منعطف ٢٠١١: هل يكتمل ؟
د. وليد سالم – سلوان – القدس- فلسطين
يمكن الحديث عن عام ٢٠١١م، بأنه شهد منعطفا في السياسة الفلسطينية، بدأت تتلمس من خلاله طريقها خارج اتفاقيات أوسلو بعد أن حسمت بأن التسوية السياسية للصراع على أساس حل الدولتين على حدود عام ١٩٦٧ هي مسألة مستحيلة في ضوء المواقف الإسرائيلية الرافضة، والمواقف الامريكية الداعمة لإسرائيل ، والمواقف الاوروبية المراوغة.
في ذلك العام صدرت شهادات عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بأن فلسطين قد بنت مؤسساتها ، وأصبحت جاهزة للاستقلال. ولكن في المقابل لم تكن جولات المبعوث الأمريكي جورج ميتشل قد أفضت إلى أي نتائج لتحقيق سلام يقوم على حل دولتين على حدود عام ١٩٦٧. وكانت محاولة ميتشل قد أعقبت محاولة أخرى بدأت مع عقد مؤتمر أنابوليس عام ٢٠٠٧، وتلاه مفاوضات بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي في عام ٢٠٠٨ أسفرت عن انطلاقة في قضايا مختلفة ، ولكنها لم تستكمل في ضوء شن حكومة اولمرت لحرب على غزة في نهاية عام ٢٠٠٨، اعقبها تغير الإدارة الامريكية في مطلع عام ٢٠٠٩ حيث انتقلت الرئاسة من جورج بوش إلى باراك أوباما.
في ضوء فشل المفاوضات التي أعقبت مؤتمر أنابوليس والتالية التي توسط فيها جورج ميتشيل ، اتخذت القيادة الفلسطينية عام ٢٠١١ قرارا بالانتقال الفعلي من حالة السلطة / الحكم الذاتي إلى حالة الدولة.
وكان هذا الانتقال قد تقرر على مستوى الإعلان عدة مرات في السابق بدءا من قرار المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام ١٩٨٨، ثم في مرات عديدة لاحقة، ولكن الانتقال الفعلي لتجسيد الدولة بدأ رسميا عام ٢٠١١.
تم ذلك بداية بالتوجه إلى مجلس الأمن الدولي في ذلك العام لاستحصال اعترافه بدولة فلسطين على حدود عام ١٩٦٧، وحين فشل مجلس الامن في منح هذا الاعتراف لدولة فلسطين، كان أن توجهت في العام التالي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على اعتراف بدولة فلسطين، تم من ١٣٨ دولة ارتفعت لاحقا إلى ١٤١ دولة ، كما حصلت فلسطين على مكانة عضوية مراقبة في الأمم المتحدة .
خلق هذا الاعتراف الدولي بدولة فلسطين تجسيدا لها كشخصية ومكانة قانونية دولية وذلك كموازن ومعوض عن غياب تجسيد الدولة على الأرض، لذا لا يجب استصغار أو التقليل من أهمية هذا التجسيد الدولي لدولة فلسطين رغم غيابها على الأرض، فرغم كل محاولات اسرائيل لمحو فلسطين ، فإنها تكرست في الخارطة الأممية للعالم كدولة معترف بها.
رافق خطوات التدويل في حينه تشكيل لجنة لاعداد دستور لدولة فلسطين، وهي غير اللجنة التي رئسها الدكتور نبيل شعث وكانت قد أنهت اعداد الدستور عام ٢٠٠٣، كما شكل المجلس الوطني لجنة جديدة لإعداد نظام لانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني.
وتلى ذلك توجهات فلسطينية للانضمام للمنظمات الدولية ، إلا أن هذه التوجهات قد تجمدت مؤقتا لدى اطلاق جولة مفاوضات فلسطينية إسرائيلية برعاية وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري في تموز ٢٠١٣ استمرت حتى نيسان ٢٠١٤.
وبعد فشل هذه المبادرة انطلقت فلسطين في حملتها للمشاركة في المنظمات الدولية والتحقت بعضوية الكثير منها ، كما التحقت بعضوية المحكمة الجنائية الدولية عام ٢٠١٥.
بعد تشكيل حكومة الدكتور محمد اشتية التي تولت مهامها في نيسان من عام ٢٠١٩، بدأ اتجاه جديد لتجسيد دولة فلسطين على الأرض تمثل في المساعي للانفكاك عن الاحتلال سياسيا واقتصاديا وامنيا، فكان قرار وقف التنسيق الامني، ووقف استيراد العجول من إسرائيل، والسعي لاستيراد النفط من العراق، ووقف استلام المقاصة رفضا لقيام اسرائيل باقتطاع مبلغ الرواتب التي تدفع لعائلات الاسرى، وهكذا.
جاءت هذه الخطوات ردا على سياسات الضم وتوسيع الاستيطان الاستعماري، وعلى صفقة القرن الداعمة لإسرائيل الكبرى التي جاءت بها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونقله للسفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ، ووقف دعم موازنة دولة فلسطين ، ووكالة الغوث، ومستشفيات القدس، وإغلاقه للقنصلية الامريكية في القدس ومكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
وفي أواخر عام ٢٠١٩ قررت فلسطين خطوة ثالثة لتجسيد دولة فلسطين على الأرض تمثلت في إقرار الذهاب إلى انتخابات شاملة لدولة فلسطين والمجلس الوطني الفلسطيني وفق التمثيل النسبي الكامل وذلك بعد أن وافقت حركة حماس عليه، وقد اصطدم القرار بامتناع اسرائيل عن اعطاء موافقة عليها كما اعلنت في كانون أول من عام ٢٠١٩.
بعدها توجهت القيادة الفلسطينية الى الاوروبيين والامم المتحدة طالبة منهم الضغط على إسرائيل للموافقة على إجراء الانتخابات الفلسطينية سيما في القدس ، فتحرك بهذا الاتجاه وزير خارجية ايرلندا سيمون كوفيني ، والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والمبعوث الدولي نيكولاي ملادينوف حيث طلبوا من اسرائيل في كانون ثاني ٢٠٢٠ السماح بالانتخابات الفلسطينية، فيما طلب الاتحاد الأوروبي رسميا من دولة فلسطين أن تصدر مرسوم الانتخابات اولا وذلك قبل قيامهم بأية خطوة اضافية للضغط على اسرائيل للموافقة على عقدها، وحينها هدد الاخ عزام الاحمد بالانتقال إلى عقد انتخابات لدولة فلسطين والمجلس الوطني دون موافقة اسرائيلية . وبعدها جاءت جائحة كورونا التي جمدت الانتخابات طوال عام ٢٠٢٠. وفي مطلع ٢٠٢١ قررت القيادة الفلسطينية الاستجابة للطلب الأوروبي من نهاية عام ٢٠١٩ باصدار مرسوم الانتخابات اولا، وبعده تحركت اوروبا مجددا نحو اسرائيل للحصول على موافقتها لعقد الانتخابات الفلسطينية وعدم عرقلتها سيما في القدس الشرقية ، وكما كان متوقعا فقد رفضت اسرائيل اجراء الانتخابات في القدس الشرقية، وترتب عن ذلك قرار القيادة الفلسطينية تأجيلها في اجتماعها يوم ٣٠ نيسان ٢٠٢١.
تمثل المراحل الثلاث المطروحة أعلاه مكونات المنعطف الذي بدأ تنفيذه عام ٢٠١١. في المرحلة الأولى نجحنا في تحقيق وتجسيد دولة فلسطين كشخصية قانونية على المستوى الدولي، ولكن بدون اعتراف الولايات المتحدة وأوروبا (ما عدا السويد والفاتيكان اللتين اعترفتا بفلسطين ) المؤثرين، حيث لا زالا يشترطان أن تحقق الدولة الفلسطينية يجب أن يترتب عن مفاوضات ناجحة مع إسرائيل مما يبقي إقامة دولة فلسطين مرهونا بالفيتو الإسرائيلي عليها.
وفي المرحلة الثانية لم ننجح في الانفكاك عن اسرائيل و اضطررنا للعودة للتنسيق الأمني واستيراد المنتجات الاسرائيلية، مما عنى العودة إلى مربع الاتفاقات الانتقالية السابقة التي أردنا تجاوزها من خلال تجسيد دولة فلسطين على الأرض. كما أننا فشلنا في إجراء الانتخابات لدولة فلسطين بدون موافقة إسرائيل كما دعا لذلك الاخ عزام الاحمد في كانون ثاني من عام ٢٠٢٠.
يعني ما تقدم أن هنالك منعطفا قد بدء منذ عام ٢٠١١نحو تجسيد الدولة والاستقلال الوطني لها على حدود عام ١٩٦٧، ولكن العرض اعلاه يشير إلى نجاحنا في تكريس هذه الدولة ككيان دولي معترف به قانونيا وامميا، يقابل ذلك فشلنا في تجسيدها على الأرض بسبب عوامل قسرية خارجية من اسرائيل والغرب ومواقف العالم العربي ودول التطبيع الجديدة، ولكن أيضا بسبب عوامل داخلية ذات علاقة بالتفتت الفلسطيني وغياب تنظيم الفعل الفلسطيني الموحد بأوجهه الستة: الدبلوماسية السياسية ، و الكفاحية الميدانية ، والاقتصادية والتنموية، والقانونية ، والإعلامية، والمعرفية . هذه المكونات الستة للكفاح الفلسطيني قائمة وموجودة، ولكنها لا تتم في إطار متناغم تشارك به كل وحدات الشعب الفلسطيني الرسمية والشعبية في الوطن والخارج وبقيادة المايسترو الممثل في منظمة التحرير الفلسطينية المعاد تفعيلها.
لم تعالج المداخلة اعلاه أسباب النجاح وأسباب الإخفاق في استكمال المنعطف الذي بدأ عام ٢٠١١، فذلك مكانه دراسة شاملة ، كما أنه يحتاج إلى حوار وطني شامل. وما يمكن قوله بإيجاز الآن هو أن وضعنا اليوم ليس على ما يرام ، فالاعتراف الدولي الواسع بفلسطين لا زال يترافق مع تآكل هذه الدولة على الارض يوما بعد يوم . في المقابل فإن وضعنا الاستراتيجي واعد إذا ما احسنا استثمار الأوراق التي بأيدينا وفي مقدمتها أن شعبنا لم ينهزم وأنه بات يمثل الغالبية في أرض الوطن، وأن التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية في تصاعد ، وأن تصديق العالم لادعاءات اسرائيل لم يعد قائما وصارت تصدر تقارير تتهمها بممارسة الابارتهايد والاستيطان الاستعماري وممارسات الاقتلاع والترحيل ، وأن السياسة الإسرائيلية وحقلها السياسي بدأ يشهد حالة تفكك ربما تتعزز مستقبلا إذا ما أحسنا فعلنا في تطوير مكونات المقاومة الستة أعلاه.
من المناسب أيضا التمعن بعقل بارد في دروس النجاح والإخفاق لحملة انتخابات ٢٠٢١ للتمهيد والاستفادة منها من أجل الانطلاق من جديد .
سيكون ذلك حتما ممكنا بعد أن تهدأ وطأة المساجلات القائمة بشأنها الحاوية لآراء مطلقة متناقضة، فيما يفترض التواضع طرح الآراء على قاعدة الحوار المعروفة وهي أن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، فرأيي خطأ يحتمل الصواب ، ورأيك صواب يحتمل الخطأ ، وهو ما تؤكده حكمة فيلسوفنا إبن رشد حين كتب : ” ومن العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه ، أعني أن يجهد نفسه في طلب الحجج لخصومه كما يجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه ، وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه “. على هذه القاعدة اقترح أن نكتب وتتحاور، بديلا عن التزمت والتعصب والمواقف المسبقة والتخوين بدون دليل وعقلية الاستثناء والإقصاء وتسجيل المواقف ، وحينها سننجح في إيجاد مخارج لشعبنا.