المحطّة الأخيرة
هند يوسف خضر | سورية
غبار كثيف يأكل من شوارع الصّدر العاري المستسلم لغطرسة الأيّام،لحن شجيّ ينبعث من ثقوب الرّوح ويخترق صدى المسافات، ضجيج الصّمت يقضم أظافر النّهار المتعب من مساحة التّأمّلات،ابتسامة صفراء تلمع فوق شفاه الغياب..
هذا هو حال قيس فيما مضى قبل وصوله إلى محطّة الانتظار الأخيرة باحثاً عن الحبّ في مدن أخرى حين أطلّت عليه أنثى مشرقة الوجه،ناعمة الملمس كبشرة رضيع،تشبه شجرة الميلاد المضيئة،ترتسم على شفتيها بسمة فيها غواية لمتسكّعي الحبّ،(من الواضح أنّ زمن الانتظار قد ولّى على يد هذه المرأة)
هذا ما قاله قيس لنفسه،اقترب منها شيئاً فشيئاً ،وقع بصره على قلادة كانت تضعها حول عنقها تحمل اسمها..
قيس: اسمك جميل جدّاً (ندى)
ندى: وكيف عرفت اسمي ؟
قيس يجيب ضاحكاً :وهل غاب عن ذهنك أنّك تضعين قلادة تحمل اسمك؟
ابتسمت ندى ابتسامة خفيفة وسألته عن اسمه ..
لحظة هدوء سيطرت على الموقف لدقائق معدودة شردا ببعضهما بعينين مفتوحتين ملأهما الذّهول،تحتهما تتوضّع كدمات زرقاء من صنع رحى الخيبات
ندى :ما الّذي أتى بك إلى هذا المكان؟
قيس: ذات نهار رسمت حلماً بنفسجيّاً على حدود أيّامي، على غفلة من عمري تاه منّي بين زحام السّنين ،لم أستسلم وخرجت لأبحث عنه فوجدت نفسي هنا
ندى:وهل وجدتّه؟
قيس: هل تسخرين منّي إن قلت لك لم أتوقّع أن أجده أبداً، شعرت لفترة من الفترات بفوات الأوان، الآن وبعد أن رأيتك شعرت معك بأنّك حلمي العتيق،لقد هطلت كالمطر على حقول صدري العطشى
تلوّنت وجنتيّ ندى بلون الخجل ،سرحت قليلاً بكلامه ثمّ قالت: سنلتقي مجدّداً في نفس المحطّة
لقاء آخر بعد أن اختبرت ندى مشاعرها وأدركت أنّ شعور الوقوع في الغرام لا يمكن أن يخفيه المرء بل من المتوقّع أن يُفقده صوابه
قيس:منذ التقيتك وأنا على يقين بأنّك ستأتين مرّة أخرى
ندى:وعدتّك لأنّني شعرت أنّ ثمّة شيء ما سُرِق من بين ضلوعي عندما لمحتك
قيس:تغيّر مجرى حياتي، أصبح لها لوناً وطعماً فريداً، حتّى الصّباح بتّ أرتشف نداه المنسكب من سحر إشراقتك، وماذا أخبرك عن الّليل الّذي هزمتِ فيه ضوء القمر ، تجاوزت معك كلّ القوانين وغرقت في بحر هذيانك
ندى: عبرتَ أبواب قلبي الموصودة في وجه الهيام منذ زمن،سافرتُ معك على بساط الأمان-الشّعور الأكثر قداسة من الحبّ- وأعتقد أنّ هذا الزّاد يكفيني لأقتات عليه حتّى النّهاية،أوقفتَ صراخ خصلات شعري المشاكسة فنامت بهدوء على إيقاع ذاك الجرس الموسيقيّ في صوتك..
تابعت ندى :هل تعرف من يحبّ الثّاني أكثر؟
قيس: بالتّأكيد أنت فالمرأة بطبيعتها تعطي بلا حدود وتهب روحها عندما تصاب بحمّى العشق و يجتاحها الشّوق
بعد عناء كبير عثر قيس على حلمه في المحطّة الأخيرة، التقى بأنثى على مقاس مزاجه، تبادلا جنون الهوى حدّ الإدمان، أودعت بين يديه أغلى ما تملك ويبقى السّؤال إن غابت قطرة النّدى عن صباحات قيس هل ستشرق شمس الحبّ في سماء قلبه من جديد؟