ثقافة الهبل (2)

جميل السلحوت | القدس الشرقية – فلسطين

الجهل سبب كلّ المصائب

        عندما قامت داعش وأخواتها، أخرجت نصوصا دينيّة عن سياقها التّاريخيّ، وقامت بأعمال إجراميّة بحجّة تطبيق الشّريعة، منها: إعادة الرّق، استعباد غير المسلمين، واستباحة أموالهم وأعراضهم وهدم دور عبادتهم، وهذا ما فعلته مع الأزيديّين في العراق، وهم مواطنون عراقيّون يعيشون في بلادهم عبر التّاريخ، وتحت الحكم الاسلاميّ، وكذلك جرى الشّيء نفسه مع المواطنين المسيحيّين في العراق وسوريّا، فهدموا الكنائس، وتعدّوها إلى المقامات الإسلاميّة التّاريخيّة، وخيّروا المسيحيّين على “دخول الإسلام، أو دفع الجزية أو القتل”! ممّا أجبر مئات الآلاف منهم على ترك ديارهم واللجوء إلى أوروبّا وأمريكا طلبا للنّجاة.

        وتعدّت الجرائم ذلك إلى هدم حضارة شعوبهم، من خلال إحراق المكتبات، وهدم الآثار التّاريخيّة كآثار بابل، وقلعة النّمرود، ومدينة تدمر وغيرها، علما أنّ المقامات الدّينيّة الاسلاميّة أقيمت زمن دولة الخلافة، والتي بدورها أقرّت وحمت الآثار القديمة، وأبقتها كشاهد على حضارة الشّعوب، فهل دواعش هذا العصر أكثر حرصا على الإسلام من دولة الخلافة؟ وهل قرأ هؤلاء الجهلاء بأمور دينهم ودنياهم  تاريخ أمّتهم؟ وإن قرأوه هل فهموه؟ وإن فهموه هل اتّعظوا منه؟

إنّ هكذا أعمال تسيء للإسلام والمسلمين قبل غيرهم، وقد تمّ تشويههم أمام الرّأي العامّ العالميّ، الذي تجنّد لمعاداتهم.

 

الاستهبال الطائفيّ:

          للتّذكير فقط عندما انقلب الجيش العراقيّ في 14 تمّوز – يوليو-1958  على النّظام الملكي في العراق، قاد الانقلاب ضابطان، هما عبد الكريم قاسم، وعبد السّلام عارف، الأوّل سنّي والثّاني شيعيّ، وكلاهما شغل منصب رئيس الدّولة، ولم ينشر عن مذهبيهما، إلا بعد احتلال العراق وتدميرة في العام 2003، وهذا يعني أنّ الطّائفيّة بين “سنّيّ وشيعي” لم تكن معروفة في العراق الحديث، لكن أمريكا التي احتلّت العراق، وهدمت دولته، وضعت له دستورا طائفيّا، وجرى تغذية الطّائفيّة إعلاميّا وعمليّا في مؤسّسات الدّولة، فظهرت على السّاحة أحزاب دينيّة طائفيّة، وجرت تغذيتها من جهات أجنبيّة لتمزيق العراق الوطن، وتمزيق وحدة شعبه، وتبيّن أنّ المرجعيّات الدّينيّة تقدّم وتفضّل وتوالي المذهب الدّيني أكثر من ولائها للوطن! فالمرجعيّات الدّينيّة الشّيعيّة ومعتقداتها خصوصا ما يتعلّق “بولاية الفقيه” تخلّت هي والأحزاب التي تأتمر بإمرتها عن انتمائها القوميّ والوطنيّ، وسلّمت العراق ومقدّراته لإيران الشّيعيّة، فأصبح العراق مرتعا للحرس الثّوريّ الإيرانيّ، حتّى إنّ قائد الحرس الثّوريّ الإيرانيّ أعلن مفاخرا ومن قلب بغداد ” أنّ أربع عواصم عربيّة تخضع لإيران الآن”! وكان يقصد “بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء”، وعملت حكومة نور الدّين المالكي على تشكيل ما يسمّى مليشيات “الحشد الشّعبيّ”، وجرى تسليحها لمحاربة مواطنيهم العراقيّين السّنّة.

        وفي المقابل تسابق “علماء” السّنّة على تكفير الشّيعة، وإخراجهم من الاسلام، ودعوا إلى محاربتهم، وجرى تمويل أحزاب وتنظيمات وجماعات سنّيّة، لمحاربة مواطنيهم الشّيعة في العراق، والعلويّين في سوريّا، ووصل العداء السّنّي للشّيعة إلى “شيطنة” حزب الله اللبنانيّ، والوقوف ضدّه حتّى أثناء تصدّيه للغزو الاسرائيليّ للبنان في صيف العام 2006، ووجدنا سياسيّين وإعلاميّين ورجال دين يشنّعون في وصف زعيم حزب الله السّيّد حسن نصر الله، وينكرون عليه حتّى اسمه، فيذكرونه بحسن “نصر اللات”! ومعروف أنّ اللات هو أحد أصنام قريش قبل الإسلام.

        لكن في الحالات كلّها جرى استهبال الشّعوب من قبل المرجعيّات الشّيعيّة و”علماء” السّنّة، كي يتقاتل أبناء الشّعب الواحد، ويدمّروا أوطانهم، بدلا من محاربة المحتلّين.

       وحزب الله اللبنانيّ أيضا، وهو حزب مقاوم انخرط في الطّائفيّة، وبرّر تدخّله العسكريّ في سوريا بأنّه جاء “لحماية المقامات الدّينيّة الشّيعيّة” وفي مقدّمتها مقام السّيدة زينب في دمشق. وهو لا يتناقض مع الحكومات العراقيّة بعد احتلال العراق عام 2003؛ لأنّها شيعيّة، وهو يدعم الحوثيّين في اليمن وتمرّد الشّيعة في البحرين من منطلقات طائفيّة أيضا! وخدمة للأجندات الإيرانيّة.

        وتوالت تغذية الطّائفيّة بين “سنّي وشيعيّ” في الزّحف الحوثيّ على العاصمة اليمنيّة صنعاء، وإسقاط الحكومة اليمنيّة، وما تبع ذلك من حرب ما يسمّى “التّحالف العربيّ الإسلاميّ” بقيادة السّعودية على اليمن. علما أنّ الرّئيس اليمنيّ السّابق علي عبد الله صالح حكم اليمن منذ عام 1979 وحتّى 25 شباط- فبراير- 2012م، هو أيضا من الحوثيّين، وكان وحكومته أصدقاء لمن يشنّون الحرب على اليمن منذ 25 آذار 2015، فلماذا لم تثر قضيّة الحوثيّين وهم من الشّيعة الجعفريّة، في ذلك الوقت؟ ولماذا أثيرت لاحقا؟ ألا تقف خلف ذلك أجندات سياسيّة تتماشى وتغذية النّعرات بين “السّنّة والشّيعة” بعد طرح المشروع الأمريكي “مشروع الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم منطقة الشّرق الأوسط إلى دويلات طائفيّة متناحرة؟ وهل تنتبه التّيّارات الدّينيّة التي تشارك في إشعال نار الفتنة الطّائفية أنّها تنفذّ بدماء أتباعها وأنصارها مشروع التّقسيم الجديد؟ أم أنّ قياداتها تعلم ذلك جيّدا وتستهبل أتباعها؛ ليكونوا وقودا لهذا الاقتتال خدمة لأجندات أجنبيّة معاديّة؟

         ولتستمرّ الفتنة الطائفيّة في المنطقة العربيّة، جيء بالرّئيس التّركيّ الطّيّب أردوغان، وحزبه الدّينيّ – حزب العدالة- ليقف “كمسلم سنّيّ” بشكل وآخر في وجه التمدّد الشّيعي الإيرانيّ! فإيران التي تسعى كي تكون الدّولة الاقليميّة الأولى في المنطقة، خصوصا بعد تحييد دور مصر بوفاة زعيم الأمّة الرّئيس جمال عبد النّاصر في أيلول-سبتمبر- 1970، وتدمير العراق واحتلاله وإسقاط نظام الرّئيس صدّام حسين في آذار – مارس- 2003، ومع أنّ تركيّا عضو في حلف شمال الأطلسيّ – النّاتو- وحليف استراتيجيّ لإسرائيل. – وتركيّا كما هو معروف دولة علمانيّة منذ هدم الخلافة العثمانيّة عام 1924-، وينصّ دستورها العلمانيّ على أنّ الجيش هو من يحمي الدّستور، إلا أنّ الدّور المرسوم لأردوغان وأركان حكمه، سمح باجراء تعديلات على الدّستور؛ ليبقى الحكم للإسلام السّياسيّ الذي يمثّله أردوغان وحزبه، وليبدأ أردوغان باستهبال شعبه والشّعوب الإسلاميّة ومنهم العرب طبعا، ولقي ويلقى الدّعم من القيادة الدّوليّة لحركة الإخوان المسلمين، التي تنتظر منه “إعادة إقامة دولة الخلافة”، وحتّى حركة حماس الفلسطينيّة التي كانت تلقى الدّعم والتّأييد والتّسليح من النّظام السّوريّ وحليفته إيران، وكانت دمشق حاضنة لقيادة حماس في الخارج، انضمّت هي الأخرى لجوقة معاداة النّظام السّوريّ، وانتقلت قياداتها السّياسيّة في الخارج من دمشق إلى قطر. كما انطلى دور أردوغان المشبوه على حزب التّحرير الاسلاميّ، الذي شارك في الحرب “الكونيّة” على سوريا، واستهبل واستغلّ المسلمين؛ ليكونوا وقودا لها، ويبدو أنّ قيادة الحزب لها شكوكها بدور أردوغان، فأمسكت العصا القذرة من منتصفها، بأن سمحت لأعضاء الحزب “بالتّطوّع” للحرب في سوريا، فإن انتصرت “المعارضة” فإنّ الحزب سيعلن مشاركته الذّكيّة في تلك الحرب، وإن تمّ القضاء عليها، فستتفاخر قيادة حزب التّحرير أنّ الحزب لم يشارك في هذه الحرب! وبدأ دور أردوغان المرسوم له من “النّاتو” بالتّدخّل في الحرب على سوريّا، من خلال احتضان عناصر الإرهاب، وتدريبها وتسليحها وتمويلها، وتسهيل عبورها للأراضي السّوريّة والعراقيّة، بل إنّ تركيّا أردوغان كانت تشتري النّفط الذي تسرقه “داعش” وأخواتها من منابع النّفط العراقي والسّوري التي سيطرت عليها، وتسهّل مروره أيضا للتّصدير من موانئها.

            ويلاحظ أنّ الاستهبال الدّيني للرّعاع الذين خدعوا من قيادات الإسلام السّياسيّ، جرى تسويقه أيضا لتسهيل مهمّة أردوغان في القيام بدوره المرسوم له في تنفيذ مشروع “الشّرق الأوسط الجديد”، على اعتبار أنّ أردوغان “خليفة الإسلام السّنّي المنتظر”. وجرى ويجري الدّفاع عنه وتسويق سياساته على منابر مئات آلاف المساجد المنتشرة في العالمين العربيّ والاسلاميّ.   

        وإمعانا في الفتنة الطّائفيّة، فإنّ دولا عربيّة يزعم قادتها أنّهم حماة الإسلام والمسلمين، تقوم بالتّنسيق والتّعاون الأمني مع إسرائيل التي تحتلّ أراضي عربيّة ومنها أراضي دولة فلسطين العتيدة، وقد يتطوّر هذا التّنسيق إلى تحالفات عسكريّة مع إسرائيل “الجارة المؤمنة” لمحاربة إيران “الشّيعيّة الكافرة”!

الاستهبال القوميّ:

جاء في معجم المعاني الجامع

قوميّة:اسم مؤنَّث منسوب إلى قَوْم.

– صلة اجتماعيّة عاطفيّة تنْشأ من الاشتراك في الوطن واللغة ووحدة التّاريخ والأهداف.

السّياسة: مبدأ سياسيّ اجتماعيّ يُفضِّل معه صاحبه كلّ ما يتعلّق بأمّته على سواه ممّا يتعلّق بغيرها، أو هي الاعتقادُ السَّائد لدى الشَّعب في أنّه يشكّل جماعة متميِّزة ذات سمات خاصَّة تميِّزه عن الآخرين، مع توفّر الرَّغبة في حماية هذا التَّميُّز والارتقاء به ضمن حكومة ذاتيّة.

الثَّروة القوميَّة: ( الاقتصاد ) مجموعة القوى المنتجة في الدّولة.

القَوْميّة : صلة اجتماعيّة عاطفيّة تنشأ من الاشتراك في الوطن والجنس واللُّغة والمنافع، وقد تنتهي بالتّضامن والتّعاون إلى الوحدة.

قَوميّ: (اسم) اسم منسوب إلى قَوْم.

–  القوْمِيّ: من يؤْمن بوجوب معاونته لقومه ومساعدتهم على جلب المنفعة ودفع المضَرَّة.

  القوْمِيّ: الوطنيّ.

– فِكْرٌ قَوْمِيٌّ: فِكْرٌ يُمَجِّدُ القَوْمِيَّةَ وَيُدَافِعُ عَنْها.

– الدَّخْلُ  القَوْميّ: ( الاقتصاد ) جملةُ الأُجور والأرباح والفوائد والقيم لجميع السِّلع المنتجَة، والخدمات المقدّمة في سنة معيّنة لدولة ما، أو هو مجموع دخول الأفراد والهيئات في خلال مدَّة معيّنة تقدّر عادة بسنةٍ

وجاء في الموسوعة العربيّة حول مفهوم القوميّة:

“القوميّة nationalism مذهب سياسيّ قوامه إيثار المصالح القوميّة على كلّ شيء، ويظهر هذا الإيثار في منازع الأفراد، أو في منهج حزب سياسيّ، يناضل في سبيل قومه، ويدافع عنهم، ويعتزّ بهم، والقوميّة قوميّتان: ضيّقة وواسعة. الأولى تضع نفسها فوق كلّ شيء، وتتعصّب لجنسها أو دينها أو لغتها أو ثقافتها أو تاريخها تعصّبا أعمى؛ والثّانية تمدّ بصرها إلى العالم؛ للاقتباس منه أو للإسهام في تقدّمه الحضاريّ. وبين هذه القوميّة الواسعة والإنسانيّة الكاملة وحدة عميقة، إذ لايمكن للفرد أن ينمّي ذاته إلا داخل الإطار القوميّ، كما أنّه لايستطيع أن يكون مخلصا لقوميّته بحقّ إلا إذا عمل على توكيد إنسانيّته الكاملة .

وبهذا يعبّر مفهوم القوميّة عن حالة عقليّة لجماعة من البشر تؤلّف بينهم صلة اجتماعيّة عاطفيّة، تتولّد من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة والآمال والمصالح المشتركة، ويكون فيها ولاء الفرد للدّولة القوميّة واجبا أسمى.

      ويرادف هذا المفهوم للقوميّة مفهوم “الأمّة” nation  بوصفها تمثّل مجموع الخصائص المميّزة لوجود أمّة ما، وحركتها السّياسيّة والثّقافيّة، التي تجعلها مختلفة عن الأمم الأخرى، فلكلّ أمّة كيان متفرّد، يختلف عن سواه، لاختلاف اللغات والتّجارب التّاريخية. ولا تكتسب القوميّة إلا بالانتماء التّاريخي إلى أمّة معيّنة.

     وقد ترادف الجنسيّةnationality مفهوم القوميّة أيضا، حين تتّخذ صفة حقوقيّة تنشأ من الاشتراك في الوطن الواحد، أي الجنسيّة الأصليّة التي تكتسب بالانتساب إلى أمّة، أو إلى أقليّة قوميّة ملحقة بدولة قوميّة، وتقع ضمن حدودها الرّسميّة، كالقول: الجنسيّة الألمانيّة، والجنسيّة الفرنسيّة؛ أو حسب حقوق اكتساب الجنسيّة التي ينصّ عليها القانون في كلّ بلد، كالجنسيّة الأمريكيّة. وتغلب الجنسيّة في هذه الحالة على القوميّة، على الرّغم من تباين الأصول الإثنيّة للسّكان.

      ويؤخذ بمبدأ القوميّات أو الجنسيّات  principle of nationalities للدّلالة على وجوب اعتبار كلّ أمّة شخصا معنويّا، له الحقّ في الوجود والتّقدّم وفقا لطبيعته. ومن مستتبعات ذلك إقامة دولته الخاصّة. ليس هناك اتّفاق تامّ على الرّوابط والمقوّمات الأساسيّة لتكوين القوميّة، فساطع الحصري (1880ـ 1968)، ممثّل القوميّة العلمانيّة يرى أنّ الأساس في تكوين الأمّة وبناء القوميّة هو وحدة اللغة والتّاريخ (لا وحدة الأصل). لأنّ الوحدة في هذين الميدانين هي التي تؤدّي إلى وحدة المشاعر والمنازع ووحدة الآلام والآمال ووحدة الثّقافة، وبذلك تجعل النّاس يشعرون بأنّهم أمّة واحدة متميّزة عن الأمم الأخرى”. في حين يركز مفكّرون آخرون على العامل الاقتصاديّ المشترك، ويعطي بعضهم الآخر الأهمّيّة الأولى للعامل الدّينيّ، والأصل المشترك “الوحدة العرقيّة.”والإرادة المشتركة، وهذه العوامل ذاتها هي التي يعدّها الحصريّ عوامل ثانويّة، ليس لها تأثير مباشر في القومية.”

“فالدّين لايكوّن عاملا من عوامل الوجود القوميّ، فالقوميّة العربيّة مثلا لم تنتشر انتشار الإسلام، كما لم تقتصر اليهوديّة والنّصرانيّة على قوميّة واحدة. ولم يجعل قيام باكستان وإسرائيل الدّين عاملا أساسيّا في القوميّة، فما هو إلا استثناء للقاعدة له ما يبرّره. وهذا حسب قول الحصريّ “يفوّت على الأجانب سلاح اللعب بالطائفيّة، وعلى الصّهاينة اعتماد اليهوديّة أساسا للقوميّة”.

بين الدّولة القوميّة والدّينيّة

        هناك جدل كبير حول ما تسعى إليه وتنشده ثورات الرّبيع العربيّ، فهل هي تريد دولة قوميّة أم دولة دينيّة؟ ولكي نكون موضوعيّين في الإجابة على هذا السّؤال علينا أن نعود إلى الشّعوب نفسها بدون تنظير وبدون فلسفة الأمور، فالثّورات التي قامت بشكل عفويّ منطلقة في تونس في 17 كانون أوّل – ديسمبر- 2010 بعد إحراق الشّاب التّونسيّ محمّد بوعزيزي نفسه احتجاجا على صفعه من قبل امرأة شرطيّة، تؤكّد أنّ الشّعوب العربيّة متقدّمة على النّخب السّياسيّة والثّقافيّة، وأنّ هذه الشّعوب لم تعد تحتمل حكم الطّغاة الذي أخرج الأمّة من التّاريخ، وحصد هزائم ما عاد السّكوت عليها مقبولا، فثارت باحثة عن مكان يليق بها، تريد أن تحسّن أوضاعها في مختلف المجالات، وتريد الحرّيّة لأبنائها والمجد لأمّتها، ويبدو أنّ جماعات الإسلام السّياسيّ كانت أكثر تنظيما من غيرها من الأحزاب والقوى السّياسيّة الأخرى، فركبت موجة غضب الشّعوب الثّائرة، واعتلت سدّة الحكم، بانتخابات ديموقراطيّة، مستغلّة ضعف وانقسام القوى المنافسة، وخوف الشّعوب من عودة الأنظمة البائدة، فرفعت شعارات برّاقة مغلّفة بالدّين، وشرعت في سنّ قوانين لتأبيد تجيير السّلطة لها بشكل لا يقبل النّقض أو النّقد، غير عابئة بحقوق الأقليّات الدّينيّة والعرقيّة، ووجدتْ قوى عظمى – الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج- تتفاهم معها وتحاول احتواءها.

العرب كأمّة:

       لو استعرضنا القوميّات التي لا تزال بدون دولة واحدة موحّدة في العالم، لوجدنا أنّها: العرب، الأكراد، الكوريّون، والأمازيغ، والشّيشان، ولكلّ قوميّة من هذه القوميّات ظروفها الخاصّة التي تحول دون قيام دولتها الواحدة الموحّدة، ولو حصلت كلّ قوميّة منها على دولة واحدة حرّة مستقلّة، لساهم ذلك في استقرار العالم وبناء السّلم العالميّ. ودعونا هنا نأخذ العرب كنموذج، فتقسيم المشرق العربيّ “الهلال الخصيب” إلى دويلات جاء كنتاج للحرب العالميّة الأولى بناء على اتّفاقيّة سايكس بيكو عام 1916،” التي كانت اتفاقا وتفاهما سرّيّا بين فرنسا وبريطانيا، بمصادقة من الإمبراطوريّة الرّوسيّة على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا؛ لتحديد مناطق النّفوذ في غرب آسيا، بعد تهاوي الدّولة العثمانيّة، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالميّة الأولى.

       وتمّ الوصول إلى هذه الاتّفاقيّة بين نوفمبر من عام 1915 ومايو من عام 1916 بمفاوضات سرّيّة بين الدّبلوماسيّ الفرنسيّ فرانسوا جورج بيكو والبريطانيّ مارك سايكس، وكانت على صورة تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجيّة فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصريّة آنذاك. وقد تمّ الكشف عن الاتّفاق بوصول الشّيوعيين إلى سدّة الحكم في روسيا عام 1917، مما أثار الشّعوب التي تمسّها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا.”

       وسعي الدّول الاستعماريّة إلى تقاسم العالم العربيّ؛ لنهب ثرواته وخيراته، ولموقعه الاستراتيجيّ أيضا، ولترسيخ هذا التّقسيم جرت تغذية الاقليميّة بشكل واضح، حتّى أنّ جزءا كبيرا من الشّعوب لم يعد يدري أنّه جزء من الأمّة، وإمعانا في تأكيد هذا الفهم وجدنا بعض المروّجين له يتكلّم عن شعبه كأمّة يجب الحفاظ على خصوصيّتها! وما الحديث عن وحدة الأمّة العربيّة إلا نوع من التّرف الفكريّ والإعلاميّ! ووجدنا من يدعو إلى وحدة الأمّة بحقّ وحقيقة يُحارَب وكأنّه يعادي الشّعوب، بل وجدنا جماعات دينيّة تدعو في أدبيّاتها إلى اتّهام من يدعو إلى العروبة أو إلى الدّيموقراطيّة بالكفر والخروج عن تعاليم الدّين، وبالتّالي يجب محاربته بل وقتله، ووجدنا بعض الجماعات تدعو إلى بناء الدّولة الاسلاميّة وليس الدّينية، في محاولة منه لاسترضاء أو لإسكات الأقليّات الدّينية غير المسلمة، في حين أعلنت داعش دولتها الدّينيّة بقيادة أبي بكر البغداديّ. فهل هناك تناقض بين القومية والدّين؟ وهل مخاوف الأعداء من الدّولة الاسلاميّة أم من الدّولة القوميّة؟ ولماذا؟

 الدّولة القوميّة والدّولة الاسلاميّة:

          لم يعد خافيا على أحد تلك التّفاهمات بين الاسلام السّياسيّ وأمريكا ومن دار في فلكها، لا حبّا في تلك الجماعات، ولا حبّا في الإسلام، ولا تبعيّة من الاسلام السّياسيّ لأمريكا أيضا، وإنّما هي المصالح المشتركة وإن اختلفت في منطلقاتها وأهدافها، فالعالم الغربيّ بقيادة أمريكا كان يرى في الشّعوب الإسلاميّة “الدّرع الواقي من خطر الشّيوعيّة” قبل انهيار الاتّحاد السّوفييتي ومجموعة الدّول الاشتراكية في عام 1990، وبعد ذلك خرج علينا صموئيل هنينجتون رئيس مركز الدّراسات الاستراتيجيّة الأمريكية بـ”صراع الحضارات” الذي يرى فيه أن الخطر القادم على “الدّيموقراطيات الغربيّة” يتمثّل في الإسلام والمسلمين، وها هم يتفاهمون مع الإسلام السّياسيّ، بعد انهيار بعض الأنظمة الموالية لهم في ثورات الرّبيع العربيّ، كما حصل في تونس ومصر، فهل في هذا تناقض؟ وهل هي رغبة من أمريكا وحلفائها في بناء دولة إسلاميّة وإعادة دولة الخلافة؟ أم هي المصالح والنّظرة الاستراتيجيّة بعيدة النّظر؟ ولماذا لم توافق أمريكا وغيرها على بناء الدّولة القوميّة العربيّة؟ ولماذا تسعى إلى إعادة تقسيم العالم العربيّ إلى دويلات طائفيّة متناحرة؟ وللتّذكير فقد ذكر المفكّر الكبير محمد حسنين هيكل في مقابلة أجرتها معه الصحفيّة لميس الحديدي عام 2012 على فضائيّة الحياة المصريّة، أنّ دين راسك وزير خارجيّة أمريكا الأسبق تحدّث معه عام 1952 بعد ثورة 23 يوليو المصريّة عن رغبة أمريكا في وجود دولة اسلاميّة، ترتكز على الباكستان وتركيّا ومصر؛ لتكون مقابل حلف النّاتو في المنطقة، ولتقف في وجه خطر المدّ الشّيوعي!

      وللإجابة على هذه الأسئلة علينا أن نعي أنّ بناء إمبراطوريّة إسلاميّة تجمع الشّعوب الاسلاميّة كافّة هو خيال أكثر منه واقعا، وأنّه من المستحيل أن تلتقي مصالح شعوب ودول العالم الاسلاميّ على قاعدة دينيّة، لسبب بسيط هو أن الدّولة الدّينيّة لا تعترف بالقوميّات، بل تتناقض معها، وقد أجمع الباحثون والدّارسون العرب على أنّ أحد أسباب انهيار دولة الخلافة هو وصول غير العرب إلى سدّة الخلافة، وهذا ما أكّدوه سابقا على أسباب انهيار دولة الخلافة العبّاسيّة، كما أنّ أحد أسباب انهيار امبراطورية الاتّحاد السّوفييتي وتجزئته هو الظّلم اللاحق بالقوميّات الأخرى التي كانت جزءا منه.

      في حين أنّ امكانيّة توحيد العالم العربيّ أكثر منطقيّا وعقليّا ولأكثر من سبب يجمع الشّعوب العربيّة، يضاف إلى ذلك أنّ الفكر القوميّ لا يتناقض مع الدّين، فإحدى شعارات القوميّة العربيّة ” أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة” والمقصود هنا هو الدّين الإسلاميّ، والدّولة القوميّة قادرة على استيعاب الأقليّات القوميّة والدّينيّة فيها، من منطلقات أنّ “الدّين لله والوطن للجميع” وأنّ الثّقافة الإسلاميّة العربيّة هي ثقافة الشّعوب العربيّة بمسلميها ومسيحيّيها، والأقليّات القوميّة فيها، وأن الثّقافة القوميّة قادرة على استيعاب الثّقافات القوميّة الأخرى التي تعيش بين ظهرانيها، وقادرة على إعطائها حقوقها القوميّة، وإذا ما قامت الدّولة العربيّة الواحدة بمساحتها الهائلة “14 مليون كيلومتر مربّع”، وبثرواتها المختلفة، وبتعداد سكّانها، فإنّها ستصبح إمبراطوريّة كبيرة وقويّة، تستطيع الوقوف أمام أطماع الآخرين، وتستطيع إقامة تحالفات مع الدّول والشّعوب الإسلاميّة والصّديقة الأخرى، على أسس عدّة منها الدّين واللغة والتّاريخ المشترك، وستكون قادرة على ذلك كون اللغة العربيّة لغة القرآن، ومن هنا تنبع خطورة الدّولة العربيّة الواحدة على القوى الطّامعة في المنطقة، لذا فهي تبذل قصارى جهدها في منع تحقيقها، وخروجها الى أرض الواقع.

الأقلّيّات القوميّة في العالم العربيّ:

الأكراد: تشير الإحصاءات العالميّة العامّة أنّ عدد الأكراد في مناطق انتشارهم أكثر من 28 مليون نسمة، وغالبية الأكراد يعيشون في تركيا بنسبة 57%، وبعد ذلك تأتي إيران، والعراق في نسبٍ متقاربة من عدد الأكراد، والتي تصل إلى ما يُقارب 16%، أمّا النّسبة المتبقيّة من الأكراد، فتقسم ما بين سوريا، وباقي دول العالم. ويشكّل الأكراد نسبة ما بين 12-18% من سكان العراق البالغ حوالي 38 مليون نسمة. ويبلغ عدد الأكراد في سوريّا حوالي مليوني نسمة.

الأمازيج: يبلغ عدد الأمازيغ حول العالم 55 مليون نسمة، منهم 20 مليون في العالم العربيّ، موزّعين ما بين الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، حيث يمثلون حوالي 80% من سكان الجزائر والمغرب، و 60% من سكان تونس وليبيا.

التّركمان: وصل عددهم في العراق حوالي 350 ألفا، وفي سوريا قرابة الـ 150 ألفا، أمّا في الأردنّ فأعدادهم قليلة جدّا قد لا تتجاوز الـ 10 آلاف.

وهناك أقلّيات عرقيّة أخرى من أرمن وشركس وغيرهم، لكنّهم لا يشكّلون نسبة مئويّة.

        ونحن نسوق الأقلّيات العرقيّة والدّينيّة هنا لنتساءل: هل استغلّت الأنظمة والشّعوب العربيّة هذا التّنوّع العرقي والدّيني لمصلحة الشّعب والوطن؟

        في الهند والصّين واليابان مثلا مئات القوميّات واللغات، ومئات الدّيانات، وهم يعيشون في وئام وتآخ. والولايات المتّحدة الأمريكيّة الدّولة العظمى الأولى، شعبها مجموعات من المهاجرين من مختلف الأعراق والأجناس والألوان، ومن مختلف الدّيانات السّماويّة والوضعيّة والوثنيّة، ومنهم الملاحدة، لكنّهم يعيشون بوئام، يتحدّثون لغاتهم الأمّ، وغالبيّتهم يتحدّث الانجليزيّة أيضا، ويستطيعون بناء دور عبادتهم وممارسة طقوسهم الدّينيّة، وفتح مدارس خاصّة لهم يعلّمون فيها ويتعلّمون لغاتهم الأمّ، ومبادئ دياناتهم، وهذا حقّ يضمنه لهم الدّستور الأمريكيّ، ويحميه القضاء والسّلطة التّنفيذيّة، واستطاعوا أن يبنوا أقوى اقتصاد في العالم، وأقوى امبراطوريّة في أقلّ من 300 سنة.

      في حين غالبيّة الشّعوب العربيّة من عرق واحد، وديانة واحدة ويعيشون تناحرات واقتتال لا يمكن قبوله، أو السّكوت عليه.

     ومع ذلك فإنّ الأقلّيّات القوميّة والدّينيّة في العالم العربيّ، تعرّضت ولا تزال تتعرّض لاعتداءات غير مبرّرة من الأنظمة القوميّة، ومن أتباع الدّيانة الاسلاميّة المتشدّدين.

     فماذا كان يضير العراق وسوريّا مثلا لو سمحوا عبر تاريخ دولهم للأكراد أن يتعلّموا في مدارسهم بلغتهم الأمّ، وأن يحتفلوا بأعيادهم القوميّة كيفما يشاؤون، وأن يكونوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات؟ وكذلك الأمر بالنّسبة للأمازيج في ليبيا، والجزائر، وتونس، والمغرب، وموريتانيا؟ بالتّأكيد لو أنّهم فعلوا ذلك لما حصلت تمرّدات على أساس عرقيّ، كما حصل مع أكراد العراق، الذين تمّ تدمير المئات من قراهم، وقتل الآلاف منهم.

أليس في ذلك استهبال للشّعوب، وعواقبه وخيمة على الوطن والشّعب؟

المسيحيّون: هناك ملايين من أتباع الدّيانة المسيحيّة، يعيشون في الوطن العربيّ، وغالبيّتهم في مصر حيث يبلغ عدد الأقباط حوالي عشرة ملايين شخص، وقد تعرّضت الكنائس أكثر من مرّة إلى تفجيرات، أزهقت أرواح وجرحت الآلاف منهم على أيدي مسلمين متشدّدين في أكثر من دولة عربيّة كمصر، والعراق، وسوريّا وغيرها. وهناك قيود على بناء كنائس جديدة لهم أيضا.

فهل استطاعت الدّولة القوميّة الوطنيّة وأد الفتن الطّائفيّة؟ وهل تساءلنا عن الأسباب التي دعت ملايين المسيحيّين العرب إلى الهجرة من بلدانهم؟ وهل نعي عواقب ذلك؟ ولماذا يجري حجب وظائف في مؤسّسات الدّولة عن المسيحيّين؟

أليس في ذلك استهبال للشّعوب، وعواقبه وخيمة على الوطن والشّعب؟

والمسيحيّون المواطنون في الدّول العربيّة جزء من النّسيج الاجتماعيّ، لهم ما لاخوانهم المسلمين، وعليهم ما عليهم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى