغم: “هل سجلت رقم المأساة الجديدة؟ أ ما زال في جدولك مكان أيّها الشّاعر؟ سقراط مات و ارتاح، جاليلي تراجع عن اليقين كي ينجو(8) تابع فؤاد و نظراته تجول في المدى الأعتم:
-عندما تصبح الموازين في العالم تقاس بالأسلحة فيعني أنّ الخوف هو السيّد يترصّد أحلام الأمن و السّلام و المحبّة يعني أنّ انعدام الثّقة في الأجوار قد غزا الإحساس و التّفكير… هذا مفزعᵎ (9)
6-ريم بنت الرّايس: تخرّجت من كليّة الآداب قسم الفرنسيّة، أحبّت حامدا ثمّ خالد الهلالي، هي رمز المرأة المثقّفة الواعية، ضحّت بحياتها لأجل وطنيّتها.
7-خالد الهلالي: أبرز المحامين بالعاصمة و هو رئيس حزب سياسي، أحبّ ريم.
ب-الشّخصيّات الثّانويّة: هم الأشخاص الّذين يحيطون بالأصدقاء سواء من بعيد أو من قريب:
1-زقّومة: أعوج يتيم وصفه لا يدلّ عليه من أيّ فصيلة هو و لا كم عمره: “اشتدّ جسده طولا و نحافة”. هو سارق محترف له فعله في الأحداث… يغيب و يظهر و رغم جهله رفض الحرب و ثار كما أنّه استحسن فكرة تعلّمه لقهر الجهل..(10)
2-الشّيخ الرّاس الكبير: والد ريم اشترى قطعة الأرض لابنته.
3-سعيد الشّامخ: والد منوّر، يحبّ الأرض و يقدّسها أجبره ابنه على بيعها.
جملة من الشّخصيّات الأخرى كالرّاجي الهلالي و الهادي و الغنّام و رشارش لا قيمة دلاليّة لها تذكر بقدر ما يمكن أن نجده في عمّة منوّر الشّايخ و هي عجوز لم تتزوّج و هي رمز المرأة الريفيّة تقوم بواجباتها على أكمل وجه كذلك الشّأن بالنّسبة لصبرا زوجة المنذر و أخت فؤاد.
بؤرة النّصّ الثّابتة:
“وداعا حمو رابي” نبش في الذّاكرة، نظرة لذلك الأمس الّذي غمس سيفا في الأوردة و زعزع الآمال ثمّ ارتحل… مشهد واقع مرير يهزّ الفكر و الوجدان في آن… قد تهمس الذّاكرة للدّفتر الأبيض و يحدّث الرّاوي الذّاكرة ثمّ يخاطب الحمار الذّاكرة كما يفعل الطّبل؟ أسئلة تسربلت حيرة تؤرّقنا: لماذا الحرب؟ لماذا الدّمار؟ هل ” رواية القضيّة أو الرّواية القضيّة الّتي تفرض طرح قضيّة” (11).
الاحتمالات المتحرّكة في النّصّ:
رواية ” وداعا حمو رابي” رسمت لنا المؤلّفة الشّخوص بألوان تتماوج بين الأمل و العجز بين الحلم (الرّومانسيّة كما الشّأن عند ريم حلمها بزواج سعيد و شاعريّة سامي الظّاهر) و اليقظة مع فؤاد الّذي صدم بواقع مرير أفقده عقله (12)
-الشّخصيّات بين البساطة و الرّمزيّة: إنّ الشّخصيّات لها أبعاد رمزيّة تفضح رباطا جدّ هامّ، إنّه رباط معنويّ، فعندما يهرع سكّان بلدة “الرّاجين” لمؤازرة “سامي الظّاهر” عندما أقام أمسية شعريّة بالعاصمة لهو دليل واضح على التّآزر: ” حين شارك “سامي الظّاهر” في أوّل أمسية شعريّة في العاصمة، فوجئ بحافلة النّقل الرّيفي تعجّ بشبّان البلدة في حين رصّت سيّارة منوّر ببقيّة الرّفاق، و حضرت “ريم بنت الرّايس” صحبة زميلتين لها، بهت سامي و مال على أذن فؤاد:
-هل أعلمتم هؤلاء أنّ المناسبة أمسية شعريّة و ليس حقل ختان؟
-خسئت يا جاحدᵎ أردنا أن نتعاطف معك و أن نساندك.” (13)
إنّ هؤلاء الأهالي رغم بساطتهم (أحضرتهم سيّارة نقل ريفي) فهم يحتفظون بشيم و عادات اندثرت بين سكّان المدن…
الجدير بالذّكر هو أنّ الرّوائيّة “مسعودة أبو بكر” قد طرحت لنا عدّة قضايا من خلال شخوصها فنجد قضايا تشغيل الشّباب أينما تواجدوا: إنّه الواقع الأليم.
1-البطالة:

متفشّية في بلدة الرّاجين و تتعدّى هذا الحدّ الجغرافي لتمسّ العالم بأسره، فلا شكّ أن ترتفع نسبة البطالة في البلدان النّامية و تحديدا البلدان الضّعيفة نظرا لعدّة أسباب أهمّها انعدام مواطن الشّغل، و بناء عليه كوضع عامّ تحضر ظاهرة خطيرة تهدّد أمن الجماعة و استقرارها هي ظاهرة السّرقة باعتبارها حلّا لشباب يرزح تحت غمار الحاجة و الخصاصة و الجهل أيضا، فنجد “زقّومة” يمثّل هذه الشّريحة من المجتمع و قد أبرزت لنا المؤلّفة ظروفه العائليّة (يتيم) و رغم ذلك صرخ: ” منذ فهمت الدّنيا … و بدأت أسمع حكايات حرب، أتابع أخبارها و أرى أهوالها، لم أفهم لمَ تقوم الحروب؟ ما دامت لا تحلّ مشاكل؟”. و حسب قوله فهو “يعرف ما معنى أن يُقهر إنسان.”
2-الهجرة:

قد تكون حلّا لأزمة البطالة، و بهذا القول تتّضح هجرة من نوع خاصّ في رواية “وداعا حمو رابي” إنّها هجرة الأدمغة و هي قضيّة تشغل الشّباب و تستهويه بحثا عن أجر أرقى أو عساها المغريات الّتي تقدّمها تلك الدّول فلا تترك مجالا للرّفض، نلحظ أنّ المؤلّفة تطرح هذه القضيّة بذكاء شديد من خلال شخصيّة “حامد الهلالي” الّذي هاجر لنيل الدّكتوراه و جرفه الحلم اللّا متناهي إلى الوقوع في فخّ الضّياع فخسر طفله و صحّته و لم يكن ثمّة ما يحمي حقوقه أو بقاءه ذلك هو جزاء من يطمح في الكثير الكثير: ” استسغت طيب العيش و كلّ العروض المذهلة الّتي انبسطت أمامي عقب إحرازي الدّكتوراه، جاءت “دينا” بكلّ طلاسمها لتحتويني… بل لتغلّني أنا القرويّ السّاذج “الغبيّ” عندما استفقت على الزّيف كان طفلنا “رشيد مايكل” قد هلّ في وجودنا” (14)
3-الوطنيّة:

إنّ حبّ الوطن يحيلنا إلى الوطنيّة فعندما يصرخ “سعيد الشّامخ” و هو والد منوّر: “أنا وُلدت بين الحقول من أمّ فلّاحة… جاءها الطّلق و هي منحنية تحصد نزلت من رحمها فلامست التّربة و الكلأ و السّنابل، العود العليل يشدّ بصري عن بعد. أميّز بالشمّ رائحة الغيمة الشّحيحة من الغيمة المعطاء.” (15)
ها هنا تمثّل الأرض السّيادة و ما تعنيه من تجذّر و عراقة و أصل و هو ما يحيلنا إلى رواية “الأرض” لعبد الرّحمان الشّرقاوي حيث اتّخذ من الأرض مرتعا لأحداث شخوصه رافعا بذلك قيمة الأرض على بقيّة المكوّنات الأخرى (الشّخصيات).
في المقابل نجد “منوّر الشّامخ” يريد بيعها مهما صرخ والده رافضا رغبته تلك: ” و لماذا تريد أن تعرّي رأسك؟ الحروب قائمة من أجل الأرض و أنتَ تبيعها؟”. فإصرار منوّر على بيع قطعة الأرض له هدف سامٍ نبيل: مشروع يراه حلّا لإعادة صوت الحقّ الّذي يراه في بعث جريدة، إنّ التّفريط في الأرض له غاية نبيلة و هي بناء جريدة أو مدرسة و ذلك يمثّل رمز التحضّر في بلدة “الرّاجين”.
و تمتدّ رقعة الوطنيّة و يتّسع ركحها حيث يهتزّ ضمير الشّعوب فتصرخ: “لماذا الحرب؟ لمَ الدّمار؟” و تكون الثّورة ضدّ الحرب و رفضا لها بدء من الرّسّام “فؤاد زنديان” مرورا بريم بنت الرّايس الّتي ضحّت بحياتها وصولا إلى ” زقّومة” و الّذي يتساءل بدوره عن سبب الحرب رغم بساطة علمه و جهله:
“صاح “زقّومة” دون أن يلتفت: ” بل هي وجوه الشّياطين أولاد الحرام الّذين يصبون النّار من السّماء على النّاس و الأطفال.” (16)
4-قضيّة المرأة:

و نحن نعيش الشّراكة بين المرأة و الرّجل و بعد المرور بطور الازدهار على جميع الأصعدة في البلاد التّونسيّة… نجد الرّوائيّة “مسعودة أبو بكر” قد رسمت لنا على صفحات روايتها “وداعا حمو رابي” وجهين للمرأة مختلفين تمام الاختلاف: أوّلا المرأة البسيطة و ثانيا المرأة المثقّفة.
أ-المرأة البسيطة: أو المرأة التّقليديّة الرّيفيّة و الّتي تحيى حياة عاديّة، فقط هي تقوم بواجباتها المنزليّة، ترعى أطفالها (صبرا) تسهر على جمع شمل عائلتها و تضحّي لأجلها كما هو الحال بالنّسبة لعمّة “منوّر الشّامخ” الّتي لم تتزوّج و عنيت بتربية ابن أخيها و هي كذلك جاهلة لا دور لها.
ب-المرأة المثقّفة: قطعا “ريم بنت الرّايس” المتعلّمة المثقّفة هي المرأة ذات الثّوب الجديد عن بلدة “الرّاجين” إذ تساهم في الأحداث جنبا إلى جنب الرّجل، فكانت علاقتها مع “حامد” واضحة مبنيّة على المحبّة، ثمّ جاءت علاقتها مع “خالد الهلالي” المحامي: ” لكنّه كان الوحيد الّذي أحسّت في جواره أنّها امرأة و كان بينهما أروع ما يكون بين الرّجل و المرأة.” (17)
رغم أنّها ظلّت في الخفاء تماما كأنّه واقع كشفت أغواره المؤلّفة، ثمّ إنّ “ريم بنت الرّايس” كانت واعية بظروف الحرب و ساهمت في نشر السّلام إذ تقول في الرّواية: ” هذه الحروب تسحقني من الدّاخل، تشلّ يدي عن ممارسة كثير من طقوسي الجميلة.”(18)
و بما أنّها كانت الأمل المترع بالطّموح سافرت مع وفد لنشر السّلام فكان أن أهدت روحها لمصير مجهول؟، “كانت “ريم بنت الرّايس” قد سبقته إلى الطّائرة جسدا هامدا مشروخا بشظيّة من قذيفة مدفعيّة مجهولة المصدر ” خاطئة” حسب ما أوردت وكالات الأنباء”(19)
5-الثّقافة: رغم الإشارة إليها و المتمثّلة في الأصدقاء، إلّا أنّ الوضع يجعلها فاترة غائبة بلا معنى حيث الهزّات النّفسيّة للرّسّام “فؤاد” لردح من الزّمن، كذلك الأمر بالنّسبة للشّاعر “سامي الظّاهر” هو الأرق و المتاهة الّتي يتخبّط فيها كلّ مثقّف إزاء أيّ وضع ماᵎ
°الأسلوب:
“وداعا حمو رابي” رواية اجتماعيّة بدرجة كبيرة جاء الأسلوب غاية في الحبكة حيث تشدّك إلى الغوص في خباياها و قد اعتمدت الروائيّة لغة بسيطة سلسة تراوحت بين الوصف و السّرد و الحوار تخلّله استرجاع الأحداث أو الفلاش باك،
يبرز لنا مسرحة الرّواية عندما نتأمّل الحوار الافتراضي بين شخص حقيقي و شخص افتراضي، حيث نجد الطّرف الأوّل متغيّر و متنوّع بينما الطّرف الثّاني باق كما هو ألا و هو الذّاكرة.
في حين الطّرف الأوّل كان: الرّاوي و الدّكان و رزمة الصّحف و دفتر أبيض، كما كان الحمار و هنا يبرز لنا مليا تذمّر الحيوان و موقفه من معاملة الإنسان له، و كان الطّرف الأوّل جدران القاعة و المذياع و فرن الطّين، ثمّ عودة إلى الحوار الثّنائي العادي ( إنسان/ إنسان)
إنّ الطّرف الثّاني الثّابت ( الذّاكرة) يحملنا إلى القول بأنّ الذّاكرة هي البئر الّذي يحوي العديد من الأحداث و الآراء و الأفكار مهما اختلفت و تنوّعت. بيد أنّ هذه الذّاكرة قد غابت مع أواخر الأحداث عندما تأزّمت هذه الأخيرة و صار ” الدّمع يحدث الدّمع”.
لقد كانت الشّخوص أو الأطراف المتغيّرة إمّا جمادا ( رزمة صحف/ دفتر أبيض/ جدران/ طبل) أو حيوانا (حمارا) لها موقفا دلاليّا من حيث الحدث أو السّلوك الإنساني كما هو الحال عند تذمّر الطّبل أو الحمار.
الخاتمة:
هي ذات حالمة تضنيها آلام الآخر تلهبها الأسئلة حرقة و نحيبا: لماذا الحرب؟ أو لماذا العداء؟ تصرخ: “أريد أن أستمرّ” إرادة جامحة للبقاء رغم الحروب و الدّمار، رغم الضّياع و الألم تلو الألم… “أريد أن أستمرّ” إقرار الأديبة “مسعودة أبو بكر” “لن نتوقّف الآن، ” “فمن لا يحبّ صعود الجبال؟؟”
لذلك كان إصرار الأصدقاء على انجاز جريدة فذلك هو منهاج صائب لأنّ ” الصّحافة سلطة من السّلط تزلزل المراكز و تقوّض المؤسّسات، ترفع الوضعاء.”
الصّحافة رغم الخوف و العجز هي نواة الأمل المتجدّد في المستقبل فما أبشع مجتمع يستقيل مثقّفوه أو يهاجرون من أوطانهم إلى المنافي أو تبتاع عقولهم”.
“وداعا حمو رابي” رواية يمتزج فيها الحلم بالتّغيير مع أنّاة المجتمع العربي و معاناته اللّا متناهية رغم الدّعوة للصّبر في انتظار الصّباح:
” يا صاحبي كن صبّار/ اصبر على ما جرا لك
ارقد على الشّوك عريان/ حتّى يطلع نهارك.” (21)
رواية كتبت سنة 2004 في حقبة زمنيّة معيّنة حملت الرّوائيّة بين خباياها عدّة أسئلة مترعة ألما و أملا ترى هل عسى تحقّق منها الشيء الجميل؟

المصادر:
1-” الرّواية و الغرب” واقع الرّواية في العالم المعاصر –ترجمة محسن الرّملي.
2-” رواية وداعا حمو رابي” ص 62
3-” رواية وداعا حمو رابي” ص73
4-حفيظة قارة بيبان –ملحق الحريّة عدد 601/ 7 ديسمبر 2000
5-” رواية وداعا حمو رابي” ص38
6- الرّواية ص 42/ 7- الرّواية ص45 / 8- الرّواية ص 95
9-الرّواية ص67 / 10- الرّواية ص 91
11- منصور قيسومة
12- الرّواية ص 74/75 / 13-الرّواية ص46 / 14- الرّواية ص 59
15- الرّواية ص 36/ 16-الرّواية ص 89/ 17- الرّواية ص106
18-الرّواية ص 101/ 19-الرّواية ص 150/ 20-الرّواية ص 41
21-الرّواية ص 77

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى